المحتوى الرئيسى

الانتماء.. ركن الدائرة المفقود|"متى يعود"؟ (1)

03/14 18:13

في دائرة ندور، لا نجد لها ركناً فيه نستريح، ولا نلتقط الأنفاس، كلما اقتربنا اكتشفنا أننا ما زلنا بعيدين، نبحث في الخارج عن شيء، نفتقده في الداخل، ندور حول المحور، ونبحث عنه، ربما لا نراه؛ لأننا في التيه بعيدون عنه، متى نعود؟

الانتماء: يمكنني أن أعرّفه بأنه صورة أولى عن الحياة، تنمو بداخل الواحد منا، حتى تصير هي الصورة المحيطة بالعقل والوجدان، وتصير هي سبب الفكر ومنتهاه ومنبعه، وكل تفكير يكون منها وإليها؛ فهي فكرة عظيمة تحتاج إلى قلوب تحملها.

كنت طفلاً في الرابعة وبضعة أشهر، تلميذاً في إحدى المدارس الخاصة، نشأت في هذه المدرسة، ويفترض أن جذور الانتماء غُرست في تكويني بتلك المدرسة، ولكن حقيقةً لا أذكر ذلك أبداً، لا أذكر أني كنت منتمياً وقتها لشيء، سوى للحلوى و"الكراتيه" وهو علامة مشهورة لكل أطفال جيلي، ولكن بالتأكيد هناك شيء ما قد غرس بداخلي في هذا الوقت، حتى وإن كنت لا أدركه ولكنه يوماً ما سينمو ليصير طريقاً وهادياً لي في حياتي.

أنا مرةً أخرى في نفس المدرسة، ولكن في المرحلة الابتدائية، دائرة انتمائي الصغرى كانت للفصل والأصغر كانت لمدرّستَي الفصل "عزيزة ووفاء" هكذا بدأت أفهم الانتماء، أنا أنتمي لمن أتعلم منهم، ولمن أضحك وألعب معهم، أنا أنتمي لهذا الكيان الممل.

في الصف الإعدادي يفترض أني قد أصبحت طفلاً كبيراً نوعاً ما حتى أتفهم معاني الوطنية وأرسخ في ذهني صورة للرئيس الهمام "مبارك" معلقة في كل الفصول إلى جانب النشيد الوطني الصباحي.

هنا توسعت دائرة انتماءاتي قليلاً على الرغم من قلة الاستيعاب، فأنا أنتمي للأستاذ "خالد" مدرس الفصل، الذي كان بمثابة الأب الروحي لنا، وأنتمي لفصلي، وقد كنا فقط فصلَين، وعلى الرغم من أننا كنا زملاء، فإن تلك الآفة العنصرية بداخلنا كانت تدفعنا لمعارك بين الفصلين على ساندوتش على سبيل المثال وبدأت أسمع كلمة "إسرائيل".

في المرحلة الثانوية، كانت خيبة أملي كبيرة، فقد انبريتُ من دائرة انتماءاتي السابقة، لأدخل مدرسة جديدة للكبار، في وقت كنت أبدو في السادسة من العمر، ضئيل الحجم، طفولي الوجه في تلك المدرسة العسكرية الضخمة بمجتمعها المتنوع.

الآن أرى الضباط والجنود داخل المدرسة؛ لأنها مدرسة عسكرية، تجده يقف هو ورجاله بجوار العلم في الصباح ويردد أحدهم "صفاااااااا.. انتباه"، لتجد كل الشباب المتحمس، الذي قد شمر عن ساعديه في لمحة تعبر عن الاستعداد والقوة، فنحن الآن "عسكر"، ولسنا طلاباً، ويبدأ العسكري المفوه إن وجد أو الضابط في بث روح الوطنية بالصياح فينا، ونبدأ في الطبل وغناء النشيد الوطني "بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي" وطبعاً جميعاً كنا معجبين بتلك الأمور، كلنا محاربون كلنا رجال كلنا أولاد مصر وأولاد جيش مصر، كلنا سنموت من أجلها؟!

وبعد فترة تحولت العسكرية إلى صياح صباحي فقط، كما هي حياتنا فقد فرّغ كل شيء من مضمونه ولم يتبقّ لنا سوى شعارات.

مرحلة التقديم في الكليات العسكرية، هي مرحلة حاسمة في حياة كل شاب مصري، فبمجرد انتهاء المرحلة الثانوية يبدأ الجميع في الذهاب للتدريب في بعض المراكز استعداداً لنيل شرف ارتداء البدلة العسكرية، طبعاً ينتهي المطاف بالجميع بحالة من الإحباط لعدم قبوله، وتظل ذكرى تطارده لعدة سنوات.

أما أنا فلم أتقدم إلى أي من تلك الكليات فقد كنت كسولاً نوعاً ما، ومدركاً لحقيقة أني وعلى كل حال لن أقبل، فاكتفيت بسماع بطولات الأصدقاء، حيث يثبت لك في النهاية أن الجميع كان قاب قوسين أو أدنى من القبول، ولكن أزمة "ابن الباشا" حالت بينه وبين تحقيق مراده، الكثير من هؤلاء أدرك الآن أنه لم يكن سيئ الحظ لعدم قبوله.

المرحلة الجامعية، لم أكن أنتمي تماماً للجامعة حتى اليوم الذي خرجت منها، ولم أنتمِ للكلية ولا المدرج ولم أنتمِ لشيء، ولكن حقيقةً كان ذهني شارداً بالبحث عن الجنس الآخر والملابس المناسبة للجامعة، ولكن طبعاً كانت تتخللنا في الجامعة لحظات من الوطنية عندما نتحدث عن مصر وإسرائيل.

أحياناً كنا نتبارى بعبارات نارية هي أصلاً كلها منقولة من التلفاز، الجيش المصري دخل بطائراته إلى عمق إسرائيل ورفض أن يبيدها، خسرنا حرب 1948 بسبب الأسلحة الفاسدة! نكسة 1967 كان سببها عبد الحكيم عامر! كنا على أتم الاستعداد لغزو العالم وقهر إسرائيل، ولكن لا أعرف السبب، ولا أعرف لماذا، كل ما أعرفه أني كنت مشحوناً بتلك الشحنات العظيمة من الوطنية، وتقديس الجيش المصري، والخوف من الداخلية وأمن الدولة، على الرغم من أني لم يكن لي علاقة بهم ولا بأي نشاط سواء كان سياسياً أو اجتماعياً، كنت أتفه ما يمكن أن يكونه الإنسان.

أذكر أني كنت قد قرأت ذات يوم أن الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه قد سجد لله شكراً عقب نكسة 1967، وتعجبت وقتها، كيف يفعل ذلك، هل هو خائن؟ وقد كان مبرره وقتها أنه خشي أن يقال إن الشيوعية انتصرت، ماذا يقول هذا الرجل، الوطني وطني، له طريق واحد لا يغيره، إما أن تكون وطنياً في كل الأحوال وتحارب إسرائيل و"تصادقها" إن تطلب الأمر، حتى إنك قد تحارب معها أيضاً، أو إنك خائن غير وطني هذا ما أعرفه، وكأنما نخير بين خيارين، إما أن تكون خائناً أو حماراً تحمل أثقالاً، وتسير في طريق مرسوم.

يوم 26 يناير/كانون الثاني 2011 أنا في معسكر الجبل الأحمر للأمن المركزي، بعد أن تم القبض عليّ من ميدان التحرير الساعة الثالثة والنصف عصر يوم الأربعاء إثر مظاهرة بلا متظاهرين سوى مجموعة قليلة وبضعة آلاف من الأمن المركزي.

هذا الوطني الصغير المختل بداخلي والذي كان يعاني من لحظات تشوش هو من دفعني لأكون واحداً من هؤلاء المتظاهرين، كنت وقتها في السنة الرابعة من الجامعة وكان هذا اليوم التالي مباشرة لانتهاء امتحانات الفصل الدراسي الأول، لا أعرف تحديداً كيف تحولت من شخص تافه جداً إلى هذا الحال ولكن يبدو أنها الفطرة الإنسانية الطبيعية قد تفوقت على تفاهتي.

ولكن يجب أن أذكر أنه قد تخلل ذلك في السنة الثالثة والرابعة من الكلية، جلسات بيني وبين أصدقائي بدأنا نتأمل فيها وضع المرور وفكرة أن النظام لم يتغير منذ عشرات السنين، وأن هناك أمراً خاطئاً، وكنا وقتها قد بدأنا الاتفاق على تشكيل تنظيم سرّي هدفه إسقاط نظام الحكم، واتفقنا على إزالة جزء من النظام واستبداله بجزء آخر ومن ثم إزالة الجزء الذي لم يزل واستبداله حتى لا تسقط الدولة! تفكير ساذج ذلك الآن، ولكن هكذا كنت أفكر.

وصل الأمر قمة تطوره عندما قام السيد البريء "أحمد عز" بالمساهمة في واحدة من أعظم عمليات التزوير في انتخابات مجلس الشعب 2010 تزامناً مع ظهور صور "جمال مبارك" في الشوارع كرئيس قادم، ولم أنسَ أني وقتها كنت أخشى النظر على اللافتات المعلقة في الشوارع باللون "البرتقالي" الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين؛ لأني كنت أعي أني مراقب من أمن الدولة طوال الوقت.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل