المحتوى الرئيسى

متى تتحرَّر كلماتي؟!

03/10 21:42

السادسة والنصف صباحاً، أجلس بجوار النافذة؛ حيث أشعة الشمس التي تُشرِق على استحياء لِتَنفُذ من خلال سُحب الشتاء الفضيّة، كوب قهوتي الساخن، تلك السخونة التي تُدفئ صدري الوَجِيب، رائحة القهوة التي تُعيد إلىّ نشاطي كلما دبّت ميول النعاس إلى جفني، ومرارة القهوة التي تزداد لذّتها على طرف لساني كلما صَدَح صوت فيروز في أرجاء الغرفة.

وقت مناسب تماماً للكتابة؛ حيث تنساب أفكاري على شاشة الكمبيوتر أو ترتسم على إحدى الأوراق البيضاء، فالكتابة هي الحياة بالنسبة لي، ولي طقوسي الخاصة فيها، لا أستطيع التوقف عن الكتابة وإلا سَأُجن من فرطِ الأفكار المُتراكمة بعقلي.

أنظمُ كلماتي، أحاول ضبط حروفها وزركشتها، كل كلمة أتعامل معها مُنفردة كأنها عامل مُستقل بذاته، ثم أجمع الكلمات معاً؛ لتتكون الجُمل فتكتمل الصورة، أضيفُ بعضاً من علاماتِ الترقيمِ، علامات التعجب والفصلات، وأحياناً لا أتقيد بقيود، أكتب بحرية وعفوية، لا بأس إن فتحتُ بعضاً من الكتبِ ووضعتها على طرف المكتب كي أُزيّن مقالتي ببعض الاقتباسات التي تُزيدني بريقاً، أو تقوّي حُجَتي.. نيّة مُختلطة لشاب في بداية عُمره.

إلا أننّي وبعد هذا أتردد في نشر ما كتبت، أو أطويه على أحد الأرفف تلفحه البرودة ذات اليمين وذات الشمال، ذلك خشية أن تكون كلماتي مُجرّدة لا تُعبّر عن واقع أُمّتي، أخشى أن أكتب بسبب ضعفي أمام حُسن الأقلام والأوراق؛ إذ كلما دخلتُ المكتب قالتْ هيت، أو لأنني أصبحتُ أخشى أنْ تُبدي بي كلماتي وتصرخ قائلةً: لقد كتبني مُنافق!

أخشى أن أكتب دون هدف ونيّة واضحة المعالم.

أُجاهد نفسي مرة أخرى في طرد هذه الأفكار، أحاول كتابةَ كُتبٍ كنتُ أتمنى لو أنّ غيري قد كتبها، كتب تمنّيتُ أن أقرأها، دائماً ما يقول الناس بأنني مُتعجرف عندما أتحدث هكذا، لكن أظن بأنني من القلائل الصادقين بخصوص ما دعاه جورج أورويل: الدافع التاريخي. أريدُ كتابة ما يُمكن أن يعتبره التاريخُ مهماً، كُتُباً لها معنى يغيّر العالم وطرائق الكتابة والنشر.

أَنظُرُ إلى مسيرة الأدب في التاريخ وأفكّر: نعم، أستطيع أن أضع نفسي هناك، لديّ القدرة لأقف بين هؤلاء الناس: الكتّاب الذين أحبهم، الكتّاب الذين صنعوا التاريخ، أريدُ أن أضع نفسي في القائمة.

أكيد أنّ الكثير مما قلته يمتلئ بالأنا والغرور، إذا لم أقُل بأنه هُراء، ولكنني تنافسيٌّ بشأنه.. أعرفُ أنني سأُنجزُ ما أردتُ كما أردت، قد يستغرق ذلك وقتاً أطول، قد يكون صعباً ووحيداً جداً، لكنني مؤمنٌ دائماً بأن الكتاب الذي أُشرعُ فيه سيخرُجُ للوجود كما تخيّلته، هكذا قال الكاتب جيمس فري في مقالته "لماذا أكتب؟"، كانت هذه الكلمات كفيلة بأن تُغيّر نظرتي للكتابة، كذلك كتاب "لماذا نكتب؟" لميريديث ماران.

أدركتُ مؤخراً أن لا أسوأ مِنْ أنْ تتحوّل الكتابةُ إلى شهوةٍ مُجوّفةٍ لا تُلامس الواقع ولا تنبض بهموم الأمة، وأسوأ من ذلك هي تلكَ الكلماتُ التي تخرج من صدرٍ بارد، تخرج من شخص يكتب لتنهمر عليه عبارات الثناء والمدح فتنبت في جسده أشواك الرياء والعُجب، فالكلمات لا تُغيّر واقعَ الناسِ إلا إذا كانت واقعاً مُعاشاً مِن قِبل صاحبها، ومن علامات الصدق والإخلاص أنْ تستقر الكلمات في صدر المُتَلَقي؛ لذا كان من الكلمات التي أخفاها أحدهم في سمعي المُرهفِ مُنذ زمن: "إنّ كلماتنا كما العرائس تظلُّ جامدةً حتى إذا ما مِتنا وارتوت بدمائنا دبّت فيها الحياة وسارت بين الناس".

فالأزمة التي تُعاني منها الأمة ليست أزمة أفكار بقدر ما هي أزمة تطبيق لهذه الأفكار، "إنّ الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة فهو لا يُفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مُجرّداً" المُفكر الجزائري مالك بن نبي.

لا أردد هذه الكلمات من باب ترك الكتابة؛ بل من باب الندم على ما كتبت؛ ليكون كلامي مُجرداً نابعاً من شهوة بداخلي، أكتب لأن المؤلفات التي غيّرت مِنْ تصوراتي وكوّنت لديّ أفكار، هي التي أصحابها كانوا من ذوي التجارب، ولعلّ الإخلاص هو الثوب الذي اكتستْ به كلماتهم فتزّينت أمامي فما لبثت أنْ وَقَرّت في عقلي واستقرّت في وجداني.

لذا صديقي قبل أنْ تكتب سَلْ نفسَك كما أسألُ نفسي، هل أعطيتُ أفكاري القدر الكافي من التنقيح قبل أن أعرضها؟ هل بحثتُ بالقدر الكافي قبل أن أُحزّم قناعاتي؟ هل تلك الهالة التي تُرمَق بها بعض الأحرُف تُعبر عنّي، أم أنها كُتبت أصلاً لوجه إعجاب الناس لا لوجه نفع الناس ولرضا الله عز وجل أولاً!! هل أكتب لغاية وهدف حقيقي؟

من هنا تتحرر الكلمات وتكون بمثابة الريشة التي أرسم بها حلولاً لمشاكل أمّتي.

عيدان الثقاب لا تشتعل إلا إذا احتكت بسطح خشن، كذلك أفكارنا وتصوراتنا لا يتم تنقيحها ومعرفة مدى صدقها ومدى فاعليتها إلا إذا احتكت بخشونة المُجتمع فأخذت منه وأخذ منها.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل