المحتوى الرئيسى

الجهاد ضد الاستبداد.. في ذكرى الشيخ الغزالي

03/13 22:01

في التاسع من مارس/آذار 1996، فاضت روح الشيخ الداعية الأديب الملتهب الرقيق المتدفق محمد الغزالي، بعد عمر مديد في الدفاع عن الإسلام ورفع لوائه. والشيخ عَلَمٌ كبير أشهر من أن يُعَرَّف، ومجموع مؤلفاته غزير حافل بالمعاني، وقد رأيت أن خير ما نُحيي به ذكرى الشيخ التقاط بعض كلامه في شأن الاستبداد والجهاد، وكان الاختيار عسيراً وصعباً بحسب ما يسمح به القيام، وهو ما يضيق عن فيض الشيخ رحمه الله!

"النفس الإنسانية تذوى وتنمو، وتنكمش وتمتد، على حسب التربة التى تحيا فيها!! ولو أتيحت لشعوب الشرق الفرص التي أتيحت لشعوب الغرب لبُدلت الأرض غير الأرض. ألست ترى أرجُل البشر تكبر على طبيعتها هنا وهناك؟! حتى إذا ذهبت إلى الصين - حيث يلبس البعض أحذية من حديد - وجدت أقداماً ضامرة شل الحديد نماءها منذ الطفولة!! إن لدينا أنظمة، هي وأحذية الحديد الصينية سواء.. أنظمة تركت وراءها حطاماً من الأجيال الهامدة، التي عاشت عمرها في صراع مع الضرورات المذلة، ومثل هذا الصراع يموت فيه المنهزم موتاً مادياً، محروماً من العافية والاستقرار، ويموت فيه المنتصر موتاً أدبياً. فأنى الترقي والازدهار لمن يقنع في حياته بنيل ضروراته؟! أنظمة تجعل الحياة في المجتمع دون الحياة في الغابة! فإن الطيور تغادر أعشاشها، سعياً وراء رزقها، فتغدو خماصاً، وتروح بطاناً، فنتيجة سعيها تكون مكفولة.

فكيف الحال في مجتمعات يرهق العامل فيها نصَباً، ويقضي حرماناً؟ أجل.. قد تكون آجال الحيوانات في الآجام رهناً بجوع السباع وشبعها، أفتحسب الحياة في بعض ربوع الشرق أفضل من ذلك؟! لا تزال هناك أمم تعطي حق الحياة لكبارها أولاً... ثم لصغارها ما عنت وجوههم لهؤلاء الكبار. وما استغنى الكبار عن افتراس هؤلاء الصغار، وإلا فالحكم للسيف والنار، ولمن يملك النار والسيف"1.

"لا أزال أكرر ما ذكرت في بعض كتبي من أن الحريات المقررة هي الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره! وإن أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا في غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا في مهاد الذل والاستبداد فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة، وتتحكم عصابات من الأغبياء، أو من أصحاب المآرب والأهواء.. نعم ما يستقر الإلحاد إلا حيث تتحول البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة"2.

"العلمانيون أجهل الناس بالإسلام وتاريخه وتراثه وأصوله وفروعه، ولو أنهم شغلوا بعض وقتهم بالتعرف على الإسلام وكتابه وسنته وشروح القدامى والمحدثين من أئمته لكان لهم موقف آخر، بدل تحاملهم الأعمى عليه... وهم مع الاستبداد السياسي حتى يتم قهر الإيمان أو هدم الإسلام بالعبارة الصريحة! وماذا بعد هدم الإسلام؟ استمكان الإلحاد من أمتنا وانفراده بزمامها وانطلاق الغرائز الدنيا تعربد كيف تشاء"3.

"إن عدداً من الدعاة الإسلاميين فقد الإحساس بقيمة الحرية السياسية والفكرية، وضرورة توفير العناصر التي تغذيها وتنميها، وفقد الوعي بأن حقائق الإيمان في غياب الحرية تضؤل وتنكمش حتى تختفي من الحياة، وربما تحولت بعد إلى كفر وإلحاد. إن الإيمان بالله في ظل الاستبداد السياسي كثيراً ما يتحول عن معناه ومجراه؛ ليكون لوناً من الشرك القبيح"4.

"ما من أيام القتال فيها أوجب على المسلمين من أيام يُهدد فيها الإسلام وآله بالفناء، وتتألب عليه شتى القوى، بل يصطلح ضده الخصوم والأعداء، محاولين سحقه إلى الأبد. وقد وقع ذلك في صدر الإسلام قبل الهجرة وبعدها، ووقع في هذه الأيام، فسقطت أوطان الإسلام في أيدي لصوص الأرض، ثم رسمت أخبث السياسات للذهاب به رويداً رويداً. فكيف تستغرب الدعوة إلى التسلّح، والإهابة بأهل النجدة أن يوطّنوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله؟! كيف تستنكر صناعة الموت في أمة يتواثب حولها الجزّارون من كلّ فجّ؟!"5.

"الواجب المقدس لشعوب الأمة الإسلامية المناضلة، يقضي بالجهاد من أجل تقويم كل نظام لا تتفق أسسه مع تعاليم الإسلام. ولذلك أصبح لزاماً على شعوب الأمة الإسلامية المجاهدة، وقد أحدق الشر بها أن تعمل متعاونة ومتساندة من أجل إقامة المجتمع الإسلامي المنشود. وليكن شعارنا: لحكم الله نخضع وبحكم الله نسود، وأنه قد آن الأوان لاتخاذ القرآن دستوراً تطبق مبادئه على الحاكم والمحكوم (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)"6.

"ما دام الظلم لا يردع إلا بالسيف فليحمل المسلمون السيف! وما دام الإنصاف لا يتحقق إلا بالقتل فليخُض المسلمون المعارك! حتى يرتفع لواء العدالة! إننا حراس على السلام وفي ظله نبلغ رسالتنا وافرين فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. لكن ما العمل إذا كممت أفواهنا؟ بل إذا أوجع المسلم خسفاً حتى يترك دينه؟؟ ما بد إذن من قتال! والمثير أن فوارق العدد لا وزن لها في هذا القتال! فالقلة تتصدى للكثرة. والواحد يثبت أمام العشرة. والسبب أن الله ظهير للمؤمن إذا قاتل، فهو عندما يضرب تضرب معه قوى الأرض والسماء"7.

(3) لا بد من القوة

"إننا هنا، في مكاننا هذا من العالم قوة ذات خطر، أنشأنا الله في هذا المكان المتوسط بين القارات لتنبعث من بلادنا رسالات السلام والأمن والحرية للعالم كله، للإنسانية جمعاء. لقد آن الأوان ليؤمن الاستعمار بهذه الحقيقة، وما نراه يؤمن بها إلا إذا أشعرناه بقوتنا. إن القوة وحدها هي التي تقنع بالحق.. الحق وحده لا يمكن أن ينتصر بغير قوة تسنده. وإن هذه الحرب التي يحاول الاستعمار الصليبي أن يشنها على بلادنا، هي حلقة جديدة من سلسلة قديمة متصلة الحلقات"8.

يقول الغزالي: "في الدين وفي الحياة أمور متشابهة، ومعادن متقاربة، لا معنى للخلط بينها، عند إصدار الحكم عليها. فالأمر بالصبر، ليس أمراً بالذل، والأمر بالتواضع، ليس أمراً بالضعة. والحد الفاصل بين الحالتين دقيق، ولكنه قائم ثابت!. والنهي عن الكبر، ليس نهياً عن عزة النفس، والنهي عن الترف، ليس نهياً عن الاستغناء، والاستكفاء، فهذا وضع، وذاك وضع آخر! وقد جاءت في الإسلام آثار شتى تفرض على الإنسان تحمل الشظف وتحرم عليه أن يظهر جزعاً، أو يبدى ريبة. فكيف قيل هذا، ولأي وجه سِيق؟!. الواقع أن هذا قيل ليُرضي المسلمين بمتاعب الجهاد، لا ليرضيهم بمصاعب الفقر وآلام العيلة، من غير سبب معقول"9.

يقول الغزالي: "إذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أولى مراحل الطريق، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد، أو يلبِّي حاجات الحق... العالم الإسلامي اليوم منهوب منكوب، برّحت به علل الداخل وفتن الخارج، وهو فقير إلى دعاة من طراز جديد ذوي علاقة ذكية قوية بكتابهم ونبيهم، وبالعالم الذي نعيش فيه وما يمور به من قضايا"10.

ويقول أيضاً: "إذا قرر المؤمن الجهاد في سبيل الله، والاشتباك مع قوى الباطل في حرب موصولة الكر والفر فيجب أن يحدد صلته بما في الدنيا من متع وما تهواه النفس من لذات.. ذلك أن التمشي مع مغريات الحياة يفتح الشهية للمزيد، ويعلق القلب بمطامع تشغله عما يجب أن يخلص له... وأساس هذا السلوك توطين النفس على أسلوب من العيش خفيف المؤنة قليل التكلفة والإنسان في هذا المجال يمكن أن يمتد ويمكن أن ينكمش.

والنفس طامعة إذا أطمعتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع

ونحن لا نحرم حلالاً، ولا نحجر واسعاً، وإنما نصف الطريق التي لا بد من سلوكها لأصحاب الرسالات وحملة الدعوات، فإنه لا يتفق طمع في الدنيا وانتصار للمثل العليا. ولا ينسجم الحرص على إعلاء كلمة الله، والحرص على تكثير المغانم واسترضاء الخلائق"11. رحم الله العالم الجليل، وتقبل منه صالح علمه وعمله (12).

(1) الغزالي، الإسلام والأوضاع الاقتصادية، ط 3 (القاهرة: دار نهضة مصر، أكتوبر 2005)، ص 140، 141.

(2) الغزالي، قذائف الحق، ط1 (دمشق: دار القلم، 1991)، ص 235.

(3) الغزالي، الحق المر، (القاهرة: دار الشروق، 1988)، ص 39.

(4) الغزالي، الحق المر (الجزء السادس)، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2005)، ص7.

(5) الغزالي، فقه السيرة، خرج أحاديثه: ناصر الدين الألباني، ط1 (دمشق: دار القلم، 2006)، ص 218.

(6) الغزالي، الإسلام والطاقات المعطلة، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2005)، 174.

(7) الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ط4 (القاهرة: دار الشروق، 2000م)، ص 138.

(8) الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع، ط 4 (القاهرة: دار نهضة مصر، يناير 2005)، ص 99.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل