المحتوى الرئيسى

سعد إدريس حلاوة.. «تفنى الليالي ولا يبور الدم»

02/26 20:51

70 سنة كان سيبلغها سعد إدريس حلاوة لو كان حيا بيننا الآن، لكن أول شهيد في معركة رفض التطبيع مع العدو الصهيوني لم يكن ليتحمل كل هذا العمر.. في مثل هذه الأجواء.

اليوم تتجدد ذكرى استشهاد سعد إدريس حلاوة، في 26 فبراير 1980، عندما خرج معترضا على استقبال أول سفير لدولة الاحتلال الإسرائيلي في قصر عابدين، فاحتجز (شكليا) رهينتين في مبنى الوحدة المحلية لقريته "أجهور الكبرى" بالقليوبية، لمطالبة نظام السادات بطرد أول ممثل للدولة الصهيونية في القاهرة، بعد "اتفاقية السلام".

إنها ذكرى عظيمة، ولها دلالة كبيرة في تاريخ معركة العرب مع إسرائيل، إذ كانت الرفض الشعبي الأول والأقوى على انتهاء سنوات من الشهداء والجرحى والدماء بمصافحات وابتسامات في معكسر "ديفيد" الأمريكي.

لكن لماذا نقول إن سعد لم يكن ليتحمل البقاء إلى الآن؟

بقراءة التواريخ سنكتشف أو على الأقل نستطيع أن نخمن السبب.

عاش سعد إدريس حلاوة 33 عاما، كان أغلبها في فترة الحروب العربية مع الكيان الصهيوني، فردا ضمن الجموع العربية المقاومة، حتى جاءت السنوات الأخيرة التي تخلى فيها السادات عن الحرب والمقاومة نهائيا واختار "السلام".

سعد مولود في 1947، وعندما بلغ سن العام وشهرين ستندلع أول حرب عربية ضد العصابات اليهودية الصهيونية في فلسطين. وفي العدوان الثلاثي على مصر بقيادة فرنسا وإسرائيل وإنجلترا ردا على قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، سيكون عمر سعد 9 سنوات. وفي نكسة 1967، عندما تصل المؤامرة الغربية الإسرائيلية ذروتها على النظام القومي بقيادة عبد الناصر، سيشاهد الشاب ابن العشرين آثار كل ذلك، وسيفعل كما فعل الآخرون، لن يستسلم وسيبدأ معركة حرب الاستنزاف.

وبعد 6 سنوات من الاستعداد والبطولات العسكرية النوعية في حرب الاستنزاف، ثم بعد المماطلة وأعوام "الضباب" سيتحقق أمل سعد وأمل كل المصريين في العبور واسترداد الأرض المحتلة، وعندما ستنطلق حرب 6 أكتوبر 1973 سيكون ابن "أجهور الكبرى" جاوز الـ26 عاما.

26 سنة من 33 عاشها سعد في واقع لا يعترف بأن لإسرائيل حق في أرض فلسطين، حروب وخطب وصراعات، مشروع لقومية عربية، يتلمس خطاه في السويس 1956 ويثبت قديمه في الوحدة بين مصر وسوريا في 1958 وينتكس في 1967 مخلفا شهداء وضحايا وأمة جريحة من الكيان الصهيوني.

شخص مثل هذا سيكون مؤهلا بالفعل لرفض "اتفاقية السلام" أو "مشاريع التسوية" وخلافه، لكن لماذا يقدم بهذه الجرأة على الاعتراض على استقبال سفير دولة الاحتلال بعد 7 سنوات من حرب أكتوبر، وبعد 10 سنوات من وفاة عبد الناصر؟.

هنا نعود إلى سعد نفسه.

هو فلاح مصري بالمعنى العميق للكملة، أتيحت له فرصة التعليم في العاصمة لكنه عاد إلى بلدته ليعمل في الأرض، وقضى فيها باقي حياته، للأرض عنده قيمة الوطن، في سموه وقدسيته، شخص مثل هذا طاقة تحمله لضياع الأرض أو التفريد فيها أو "تنديسها" أقل بكثير من الآخرين.

بجانب حبه للأرض، نشأ سعد بـ"فكر حر" كما يقول عنه أهله وأصدقاؤه، شاب مثقف يتابع نشرات الأخبار الهالمية، وله رأي في كل ما يجري حوله.

عندما ذهب بسلاحه إلى الوحدة المحلية في قريته لينفذ عملية الاحتجاج الفردية والمصغرة قال مخاطبا أهل القرية، بحسب ما يورده شفيق أحمد علي في كتابه "من الملف السري للسادات والتطبيع: عملية اغتيال سعد حلاوة": "أنا سعد إدريس حلاوة، أنا منكم وعارفين إنني فلاح زيكم، بازرع أرضي بايدي وبعرقي، ما سبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت أو أستلف بالفايظ، علشان أشتري تذكرة سفر، أو عقد مزور في ليبيا أو السعودية".

كان مصريا لم يُلوث بأفكار الانفتاح وتغليب المكسب على القيمة. لم يكن سعد راضيا عن حكم أنور السادات، ويحكي صديق له كان يعمل ضابطا في الجيش قبل استشهاد سعد: "في أجازاتي كان يتحدث معي في السياسة، ويقول إنه غير راضي عن علاقتنا مع إسرائيل وأمريكا، ويحكي لي عن الصهاينة الذي قتلوا أبناءنا في بحر البقر وفي كل مكان".

عبد الباسط.. ناصر.. حليم، مثلث عملية تقدمية

في تفاصيل الثورة المصغرة التي نفذها سعد حلاوة الكثير والكثير.

الفكرة تنتمي إلى ذلك النوع النبيل والعظيم من الأحلام. فلنتخيل شابا ريفيا من قلب الدلتا يغلي دمه في عروقه بسبب أن أننا أصبحنا في "علاقة سلام" مع إسرائيل، وأن الصهاينة سيكون لهم سفارة عندنا، كان هذا جنونيا وقتها، ماذا يفعل شاب ريفي مثقف ومعروف لكنه ليس قائدا شعبيا بالمعنى الشائع؟

أولا يفكر الشاب في توقيت اعتراضه وبذكاء يختار نفس الساعة التي يستقبل فيها السادات السفير الإسرائيلي في قصر عابدين، وفي ذلك رسالة إلى رأس الحكم مباشرة، فلاح مصري يحرج "بطل الحرب والسلام" في قلب قصره الجمهوري وأمام "أصدقاءه الجدد".

ثانيا يختار سعد مكان العملية، الوحدة المحلية بالقرية، من المؤكد أنه فكر كثيرا في هذا، فمبنى الوحدة مبتى حكومي يتبع السلطة التنفيذية والدولة، تخيلوا هذا التفكير واسع الأفق رغم ضيق الإمكانيات.

لا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل سعد حلاوة وهو يفكر وحيدا في تفاصيل الاحتجاج، فيستدعي ثقافته الكبيرة ويطبقها على مفردات قريته الصغيرة، فيقول "سأذهب إلى الوحدة المحلية ومن هناك سأعلن ثورتي".

ثالثا، يبدو ان سعد لم يثور اعتباطيا، هو يعلم جيدا ما يفعله، لذلك أخذ معه شرائط كاسيت لتلاوة قرآنية وخطب عبد الناصر وأغاني عبد الحليم حافظ. للثلاثة أشياء دلالة عريضة ودلالات تفصيلية. فهذه ليست عملية جهادية بالمعنى الديني، بل هي عملية ثورية تقدمية، تستند إلى تراث مصري في صورت عبد الباسط عبد الصمد وهو يقرأ القرآن، وصوت عبد الناصر وهو يشكل مع الجماهير العربية أحلام الكرامة والعروبة، وصوت عبد الحليم وهو يعبر عن مشروع قومي كبير من بوابة الفن.

رابعا، كان سعد يعرف أن اعتصامه في الوحدة المحلية يجب أن يكون مؤمنا ولو بشكل نسبي، إذن لا بد من وجود رهائن، ولو كان عددا صغيرا، لكن هؤلاء الرهائن لا يجب أن يدفعوا ثمن ما يقوم به هو، لذلك أعد طعاما وشرابا وفاكهة بزيادة، وفي الساعات الصعبة والسلطة في مصر واقفة على أصابعها خوفا مما سيقدم عليه ذلك "المجنون" كما سموه، كان سعد يقدم الطعام والفاكهة للرهينتين الذين تصادف وجودهما في الوحدة المحلية وقتها.. ما كل هذا النبل؟

ثائرا نبيلا كان سعد إدريس حلاوة، يحلم بإعادة العقل إلى العالم المجنون من قلب قرية صغيرة، وهي أشياء لا يعرف لها الطغيان معنى، لكنه يخاف منها لأنها تهدد وجودده.

هذا ما فعله نظام السادات بأجهزته الأمنية، والطريقة التي استشهد بها سعد دليل على ذلك.

سنمر سريعا على تفاصيل الاحتجاز والحشد الأمني المجنون لمواجهة فرد واحد يقول "لا تدنسوا أرض مصر بالصهاينة"، وسنصل إلى لحظة استشهاد سعد، أو بالأدق "اغتياله".

نرشح لك

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل