المحتوى الرئيسى

تركيا وأوروبا.. استيقاظ الذاكرة والصراع الخفي

03/14 19:25

بعد أكثر من نصف قرن من الانتظار التركي على أبواب العضوية الأوروبية، تجد أنقرة نفسها في أزمة عميقة مع عواصم أوروبا؛ إذ على وقع تراكم الخلافات وتفجرّها استحضرت الذاكرة التاريخية تلك العلاقة الدموية بين الجانبين.

فمن وحي ذاكرة فيينا وقضية اللاجئين ثمة اعتقاد أوروبي بأن تركيا تزحف نحو دولهم وفق مخططات مدروسة، بينما ترى الأخيرة أن الماضي الاستعماري الأوروبي ما زال حاضرا بقوة، وأن للنازية والفاشية أحفادا في أوروبا لا يتوقفون عن السعي لاستهداف تركيا بل وتقسيمها.

وهكذا يبدو التاريخ ساكنا في علاقات الجانبين مع تفجر كل أزمة بينهما، ولعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الأزمة الحالية هي أزمة طارئة أم أنها تعكس افتراقا حقيقيا في الخيارات؟

في معرض رده على منع العديد من الدول الأوروبية إقامة فعاليات مؤيدة للاستفتاء على تعديلات دستورية في تركيا سيُجرى منتصف الشهر المقبل، ومنع مسؤولين أتراك من زيارة هذه الدول لتنظيم حملات داعمة للاستفتاء؛ قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة إن "هؤلاء هم فلول النازية هؤلاء هم الفاشيون"، وكان كلامه موجها بشكل أساسي إلى المسؤولين الألمان والهولنديين.

وإذا كان المسؤولون الألمان حرصوا على عدم التصعيد؛ فإن نظراءهم الهولنديين -وعلى رأسهم رئيس الوزراء مارك روتي- مارسوا تصعيدا سياسيا أخذ طابعا أيديولوجياً يعكس طبيعة الرؤية الأوروبية للعلاقة مع تركيا.

ففي رسالة موجهة للأتراك؛ تجاوز روتي طبيعة الخلاف الحالي مع تركيا ليطرح إشكالية العلاقة بها عندما خاطب الأتراك قائلا: "إن حكومتكم تقوم بخداعكم بجعلكم تصدقون أنكم ستكونون عضوا في الاتحاد الأوروبي يوما، انسوا هذا، أنتم لستم ولن تكونوا أوروبيين أبدا... دولة إسلامية مثل تركيا لا يمكن أن تكون جزءا من أوروبا، تركيا صوتت لأردوغان الإسلامي الخطِر الذي يحمل راية الإسلام، ونحن لا نريد إسلاما أكثر بل نريد أن نقلل منه".

هذه التصريحات النارية المتبادلة لا تعكس فقط حقيقة طبيعة الصراع الخفي بينهما، وإنما تُبرز تعاظم مخاوف الطرفين في ظل المتغيرات الداخلية التي يشهدها كل طرف وصعود النزعات الشعبوية، ولاسيما بعد صعود دونالد ترمب إلى سدة الحكم في واشنطن، وتداعيات هذا الصعود لجهة انبثاق تيارات شعبوية متطرفة باتت محط أنظار المتطلعين إلى الفوز بالانتخابات.

فعلى الجانب الأوروبي، ثمة تعاظم للإسلاموفوبيا وكره للأجانب بشكل عام وغضب من زيادة أعداد اللاجئين، ومخاوف من ارتباط الجاليات المسلمة بأحزاب وأيديولوجيات في بلدانها الأصلية أكثر من الولاء لدولها الجديدة.

وفي زحمة هذا المشهد المحفوف بالخوف والحذر، ثمة ترويج في الإعلام الأوروبي والغربي عموما لفكرة أن أردوغان ليس سوى إسلامي خطِر، يتطلع إلى أن يكون سلطانا مستبدا يؤسس لدولة عثمانية جديدة. ولعل مثل هذه الصورة كافية لاستيقاظ الذاكرة التاريخية لدى الأوروبيين، وتوظيف هذه الصورة في الحملات الانتخابية بحثا عن الشعبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

وفي المقابل، فإن أردوغان يعرف كيف يستغل كل خلاف مع خصومه في الداخل والخارج، ليجعل من الأمر معادلة تصب في صندوق الاقتراع لصالحه. فهو عندما يذهب إلى التصعيد مع الأوروبيين ويصفهم بأحفاد النازية والفاشية يعرف كيف يوجه البوصلة؛ إذ يضع الأوروبيين -من جهة- أمام تلك الحقيقة الأيديولوجية في تاريخهم والتي لا يستطيعون الدفاع عنها.

ومن جهة ثانية يُجبر معارضيه وخصومه في الداخل على الوقوف معه في معركته، وبالتالي التصويت لصالحه في صندوق الاستفتاء أو الانتخاب. وعليه فقد انتهج أردوغان لهجة ندية قوية إزاء الممارسات والمواقف الأوروبية بعيدا عن أسلوب تقديم التنازلات ودبلوماسية المجاملات، ما دام يخوض معركة مصيرية تخص مستقبل نظامه السياسي.

باستثناء دعوة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى التهدئة؛ فإن الدول الأوروبية وقفت موقفا موَّحدا في الأزمة مع تركيا، وكأن الذاكرة الجمعية والبعد الحضاري والخوف المشترك أصبحت عوامل مشتركة تشكّل محددات المواقف الأوروبية من الأزمة مع تركيا، وليست المصالح الاقتصادية والعلاقات السياسية والاتفاقيات الثنائية والدولية.

أي أن التصعيد الجاري يعكس طبيعة صعود التيارات الأيديولوجية المتطرفة انطلاقا من أرضية تاريخية للعلاقة، ولعل فوبيا العثمانيين الساكن في المخيال الجمعي الأوروبي -الذي لن ينسى اقتحام السلطان سليمان القانوني فيينا- يشكل أبرز دلالات الموقف الأوروبي.

إن هذا المخيال بات يرى في أردوغان وسياسته وتطلعاته محاولة تركية لاستعادة علاقة تقف على إرث دموي منذ سقوط القسطنطينية عام 1453م، حيث شكل هذا السقوط خسارة عقائدية للأوروبيين الذين كانوا يعتقدون أن المدينة حصن لمنع انتشار الإسلام في بقية أوروبا، وانطلاقا من هذه الرؤية التاريخية المركّبة فإن البنيان الحضاري الأوروبي ظل مسكونا بالخوف من الإسلام.

واليوم -ومع صعود الجماعات المسلحة كتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية- وقيامها بتفجيرات داخل مدن أوروبية؛ ارتفعت حساسية الأوروبيين إزاء كل ما هو إسلامي، وبات الشك هو سيد الموقف حتى تجاه المواطنين الأوروبيين من أصل مسلم، حيث يوجد ملايين الأتراك في أوروبا، فمثلا تقول التقارير إن هناك قرابة ثلاثة ملايين ونصف مليون تركي بألمانيا وحدها.

وبالتالي فإن هذه الخلفية التاريخية والسياسية تشكل خزانا حقيقيا لصعود نزعات التطرف والشعبوية، وهي نزعات تستحضر الأيديولوجيات الشمولية -مثل النازية والفاشية- التي شكلت عاملا في شن العديد من الحروب، وهو ما يدفع بأردوغان إلى القول إن النزعة النازية والفاشية كانت نائمة وقد استيقظت اليوم.

ولعل كلمات أردوغان هذه كافية لشحن نفوس الأوروبيين ضده وشيطنته، فقد نشرت مجلة "شترن" الألمانية -في عددها الأخير- صورة لأردوغان تحت عنوان "المبتز"، وشبهته بالشيطان جاعلة "الهلال" الموجود في علم تركيا قرونا فوق رأسه. وخلال الانقلاب العسكري التركي الفاشل نشرت نفس المجلة مادة أثارت الكثير من الجدل تحت عنوان: "هل يقف أردوغان نفسه وراء الانقلاب؟".

بل إن العديد من المسؤولين الأوروبيين ذهبوا إلى وصف تصريحات أردوغان بـ"المجنونة"، إذ إن استحضاره للإرث النازي يجعل حساسية المسؤول الأوروبي في ذروتها، ويدفعه لإطلاق تصريحات مماثلة تستحضر الماضي العثماني أو تزيد منسوب الإسلاموفوبيا، وهكذا ينتصر البعد العقائدي على المصالح الحيوية المتبادلة، وتطغى العنصرية على السلوكيات والممارسات تجاه الطرف الآخر.

وفي ظل ما سبق؛ يحرص السياسي الأوروبي هذه الأيام على المواءمة بين برنامجه السياسي والتيارات الشعبوية الصاعدة، ما دام هدفه الأول هو الفوز حتى ولو كان الثمن شطب نصف قرن من السعي التركي إلى العضوية الأوروبية، وكل ما فعله أتاتورك تحت عنوان العصرنة والتحديث والعلمانية.

فالثابت هو أن أوروبا باتت ترى أن نظرية الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال -التي ضمّنها كتابه "تركيا في أوروبا وأوروبا في تركيا" (الصادر 1988)- لم تعد صالحة في عهد أردوغان، لأن الأخير بالنسبة لهم ليس سوى سلطان عثماني يريد إعادة أمجاد أجداده من السلاطين، وهو ما لن تقبل به أوروبا، خاصة أن مثل هذا الأمر يخفّف عنها اتهامات أردوغان لها بالنازية والفاشية.

لعل السؤال الأسـاسي الذي يطرح نفسه وسط هذه الأزمة المستعرة هو: هل التصعيد الجاري مرتبط بالاستحقاقات الداخلية وسينتهي بانتهائها أم أنه يعبّر عن وصول العلاقات التركية/الأوروبية إلى مرحلة مغايرة لما سبق؟

في الواقع، منذ الانقلاب التركي الفاشل تبدو العلاقات التركية/الأوروبية وكأنها أمام سلسلة من التراكمات الكفيلة بتأزيمها، إذ سرعان ما تأخذ الأمور طريقها إلى الإعلام بتصريحات نارية متبادلة، ثم تتحول إلى إجراءات تقضم الثقة على حساب العلاقات الحيوية للطرفين.

إن عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، ومساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها الاقتصادية والعسكرية القوية مع دول القارة، ولاسيما ألمانيا التي هي الشريك التجاري الأول لها (يتجاوز حجم التبادل التجاري بينهما 35 مليار دولار)؛ كل ذلك وغيره يبدو أنه أصبح في عين العاصفة نظرا للتوتر المتزايد بين الجانبين.

فتركيا تتهم ألمانيا بدعم حزب العمال الكردستاني المصنف تركياً وأوروبيا وأميركيا في قائمة الإرهاب، وكذلك دعم حليفه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية، وبمحاولة النيل من تركيا عبر اعتراف العديد من البرلمانات الأوروبية بما يسمى "الإبادة الأرمنية".

وكذلك قرار هذه البرلمانات وقف مفاوضات العضوية التركية، ومنح السلطات الأوروبية اللجوء السياسي للعديد من الضباط الأتراك المتورطين في الانقلاب العسكري الفاشل، وممارسة إجراءات إقصائية ضد المسلمين ومؤسساتهم في العديد من الدول الأوروبية.

أما أوروبا فتتهم حكومة أنقرة بمصادرة الحريات والتضييق على المؤسسات الإعلامية، واعتقال البرلمانيين والناشطين الكرد وممارسة الحكم الشمولي.

لكن الذي ينبغي عدم تجاهله هنا -في زحمة الاتهامات المتبادلة- هو دور استحقاقات الداخل (الاستفتاء في تركيا والانتخابات في معظم الدول الأوروبية المؤثرة) في هذا التوتر، ومحاولة كل طرف اللعب على دور العوامل العاطفية والشعبية والاجتماعية والقومية والحضارية (الدينية) للفوز بهذه الاستحقاقات.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل