المحتوى الرئيسى

رغم التدنيس لا تزال عريقة.. من داخل تدمر بعد الاحتلال الداعشي الثاني، هكذا بدت المدينة!

03/10 01:47

ترددت الضحكات لتكسر صمت ما تبقى من معبد "بيل" بمدينة تدمر العتيقة، بعد أن صرخت مجموعةٌ من الجنود الروس في سيارة ملطخة بطين الصحراء السورية. خرج الجنود المرتدون خوذاتهم وملابسهم المموهة من السيارة، وبنادق الكلاشنيكوف معلقة على أكتافهم، وعصي التقاط صور السيلفي في أياديهم.

قبل أيام من ذلك المشهد، كانت هذه القوات، وقوات أخرى موالية للحكومة السورية، قد أعادت الاستيلاء على هذه المدينة الرومانية، الموضوعة ضمن قائمة التراث العالمي، والتي تعد رمزاً مهماً للتنوع في سوريا، بعد أن كانت في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للمرة الثانية في عامٍ واحد.

كانت الحوائط مكتوباً عليها بالغرافيتي: "ممنوع الدخول دون إذن داعش، ولا حتى للإخوة". تجمع الروس حول ركام الحطام ووقفوا لالتقاط صورة النصر تحت القوس، وهو كل ما تبقى من المعبد المركزي، وفق ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية.

وقال مأمون عبدالكريم، مدير الآثار بسوريا، الذي قام بالفعل بنقل معظم التماثيل القديمة في متحف المدينة إلى دمشق: "هذه المرة، لا يبدو أنهم قد دمّروا تدمر دماراً كبيراً كما كنا نخشى".

لكنَّ الدمار كان ضخماً رغم ذلك. إذ دمر داعش خلال الشهرين الماضيين معظم الترابليون، وهي مجموعة من الأعمدة المرفوعة، ودمرت الواجهة المنحوتة من المدرج القديم، حيث أجبر مقاتلو التنظيم السكان على مشاهدة عملية قتل 25 جندياً أثناء الاحتلال الأول للمدينة.

كان مقاتلو داعش لا يزالون يقاتلون قرب المدينة هذا الأسبوع. إذ شاهد الجنود من معقلهم قرب قلعة تدمر، التي بُنِيَت على تلةٍ بعد 1000 سنة من إنشاء المدينة الرومانية، المتفجرات والدخان من حوالي 6 أميال (10 كيلومترات) خارج البلدة، ليعرفوا بذلك مكان المقاتلين. ودوّت قذائف الهاون بعد ذلك بدقائق.

وقال سمير محمد، الرائد بالجيش السوري: "إنَّهم يقاتلون داعش ويحاولون صدّه". بجانب الرائد، كانت توجد مجموعة غريبة من الأشياء المتراكمة على الطريق المائل متجهاً إلى قاعدة القلعة، التي تعود للقرن الثالث عشر.

تراكمت الأحجار حول كرسي مريح أفسدت الشمس لونه، ليضيف هذا الكرسي لمسةً من الراحة للمنظر العام. وكان هناك مكتب معدني تصدع زجاجه وانفتحت أدراجه، وتراكمت عليه تلات من الخطابات.

دمّر داعش خلال الفترة الأولى لاحتلاله المدينة السلالم المؤدية إلى القلعة، ما كان يعني أنَّ الطريق الوحيد المتاح للقلعة أصبح خليطاً من السلالم المعتمدة على أعمدة متداعية الأركان، ومجموعة من الأنقاض المتراكمة في إحدى الأطراف.

وفي الأسفل دوّى الأذان من واحدٍ من المساجد العديدة الفارغة في المدينة خلال شوارعها المهجورة: ربما حل واحدٌ من الجنود المتدينين محل المؤذن الغائب.

دُمِّرَ المسجد الأساسي للمدينة، باستثناء المئذنة التي خُدِشَت فقط من أثر المعركة، ولا تزال شامخةً بالهلال المثبت أعلاها. ووسط الركام رمادي اللون، كان يوجد جزءٌ من قبة المسجد الخضراء، ولا تزال مكبرات الصوت متصلة بها.

وقال سمير محمد: "داعش يفعل هذا.. يدمر المساجد ويدَّعي أنَّنا نحن من دمرناها". وبالقرب منا كانت كل شواهد القبور مدمرة بشكلٍ منهجي لكونها تجاوزت الطول المسموح به، وهو السبب ذاته الذي استخدمه جهاديو غرب إفريقيا لتبرير تدميرهم القبور القديمة لتمبكتو.

تدمر فارغة تماماً باستثناء الجنود الروس، والسحلية التي تتحرك بين الحين والآخر على الحجارة التي سخنتها أشعة الشمس. وعندما زارت إحدى السيدات السوريات المدرج الفارغ للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر، لطمت خدها بيدها عندما رأت واجهته المزينة وقد أصبحت ركاماً من الأحجار.

وفي أحد الأركان كانت هناك كومةٌ من الأوعية التي استُخدِمَت كحاملاتٍ للشموع عندما عزفت الأوركسترا الروسية بالمدينة احتفالاً بالمرة الأولى التي استعادت فيها المدينة، والتي أصبحت الآن موطناً لأسرةٍ من الخنافس.

وكانت هناك عربة نقل حقائب ذهبية اللون مهجورة في الطريق القصير الواصل بين المدرج ومعبد بيل. لقد انتهت أيام امتلاء العربة بحقائب السياح ودفعها داخل فندق تدمر. وبإمكاننا، من خلال النظر إلى البقع الكائنة على قاعدة العربة الحمراء المخملية، أن نعرف أنَّ هذه العربة قد استُخدِمَت في الآونة الأخيرة في سياقاتٍ مختلفةٍ تماماً وأقل نظافة.

أما الحمَّال الذي كان يعمل على هذه العربة فقد رحل منذ أمد بعيد.

وعلى الرغم من تدنيس المدينة فإنَّ تدمر الرومانية لا تزال فخمة ومميزة. لكنَّ المدينة القريبة منها، والمسماة تلمود، والتي كانت مشحونةً بالحياة، والضجيج، وآلاف السياح، أصبحت مهجورة.

زار بعض السكان السابقين، الذين يعيش الكثير منهم مؤقتاً في حمص على بعد 160 كيلومتراً إلى الغرب، المدينة هذا الأسبوع، ليروا إذا كان بإمكانهم العودة إلى منازلهم، لكنهم وجدوا تلك العودة مستحيلة لنقص الماء والطاقة.

تأرجحت الستائر على النوافذ الواسعة لفندق تيترابيلون. العديد من الألواح الزجاجية تحطّمت، وتكسّرت الأبواب أو ظلت مفتوحة على مصراعيها. وقال الجيش السوري إنَّ المصاريع التي كانت لا تزال في مكانها قد دهنها داعش باللون الأزرق تجهيزاً لرسم الغرافيتي عليها. وعلى جانب المباني كُتِبَ بالروسية: "لا ألغام".

وفي فندقٍ آخر، استقلت على الأرض إحدى الثريات بجانب زجاجة بيبسي فارغة. وامتلأ الحائط خارج الفندق، كما في الكثير من المباني الأخرى، بالغرافيتي الذي رسمه داعش على عجل. وفي إحدى الطرقات المغبرة كانت هناك آثار أقدام قطة، شقت طريقها خلال غبار الركام الرمادي.

تبدو خرائب تدمر أمراً غير ذي أهمية لو قارنَّاها بمقتل أكثر من 400 ألف إنسان، وترشيد أكثر من مليون بسبب الأزمة السورية التي مر عليها 6 أعوام حتى الآن. لكنّ المحاولات المنهجية لتدمير هذا الموقع الأثري وصفتها الأمم المتحدة بأنَّها جريمة حرب تستهدف إرهاب الشعب السوري، على حد وصف عبدالكريم.

وقال عبدالكريم: "إنَّ تدمير تراثنا يماثل قتل طفل". وأضاف أن معظم المدينة القديمة يمكن إعادة بنائه، لكن باستثناء بعض أعمال الترميم العاجلة، سيتوجب الانتظار حتى عودة السلام للبلاد.

هذا الأسبوع تسكّع الجنود على سلالم متحف تدمر، وهم يحمون التماثيل القليلة التي تبقت بعد محاولة نقلها إلى الخارج، وقد تكسّرت كلها أو تحطمت وجوهها.

وقال أحد الجنود مازحاً، ومشيراً إلى تمثالٍ ملقى على الأرض: "إنَّه نائم".

لهذا المتحف المغربل بالرصاص قصة مريعة. إذ قطع داعش عام 2015 رأس مدير المتحف، خالد الأسعد (82 عاماً)، عندما رفض إخبارهم عن مكان نقل التحف الأثرية الثمينة.

سوريا مليئة بالتحف الأثرية مثل تلك الموجودة في تدمر، وقد كانت وظيفة عبدالكريم أن يحاول إنقاذ هذه التحف. وقال عبدالكريم إنَّ مهمته المتمثلة في القيام بدورٍ "دبلوماسي ثقافي" بين الأحزاب المتصارعة والقوى الأجنبية لم تكن بالأمر السهل. وأضاف أنَّ الناس يتهمونه بتلميع حكومة بشار الأسد.

ومع ذلك فقد قال: "غالبية الشعب السوري يقبلونني، ويقبلون الوظيفة التي أحاول القيام بها، سواءً في مناطق الحكومة أو مناطق المعارضة".

إلا أنَّه مع ذلك كان يفضل ألا يقوم بتلك المهمة، وحاول الاستقالة أكثر من مرة بعد أن أرهقته 5 سنوات من الهرولة لحماية تراث البلاد، لكنه كان يُقابَل بتوسلاتٍ للبقاء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل