المحتوى الرئيسى

فتاة لن تدخلك الجنة

03/09 21:20

أجمع العرب على أن أثقل بيت قيل في الهجاء كان قول الأعشى أبو بصير في علقمة الفحل يهجوه:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

يراقبن من جوع خلال مخافة ** نجوم السماء الطالعات الشواخصا

وكان علقمة الفحل من أشعر الشعراء وقتها، فلما سمع بالبيت أجهش بالبكاء، وقال: كذب علينا سليط اللسان، والله ما ننام وفي حلتنا أحد جائع، ونفهم من هذا أن العرب كانت تأنف من أن يكون بين ظهورهم من ينام جائعاً، فكانوا يطعمون كل فقير كان منهم أو لم يكن.

فكانت نارهم لا تطفأ ليلاً ليهتدي بها إليهم مسافر أو ضيف ليكرموه، وفي قول حاتم الطائي لغلامه أيسارخير مثال:

أوقد فإن الليل ليل قر ** والريح يا واقد ريح صر

عل يرى نارك من يمـر ** إن جلبت ضيفاً فأنت حر

هكذا كان عرب الجاهلية يفعلون قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام شدد على ألا ينام مسلم ملء بطنه وأخوه يلعن الجوع حد الكفر، فالمسلم لا يكمل إيمانه إذا بات شبعاناً وأخوه المسلم يبيت جائعاً وهو يعلم، كما عند الطبراني والبزار، بإسناد حسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ".

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ".

إن كنت لا تعلم فقد ذهب عذرك الآن، جهز إجابتك يوم وقوفك أمام الله عندما يسألك عن إخوتك المستضعفين ماذا قدمت لهم؟ جهز إجابتك عندما تتعلق بك فتاة سورية أو أخرى صومالية وأخرى في أي بقعة كانت، ما أكثر المستضعفين في أيامنا هذه وأنت تقف أمام الله تحمل أوزاراً، فيعفو عنك الله وفي طريقك للجنان تحول هذه الطفلة بينك وبينها، وتتعلق بيدك وتقول: يا رب قعد عن نصرتي، وأمسك ماله عني، وبذَّر في طعامه، فكان يرمي به للقمامة ويطعمه لحيواناته كالهرارة والكلاب التي كان يرعاها، وكان يتركني في الثلج والعواصف ينهشني البرد والجوع وينام هو ملتحفاً بأغطية كثيرة.

كنت أستجير به ولا يجيرني، كنت أستطعمه ولا يطعمني، كنت أستنصرنه ولا ينصرني، كنت وكنت يا ربّ وغض الطرف عني، كنت أقتل وأكتوي بالنار يصليني بها البغاة وأنا صغيرة لا أقدر على تنكيل الفسقة بي، فقتلوا أمي وذبحوا أبي وهتكوا عرضي واستباحوا شرفي، وفعلوا بنا ما فعلوا، وهو غارق في بحر الشهوات بين عري وعربدة ورقص وانشغل بهم عني، أيرضيك يا رب أن يفضل عليّ راقصة بـ"عرب أيدول" يبذل لها من المال ما كان يصد بمثله الجوع والبرد عن آلاف مثلي أعواماً، فكان يخذلني ليطربه مغنّون عراة، باعني بالرخيص يا رب، كان إذا رآني على التلفاز زمجر قائلاً: ما هذا النكد غيّر هذه المحطة وأبدلنا بغانية أو متعرية حتى لا يتعكر صفونا.

لا تسامحه يا رب؛ لأنه أعرض عني وعن من هم مثلي، فقد كان يشتري العطور أنواعاً ويبذل لها الغالي والنفيس، وإن وقعت عيناه على جسد امرأة أمطر عليها المال مطراً، وإن وقعت عيناه على ثياب تسوقها وهو لا يحتاجها، وأنا يا رب كنت عارية لا أجد ما يستر جسدي الصغير الذي عصف به البرد والجوع حتى رحمتني إلى جوارك يا ربّ.

كان بخيلاً شحيحاً إذا لقيني أتسول منه حقي الذي فرضته عليه في ماله سبحانك، أعرض عني وتعلل مني بالعيلة والمعيلة والعوز والحاجة، مع أنه كان يأتي بالجواهر أنواعاً ثمينة، ويأكل هو في أغلى المطاعم أشهى اﻷطعمة، ويسرف في مطعمه حتى يخلف وراءه جبلاً من فضلات تلقى للنفايات والقمامة، يلقي به طعاماً زائداً باقياً كان يكفيني أنا وكل اﻷطفال مثلي، حتى إذا استطعمته بكسرة خبز وشربة من ماء وغطاء من صوف أو خيش يدفئ جسدي حتى وإن كان يخدشه قال: من أين؟ جفت أنهارنا، وذبل نباتنا، وهلكت عن أموالنا، جدب النفط، وشربت اﻷرض الزيت، وخرب البيت، وقال: ليت عندنا يا ليت.

أيرضيك يا رب أن نساء الخليج كنَّ يصرفن 30 مليار دولار على مستحضرات التجميل، وأنا مت جوعاً من أجل كسرة خبز بأقل من دولار؟

أيرضيك يا رب؟ القصاص القصاص يا رب، فيجيبها الله فيقتص منك يومها وأنت أغبر أشعث وحيد ذهب عنك مالك، وتفرق عنك عيالك، وانفرط عقد أهلك، كل يقول نفسي نفسي، يومها تقول يا ليتني أعطيتها كل مالي ونصرتها، وبذلت لها روحي ونفرت إليها أذود عنها، ويعجزك الندم أن تقول: "رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ".

ولكن هيهات هيهات، فترفع جلستك وتقتص الفتاة منك، والله أعلم بما سيصنعه بك يومها وقد خذلت هذا الملاك البريء.

فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

فعندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، كانوا لا يحملون من متاع الحياة سوى ثيابهم البالية، وأجسادهم المنهكة، وثقتهم بموعود الله، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم محدثاً الأنصار قائلاً لهم: "إخوانكم تركوا الأموال والأولاد، وجاءوكم لا يعرفون الزراعة؛ فهلا قاسمتموهم؟

قالوا: نعم، يا رسول الله! نقسم الأموال بيننا وبينهم بالسوية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أوَغير ذلك؟ قالوا: وما غير ذلك يا رسول الله؟ قال: تقاسموهم الثمر، قالوا: نعم يا رسول الله، بم؟ قال: بأن لكم الجنة" [صححه الألباني].

وفيهم نزل قول الله تعالى: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر: 9].

وكان للسلف الصالح الكثير الكثير من مواقف النجدة والإيثار.

ومن جميل ما يروى في الإيثار عن سلفنا الصالح، عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً لهم أرغفة معدودة لا تكفيهم شبعاً، فكسروها وأطفأوا السراج، وجلسوا للأكل، فلما رفعت السفرة؛ فإذا الأرغفة محلها لم ينقص منها شيء؛ لأن أحداً منهم لم يأكل إيثاراً للآخرين على نفسه حتى يأكلوا جميعاً!

وأخرج الطبراني في معاجمه الثلاثة، وكذلك ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِيناً، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعاً، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْراً، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ"، حسنه الألباني.

والآن لا نامت أعين الجبناء.

نأكل ونشرب ونتدرع من البرد بأغطية ومنازل، وصبيات يقوم لهن القمر ويقعد أذبلهن الجوع والمرض.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل