المحتوى الرئيسى

عالم مفتوح «على البحرى»! | المصري اليوم

03/13 00:47

أهو عالمٌ جيد ذلك الذى تختفى فيه الأسرار؟

عمل الحكومات قائم فى الأساس على السرية. الوزير، فى عدد من النظم السياسية، يُدعى «سكرتيراً»، أى كاتم أسرار الدولة. عِلة ذلك أن الحكومات تتعاطى شؤوناً ذات حساسية عالية، وتتعلق بها مصالح أعداد كبيرة من البشر بما يقتضى الكتمان والسرية. على أن الثقافة السائدة فى العصر الحديث تتجه إلى تقليص مساحة السرية المُتاحة لعمل الحكومات. الحجة أن إخضاع عمل الحكومات للرقابة، وإجبار مسؤوليها على الكشف عن أعمالهم، هو أحد المبادئ الديمقراطية الأصيلة. عمل الحكومات فى الظلام أنتج الكثير من المآسى فى الماضى. الحروب والبرامج السرية الجنونية وانتهاكات حقوق الإنسان كلها جرت تحت غطاء من السرية بعيداً عن أعين الجمهور. الشفافية هى العلاج الناجع للقضاء على هذه الممارسات. من هذا المنطلق رحب الكثيرون بـ«ويكيليكس» (وهو موقع صحفى فضائحى يُديره القرصان التكنولوجى الأسترالى «أسانج»)، الذى أخذ يذيع أدق أسرار عمل الجهات الحكومية الأمريكية، وعلى رأسها الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية.

«الخبطة الأخيرة» لويكيليكس الأسبوع الماضى تُمثل تطوراً استثنائياً. استعنتُ بمقال ممتاز كتبه مصطفى السيد حسين لموقع «إضاءات» لأفهم دلالة ما نشرته ويكيليكس من وثائق «سى آى إيه». ويكيليكس نشر 8761 وثيقة، وقال إن الحجم الكلى للوثائق السرية المُسربة هو الأكبر فى التاريخ. إنه اختراق كامل للترسانة الإلكترونية لوكالة الاستخبارات الأقوى فى العالم. الوثائق تتناول شيئاً خطيراً للغاية: الوسائل والبرامج التى تستخدمها السى آى إيه لاختراق أجهزة الهواتف الذكية ـ بكل أنظمتها. خلاصتها أن الوكالة لديها القدرة على اختراق أى جهاز له اتصال بالإنترنت.

هل تتذكر العميل الأمريكى الخائن «إداورد سنودن» الذى أذاع أسرار الوكالة فى 2013؟ ما فعله هذا الرجل كان الكشف عن برنامج واحد يقوم بالتجسس على الهواتف النقالة. كشف ويكيليكس الأخير تضمن 500 برنامج من هذه.

تجسس الوكالات الأمريكية على الاتصالات ليس أمراً جديداً. الجديد هو أن الكثير من المعلومات الشخصية، والعلاقات، والتاريخ الشخصى، والتفضيلات، والبيانات الخاصة بنا صار مربوطاً بالإنترنت. هذا يجعلنا، كبشر، مكشوفين تماماً. الجديد أيضاً أن أساليب التجسس هذه لم تعد سرية. هى نفسها صارت مفضوحة ومكشوفة ومنشورة على العلن. هذا يجعل عالمنا بلا أسرار تقريباً. حتى أعتى الدول لا تستطيع الحفاظ على أسرارها. أى سرٍ هو عرضة للانكشاف. كل سرٍ هو فضيحة محتملة، أو مؤجلة.

الإنترنت عاملٌ رئيسى فى خلق هذا الوضع الجديد. إنه وضعٌ لا سابقة له فى التاريخ. الإنترنت لم يتم تصميمه ليصير شبكةً دولية تربط كل شىء، وكل شخص. هو ظهر، أول ما ظهر، فى عهد الكومبيوترات العملاقة كتكنولوجيا تُتيح الاتصال بينها لتبادل المعلومات. الحاصل أن أجهزة الكومبيوتر انتشرت بسرعة مهولة منذ الثمانينيات وانخفض سعرها. أصبحت فى متناول الجميع. الإنترنت لم تعد وسيلة لتبادل المعلومات، وإنما أيضاً لعقد الصفقات وإدارة النظم الحياتية العملاقة. كل منظومة حياتية يُمكن تخيلها مربوطة اليوم بالإنترنت، بداية من تذاكر القطار لحجز الفنادق لإدارة الحسابات البنكية والنظم الصحية، وليس انتهاء بالملفات الجنائية. أيضاً، أغلب الأجهزة والماكينات مربوطة بالإنترنت، أو هى فى طريقها إلى ذلك (مثل السيارات). هذا الانفجار الهائل أفرز نظاماً هشاً، بلا قواعد، وبقابلية كبيرة للاختراق. هنا ظهر «التهديد السيبرى». جوهر هذا التهديد هو استغلال هشاشة هذا النظام العملاق، وضعف القواعد الحاكمة له، لأغراض إجرامية.

استمعتُ منذ يومين لمُحاضرة لجميس كومى (مدير إف بى آى) حول الحرب السيبرية فى جامعة بوسطن. ضرب الرجل مثلاً بسيطاً بإمكانية قيام البعض بالتسلل إلى بيانات بنوك الدم لتغيير العينات. أى ضرر هائل يُمكن أن يُسببه عملٌ ـ بسيط ـ كهذا؟ هو قال إن من يديرون هذه الحرب هم من الدول (الصين وروسيا وإيران)، أو التشكيلات العصابية الكُبرى التى تؤجر عملها الإجرامى لصالح من يدفع، أو ممن يُدعون بـ «القراصنة النشطاء»، أى هؤلاء الذين يقومون بأعمال القرصنة الإلكترونية لأهداف شخصية، أو عاطفية أو أيديولوجية، وأخيراً هناك الإرهابيون الذين يستغلون الفضاء السيبرى للترويج والتبشير والتجنيد. المسؤول الأمريكى أضاف إن الإنترنت جلعتنا جميعاً «جيراناً لبعضنا البعض». هو يُسابق القراصنة والشركات الكبرى فى عالم يتحرك بسرعة. يقول إن هدفهم فى الإف بى آى هو أن يشعر القراصنة «بأنفاسنا على رقابهم». التحدى الهائل الذى يواجهه يتمثل فى أن الشركات لا تُريد الكشف عن عملياتها بحجة الخصوصية. هو قال بوضوح: لا شىء فى الحياة الأمريكية يُسمى خصوصية مُطلقة، فمن حق الحكومة الولوج إلى أى معلومات تحتاجها طالما اتبعت السبيل القانونى بالحصول على إذن القضاء.

الانطباع الذى تولد لدى من كلام مدير «إف بى آى»، ومن متابعة كشف ويكيليكس الأخير، هو أننا أمام حرب هائلة لن تضع أوزارها قريباً. الضحية الأولى لهذه الحرب بين وكالات الاستخبارات والقراصنة/ النشطاء، وشركات المعلومات والبرمجيات الكُبرى هى السرية. نعم، السرية لن يكون لها مكانٌ فى عالمنا. علينا أن نُفكر ملياً فى دلالة هذا التطور الخطير على كل المستويات. أسرارنا لن تذهب فقط للحكومات، ولكن أسرار الحكومات نفسها ستكون عُرضة للاختراق. هذا عالم يختلف عن ذلك الذى تصوره «جورج أورويل». ليس هذا هو عالم «الأخ الكبير»، بل عالم «الإخوة الكبار» الذى يلتهمون أسرارنا بلا هوادة!.

كلنا يعرف أن الاحتفاظ بالأسرار ليس دائماً شيئاً سيئاً. بل هو «آلية بشرية» مُهمة لتسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. السرية ليست مرادفاً للشر، بل هى ترتبط، فى كثير من الأحيان، بدرء البلاء. عندما يشعر البشر بأن كل ما يقولونه أو يفعلونه هو مراقب وعرضة للانكشاف يوماً ستتغير أشياء كثيرة. المسؤولون الحكوميون سيتصرفون بطريقة مختلفة كُلياً إذا تيقنوا من أن كل اتصال يجرونه قد يكون فى القريب مادة لبرنامج فضائحى يُشاهده الملايين. هذا الانكشاف لن يكون مرادفاً للشفافية أو الصدق فى التعامل، كما قد يُظَن (فالبشر لن يكفوا أبداً عن إنتاج الأسرار!). الانكشاف لن يكون من شأنه إلا تقويض الأساس الذى تقوم عليه اللعبة الدبلوماسية والسياسية. أساس هذه اللعبة هو الثقة. الثقة فى أن ما يُقال لن يُذاع على الجمهور بصورة عشوائية وفضائحية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل