المحتوى الرئيسى

لماذا لا تصلح الديمقراطية للعرب؟

03/11 22:14

"العرب غير جاهزين للديمقراطية" جملة تتردد على ألسنة الكثير في أرجاء العالم العربي، جملة يرددها أفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات العلمية، جملةٌ ليس لها أي أسس علمية أو منطقية وأي أهلية قد تبدو لها، فهي مُضْللة كسرابٍ يخيل لتائه في صحراء الربع الخالي، جملةٌ ذات نكهة استشراقية تقتضي ضمناً أن أفراد الشعب العربي أدنى منزلةً من بقية شعوب الأرض، وهذا التصور المغلوط يمكن دحضه بالاستشهاد بتجربة الثورة التونسية والثورة المصرية في مراحلها المبكرة.

ومن المثير للسخرية أن أغلب من يؤمن بعدم أهلية الشعوب العربية للديمقراطية يستشهد بثورات ما يسمى بـ"الربيع العربي"؛ ليثبت وجهة نظره، فهؤلاء غالباً يقومون بمقارنة العنف الناتج عن الثورات بالتحول الديمقراطي السلمي نسبياً في أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

في رأيي الشخصي فإن من يقوم بذلك قد فشل باستقراء الأحداث وفشل في فهم التاريخ ونسي أو تناسى تاريخ التحول الديمقراطي الدموي للثورات الفرنسية وحرب الاستقلال الأميركية اللتين تعدان من أهم المعالم التي شكلت نقاطاً مرجعية للتحول الديمقراطي في العالم الغربي وفلسفة الديمقراطية.

من المهم أن أبين في هذه النقطة أنني لا أؤيد العنف ولست بصدد تبرير أو حتى تمجيد أي نوع من أنواعه، لكن الواقع يفرض علينا أن العنف من ثوابت العالم العربي على الأقل منذ أواخر الحكم العثماني، والمتغير في هذه المسألة هو ظروف أو أسباب العنف، سأتطرق في هذا المقال لبعض الأعذار الواهية التي يستخدمها البعض لتبرير موقفهم من عدم جهوزية العرب للديمقراطية لتبيان بطلانها وضحل تفكير مردديها.

وسأحاول تفسير سبب العنف الذي رافق ثورات العالم العربي لمحاولة فهم وتحليل الأحداث من منظوري المتواضع.

قبل الخوض في نقاش جهوزية العالم العربي للديمقراطية لا بد من تعريف الديمقراطية؛ حيث لاحظت أن الكثير تختلط عليهم مفاهيم مثل الديمقراطية والليبرالية لعله بسبب اقتران هذين الاثنين ببعضهما البعض في النظام السياسي السائد في العالم الغربي.

الديمقراطية لغوياً كلمة من أصول يونانية مبنية من جزأين: "ديموس" بمعنى "الشعب"، و"كراتيا" بمعنى "حكم"، أي "حكم الشعب"، وهي نوع من أنواع الحكومات التي يشارك فيها المواطنون بشكل مباشر أو غير مباشر في حكم الدولة، وبالتالي يمكن تمييزها عن نظام الحكم الحكومات التي يتحكم بالسلطة بها أقلية من المجتمع (أوليغاركية) تنتمي لفئة طبقية أو اجتماعية معينة أو حتى فرد واحد (مثل النظام الديكتاتوري).

في الديمقراطية المباشرة يقوم المواطنون بالتصويت على القوانين كما في الدويلات اليونانية القديمة وفي الديمقراطيات غير المباشرة يقوم المواطنون بانتخاب أعضاء ممثلين لهم في الدولة، كما في أغلب الدول الغربية الحديثة اليوم.

ما الذي يجعل العرب غير مؤهلين لنظام حكم ديمقراطي؟

لا شيء بالطبع لكن العديد ممن يؤمن بعكس ذلك غالباً ما يتذرع بأعذار واهية مبنية على افتراضات مغلوطة وجدليات مؤدلجة ليس من الصعب دحضها، وسأقوم بعرض بعض هذه الأعذار وتفنيدها هنا:

الشعب العربي غير متعلم بشكل كافٍ ويفتقد لثقافة الديمقراطية

غالباً ما يردد هذه الجملة ثلةٌ من ذوي الامتياز الحاصلين على شهادات جامعية، أو من يطلق عليهم "مثقفين" وأقول مثقفين بين علامتي تنصيص لميلي لتعريف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي يقول إن وظيفة المثقف إزعاج السلطة، أو الكاتب والمفكر اللبناني اليساري فواز طرابلسي الذي يرى أن معيار الحكم على المثقف هو الموقف الذي يتخذه: مع الشعب أم مع الأنظمة، إن هذه النظرة النخبوية عند بعض "مثقفينا" ليست بجديدة فقد تكرر هذا النمط التفكيري عبر التاريخ مراراً، فملاك الأراضي أو أسياد العبيد أو النبلاء كانوا يعتقدون أن الفقراء والعبيد وعامة الشعب لا يملكون أهلية التصويت.

يحضرني مثال الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية الذين اشترطوا امتلاك الأراضي وبياض البشرة لاستحقاق التصويت حتى لا تتضرر مصالحهم الشخصية، ويحافظوا على ثرواتهم ونخبويتهم، هؤلاء النخبويون في حد ذاتهم يثبتون أن تعليمهم وثقافتهم لم تسهل فهمهم للديمقراطية، وبالتالي فإن الديمقراطية لا تشترط تعليماً أو تثقيفاً مسبقاً، ناهيك عن استحالة وجود معايير موضوعية لقياس "الوعي الثقافي الديمقراطي"، أو حتى طريقة واضحة لـ"نشره" بين أفراد المجتمع، أضف إلى ذلك أن هؤلاء غالباً ما يختلط عليهم الحاجة المسبقة للتعليم للمشاركة في العملية الديمقراطية وبين حاجة الفرد لأن يكون مطلعاً ليستطيع المشاركة بفاعلية، فالأفراد غير المتعلمين يستطيعون اتخاذ قرارات بناءً على مناظرات، تحليلات، وتقارير إخبارية مقدمة لهم عبر (مثالي) صحافة وطنية حرة غير متحيزة، والتي بدورها ستدفع الأفراد المجتمع للانخراط أكثر في عملية صنع القرار، وبالتالي تنشأ "الثقافة الديمقراطية" التي يتضجر كتابنا ومثقفونا من انعدامها.

أخيراً وليس آخراً لنتحدث عن التجربة الهندية في مخاض الديمقراطية، حينما حصلت الهند على استقلالها من البريطانيين في 1947م كانت نسبة الأمية بها 88%، ولم يمنعها ذلك بأن تصبح اليوم أكبر دولة ديمقراطية في العالم، وأن تنخفض نسبة الأمية فيها لـ26%، مؤكدةً بذلك أن الحاجة للتعليم لنجاح الديمقراطية هي مجرد خرافة.

وجود الديمقراطية في العالم العربي سينتج عنه وصول التيارات الدينية للحكم

هذه الجدلية ما هي إلا مجرد مثالٍ آخر لفشل البعض في إدراك مفاهيم العملية الديمقراطية؛ لأن التيارات الإسلامية استطاعت أن تصل للحكم في تونس ومصر لا ينفي وصولها عبر تصويت الشعب، وبالتالي عبر عملية ديمقراطية.

أما ما حصل بعد وصولهم للحكم فهذا موضوع آخر وسأتطرق له لاحقاً، هذه الجدلية غالباً ما يرددها أفراد التيار "الليبرالي"، وأستخدم علامات التنصيص هنا مجدداً لكوني أؤمن بأن أغلب المحسوبين على التيار الليبرالي في العالم العربي ليسوا ليبراليين مخلصين أو حقيقين بل انتقائيين، ويمكن القول بأنهم يقعون في مكان ما على طيف الليبرالية.

قد يكون سبب تلك الازدواجية في المعايير لها علاقة بثنائية اللاوعي عندهم التي ترغب بالمزيد من الحريات الشخصية من جهة، ولا تريد أن تخالف عرف المجتمع السائد وعاداته وتقاليده من جهة أخرى.

هذه الظاهرة تمثل علامة استفهام لا أملك مقدرة الإجابة عليها، كونها على مقولة الأميركان " Above my paygrade"، ولكن أطرحها بكل تواضع عسى أن يجيب عليها أهل الاختصاص.

أود أن أستطرد قليلاً؛ لأؤكد إيماني بأننا في أمَس الحاجة إلى المزيد من المساواة والحقوق والحريات الشخصية والفردانية في العالم العربي، ولست من مناصري التيارات الإسلامية التي وصلت لدفة الحكم في مصر وتونس، ولكن أعتقد أن فوزها ووصولها كان حتمياً، ومن السذاجة اعتقاد غير ذلك؛ لأن التيارات الإسلامية كانت مسيطرة على المشهد الثقافي والسياسي في العالم العربي على مدى الثلاثة عقود الماضية، ولا يوجد تيارات يسارية سائدة في العالم العربي تضاهي شهرة، -أو سوء شهرة- تيار الإخوان مثلاً، وإن وجدت فإنها ليست منظمة بنفس المقياس ولم تطرح خطة للمستقبل بعكس التيارات الإسلامية التي تعد منذ سنين بتطبيق العدالة والازدهار الاقتصادي المرافق للتطبيق الحق للشريعة الإسلامية.

وكنت أؤمن أيضاً أن تولّيها للحكم سينتهي بأحد أمرين؛ إما بفشلهم وبالتالي عدم انتخابهم لفترة ثانية، وتنحيهم عن السلطة، كما حصل في مصر (التنحي كان حتمياً ولن أتطرق لتبعات التدخل العسكري في مصر كونه موضوعاً أكبر من هذا المقال)، أو تغيير جذري وجاد في تفكيرهم، وإن كان السيناريو الأخير غير محتمل، بل خيالي بالنسبة لي، فقد حصل فعلاً في تونس.

لقد أدرك حزب النهضة الإسلامي بقيادة الغنوشي أن الاستئثار بالسلطة وإقصاء التيارات الأخرى ما هو إلا وصفة للفشل، وبالتالي إبعادهم عن الساحة بشكل تام، واختاروا اتباع قول الغنوشي باستبدال الإسلام السياسي بالإسلام الديمقراطي للمحافظة على وحدة الوطن.

العملية الديمقراطية فشلت في العراق واليمن وسوريا وليبيا، والوضع الحالي سببه مطالب الثوار بالتغيير الديمقراطي

لعل هذا التعليق على الوضع الحالي في العالم العربي من أشنع التعليقات وأكثرها حماقةً، بالتأكيد لا أحد يرغب في أن يرى بلده تمزقه الحروب الأهلية أو أن تتدخل قوات غزوٍ أجنبي -الذي كان له دور كبير بفشل العملية الديمقراطية في العراق- لينتهي بها المطاف كقطعة شطرنج في لعبةٍ بين القوى العظمى.

لكن يجب أن نتذكر أن المسبب الأول للوضع الحالي في المنطقة هو الأنظمة وليس الثوار، تلك الأنظمة التي استجابت لمطالب الثوار السلمية، وضع خطين تحت سلمية، بالقمع والتشبيح، بل ولم تتردد للحظة بجر بلدانهم في حروب أهلية طاحنة للاحتفاظ بمناصبهم، تلك الأنظمة غير المنتخبة والفاسدة التي قامت على مدى عقود باستنزاف موارد دولهم لمراكمة ثرواتهم الخاصة، بينما تفشى الفقر والبطالة بين أبناء شعبهم حتى وصلت نسب البطالة بين شباب العالم العربي نسباً عالية عالمياً.

كما ذكرت مسبقاً لست بصدد تمجيد أي نوع من أنواع العنف، لكن لا يمكن فهم العنف الناتج عن هذه الثورات إلا بالاستدلال بقانون نيوتن الثالث الذي ينص على أن لكل فعل ردة فعل مماثلة لها في القوة ومعاكسة له في الاتجاه.

يجادل نعوم تشومسكي بأن أي شخص منطقي لا يستطيع أن يرى مشروعية العنف في نطاق الثورة والسياسة إلا إذا كان لدحض شر أعظم، وأن أي شخص يرى عكس ذلك فهو إما أنه يرى أن العنف غير مشروع حتى وإن كان لدحض شر أعظم، أو أنه لا يوجد سياق، حيث يكون هناك شر أعظم لدحضه. وهذا الأخير لهو افتراض باطل، حيث يمكن تخيل بل الاستشهاد بالعديد من المواقف التي نجح العنف فيها بهزيمة شرٍ أعظم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل