المحتوى الرئيسى

حلقات كتاب عبدالله السناوى: أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز.. عقدة هيكل.. أوضاع قرب نهاية نظام «١٠ــ ١٠»

02/26 01:00

هيكل لم يقتنع بأسباب «السادات» فى اختياره مبارك نائبا

صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية نشرت 3 تقارير مطلع 1981 تؤكد أن «مبارك قوى وينازع على السلطة»

السادات لم ينتبه إلى تقرير للمخابرات الأمريكية يقول إنه عليه ترك الحكم لنائبه

تبدت فرضية رئيسية أن «مبارك» هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة «السادات»

فى يناير ٢٠١٠ قال هيكل أمام شاشات الفضائيات: «نحن أمام أوضاع قرب النهاية»

فى وداع صديق قديم بإحدى كاتدرائيات لندن وقف الأستاذ «محمد حسنين هيكل» بجوار الزعيم الجنوب إفريقى «نيلسون مانديلا» فى النصف الثانى من مارس (٢٠٠٥).

تحدث الرجلان فى القداس الجنائزى عن مآثر «أنتونى سيمبسون» أشهر من تولوا رئاسة تحرير «الجارديان».

«كان سيمبسون إحدى العلامات الكبرى فى تاريخ الصحافة البريطانية المعاصرة»، فلا يمكن الدخول إلى عوالمها الحقيقية، أو التعرف على أسرارها ومعاركها، دون الاقتراب من شخصيته وأدواره وأعماله التى كرّست قيمته مثل: «بازار السلاح» و«خفايا البترول» و«من يحكم هنا؟».

وهو يصف ـ من لندن ـ ما جرى فى الكاتدرائية ذلك الصباح توقف عند سؤال: «من يحكم هنا؟» قبل أن يردف: «فى بريطانيا لا فى مصر!».

قلت: «لكن الأحوال هنا تستدعى نفس السؤال.. أين القوة الحقيقية فى تقرير السياسات وما طبيعة الموازنات فى بنية السلطة؟».

بعد رحلة استغرقت أسبوعين خطر له أن يطرح سؤال «سيمبسون» على الواقع المصرى فى أول حوار بيننا وفق ما طرأ من أحداث خلال سفره وما تنبأ به من تحولات.

جلسنا على مقعدين متواجهين على الناحية الأخرى من مكتبه.

قال: «أريد أن أعرف ما جرى فى غيابى كأننى كنت هنا، أين التطورات الأساسية فى حركة الحوادث، ما خلفها وما قد تتطور إليه؟».

بجملة قاطعة قال: «إن ما يحدث تحول نوعى فى الحياة السياسية المصرية وغياب البدائل مقلق، إن أحدا لا يعرف بالدقة كيف تحكم مصر فى المستقبل، أو ما قد تجرى به مقادير وعواصف السياسة فيها؟».

.. هكذا نشرت بالنص الكلام منسوبا إليه فى (٣) إبريل (٢٠٠٥).

لم يكن مقتنعا بأسباب «السادات» فى اختياره نائبا للرئيس من أن جيل أكتوبر جاء وقته ليحل مكان جيل يوليو.

بصورة ما استشعر من إشارات الرئيس، وهما يتحاوران مجددا عام (١٩٧٥) فى استراحة القناطر الخيرية، إنها نصيحة من الشاه «محمد رضا بهلوى»، الذى عين زوج شقيقته الجنرال «محمد فاطمى» قائدا للطيران لأنه السلاح «الذى يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أى تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب».

سأله «هيكل»: «هل تلك نصيحة من شاه إيران؟».

«ارتفع صوت السادات محتجا»: «جرى لك إيه يا محمد؟!».

تبدت صباح الاثنين (٥) يناير (١٩٨١) تساؤلات جديدة فى قصة «النائب الغامض».

فقد نشرت صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية تقريرا فى أعلى يسار صفحتها الأولى كتبه محررها لشئون الشرق الأوسط عن صعود نفوذ النائب «حسنى مبارك» وصراعات السلطة فى مصر.

صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادعاءات والأكاذيب» دون أن تشير إلى طبيعة مادتها.

فى ذات اليوم قرر «السادات» إنزال عقاب جماعى بالصحيفة ومحرريها: ممنوع دخول أية أعداد منها، أو منح أى من محرريها تأشير دخول.

فى اليوم التالى «الثلاثاء» اعتبرت «الجيروزاليم بوست» الإجراءات بحقها هى الأولى من نوعها ضد صحفيين إسرائيليين منذ السماح لهم بالعمل فى مصر بعد زيارة القدس.

نشرت تقريرا ثانيا لنفس المحرر فى نفس الموضوع أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين «السادات» و«مبارك» فى قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل.

ناقض الكلام الإسرائيلى بفداحة الصورة التى استقرت عن «مبارك» فى تلك الآونة التى قللت من شأنه وسخرت منه، فهو قوى وينازع على السلطة وله أنصار فى القصر الجمهورى.

فى الكلام روايات يصعب التسليم بمبالغاتها، لكن التأكيد عليه لثلاث مرات متتالية فى أهم صحيفة إسرائيلية قد يشير لحقائق غاطسة لا نعرفها حتى الآن.

لم يقرأ «السادات» الغاضب ما خلف النصوص من رسائل إلى المستقبل القريب.

لم يتوقف بالتنبه الكافى عند فقرة أشارت إلى تقرير جديد للمخابرات الأمريكية يقول نصا: «يكفى السادات عشر سنوات فى الحكم وعليه أن يتركه لمبارك».

ذلك ما تحقق بعد شهور قليلة من نشر النص المثير.

استحوذ على تفكير «السادات» هاجس «هيكل».. وذهب تفكيره إلى أنه هو مصدر معلومات التقرير الموسع.

طرح هواجسه أمام وزير الإعلام والثقافة «منصور حسن»، وهو مقرب ومحل ثقته.

استبعد الوزير الشاب الفكرة تماما: «يا فندم.. هيكل لا يتصل بالإسرائيليين».

لكن هواجسه لم تغادره ودعا وزير إعلامه أن يستقصى الحقيقة بنفسه من رئيس تحرير «الجيروزاليم بوست»، الذى طلب زيارة القاهرة لإنهاء الأزمة مع الرئيس المصرى.

عندما وصل إلى القاهرة توجه مباشرة إلى مكتب السفير «حسن عيسى» مدير مكتب وزير الإعلام، لينتقل معه إلى منزل الوزير الذى وجه له سؤالا مباشرا: «لا أريد أن أعرف مصادر صحيفتك فى القاهرة.. لكن قل لى نعم أم لا.. هل هو هيكل؟».

لماذا تصور «السادات» أنه «هيكل»؟

وما الذى أغضبه إلى هذا الحد؟

لا بد أن شيئا حقيقيا حوته النصوص الإسرائيلية.

استمعت إلى تلك القصة من «منصور حسن»، ولم يكن «هيكل» على معرفة بها.

كان ذلك داعيا لمحاولة الوصول بكل طريقة ممكنة للتقارير الإسرائيلية الثلاثة حتى تتضح الأسباب، التى دعت «السادات» إلى توجيه أصابع الاتهام إلى «هيكل».

لم تكن تلك المقالات على الموقع الإلكترونى لـ«الجيروزاليم بوست»، فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة.

بمعاونة صحفيين فلسطينيين خلف الجدار جرى الوصول إليها من أرشيف الصحيفة.

استرعى انتباه بعض العاملين فيها أن هناك من ينقب عن شيء ما فى الأرشيف، وكانت هويتهم العربية كافية لطردهم، لكنهم حصلوا على غنيمتهم بطريقة أخرى، وأرسلت على عجل إلى القاهرة عبر أمستردام.

كانت تلك القصة المجهولة موضوعا لحوار بين الرجلين، «هيكل» و«منصور حسن»، وبعض ما ورد فى الصحيفة الإسرائيلية نشرته فى صحيفة «الشروق» فى (٤) يونيو (٢٠١٢) عن «السادات ونائبه الغامض».

تبدت فرضية رئيسية أن «مبارك» هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة «السادات».

سألت الأستاذ: «هل كان السادات ضحية لشيء ما جرى فى الظلام؟».

أجاب: «لا.. كان ذلك اختياره».

فى فبراير (٢٠٠٧) أعلنت المؤسسة، التى تحمل اسمه، عن استضافة الصحفى الأمريكى «سيمور هيرش» لإلقاء ثلاث محاضرات عن «صحافة الاستقصاء»، أو «صحافة العمق» بوصفه «واحدا من أهم صحفيى التحقيقات فى العالم وأكثرهم شهرة وتأثيرا، وهو يركز فى تحقيقاته على إساءة استخدام القوة والسلطة تحت ذريعة حماية الأمن القومى الأمريكى».

هكذا عرفه فى ورقة معنونة بـ«سيمور هيرش ـ معلومات أساسية» لم يوقع عليها.

فى سجل «هيرش»: فضح مذبحة «ماى لاي» فى فيتنام (١٩٦٩)، وكشف النقاب ـ للمرة الأولى ـ عن الترسانة النووية الإسرائيلية بكتابه «الخيار شمشون« (١٩٩١)، التى كانت سرا غامضا لعشرات السنين، و«ثمن السلطة ـ كيسنجر فى بيت نيكسون الأبيض»، الذى حاز جائزة صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» لأحسن كتاب وجائزة النقاد لأحسن كتاب على المستوى القومى، و«القيادة الأمريكية العمياء ـ الطريق من (١١) سبتمبر إلى سجن أبو غريب».

وفى سجله: خبطات صحفية أخرى نشرتها «نيويورك تايمز» و«نيويوركر»، وكان آخرها فى ذلك الوقت تحقيقا موثقا عن «الخطة السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية للهجوم على إيران»، كما أفضت إحدى خبطاته إلى إطاحة وزير الدفاع الأمريكى «رونالد رامسفيلد»، وهو مجرم حرب بأى معنى إنسانى أو قانونى.

أسباب «هيكل» فى اختياره كأول محاضر دولى فى مؤسسته لم تكن مجهولة أو ملتبسة، فقد قصد أن يوفر للصحفيين المصريين والعرب الشبان فرصة حقيقية للإلمام ببعض تقنيات صحافة الاستقصاء.

رغم ذلك كله فقد كان اسم «هيكل» لوحده كافيا لإثارة حملة حول «سيمور هيرش» وديانته اليهودية، وإذا ما كان هناك صحفيون أفضل فى الغرب منه أم لا.

اعتاد «هيرش» أن يتقاضى فى المحاضرة الواحدة داخل الولايات المتحدة (٣٠) ألف دولار غير أنه تقديرا لـ«هيكل» ومؤسسته خفض مكافأة المحاضرة الواحدة إلى النصف (١٥) ألف دولار، فضلا عن تكاليف السفر والإقامة.

قبل أن يبدأ محاضرته عن احتمالات الحرب على إيران تحدث «هيكل» فى كلمة مقتضبة ودالة من فوق منصة قاعة «إيوارت» بالجامعة الأمريكية امتلأت عن آخرها بصحفيين كبار وسفراء غربيين وأكاديميين ووزراء سابقين وطلاب من الجامعة نفسها.

قال: «فوجئنا بأبواب عديدة توصد أمامنا، وأنا لا أريد أن أشير إلى ما لا يلزم ـ ربما لا يستحق ـ الإشارة إليه، لكن من حق الجامعة الأمريكية عليّ أن أقول إنها، وإن لم تكن مقصدنا الأول، أصبحت ـ مع إحساسها بمعنى الحق فى المعرفة ـ ملجأنا الأخير.

فى البداية كان فكرنا أن تكون إحدى قاعات مكتبة القاهرة الكبرى مكانا تعقد فيه هذه الدورة الأولى من نشاط المؤسسة، وهى دورة دعونا إليها الصحفى الكبير سيمور هيرش، لأننا اخترنا صحافة العمق موضوعا لها، واسم سيمور هيرش هو أول ما يخطر على البال فى هذا المجال فى الصحافة العالمية.

ومع أن قاعات مكتبة القاهرة مفتوحة لمناسبات كثيرة متعددة الاهتمامات، إلا أننا تلقينا ردا بالاعتذار لسببين مختلفين.

الأول، أن هناك مشكلة أمن.. والثانى، أن سيمور هيرش يهودى.

من المدهش أن تثار مثل هذه الإشارة المثقلة بمواريث الجانب المظلم فى التاريخ غير العربى وغير الإسلامى دون تفرقة بين الديانة اليهودية وبين العدوانية الإسرائيلية، خصوصا بالنسبة لرجل مثل سيمور هيرش، وهو الذى كشف أمام العالم كله خبايا وخفايا مشروع إسرائيل النووى، منبها إلى حجمه وخطره، ولعلها من المفارقات أن تصدر مثل هذه الإشارة إلى ديانة سيمور هيرش هنا، فى حين أنها نسيت مع أمثال مناحم بيجين وشامير ورابين وديان وشارون وإيهود أولمرت.

على أن باب مكتبة القاهرة الكبرى لم يكن الباب الوحيد الذى جرى إغلاقه أمام المؤسسة، لكن هذا الإجراء المبكر بدا إشارة مبكرة إلى تصرفات لاحقة، أوثر ألا أشير لها، ولولا أن مسألة يهودية سيمور هيرش وصلت إليه لما أشرت إليها، لكنى أذكرها هنا لكى أعتذر عنها لرجل وقف دائما بالحق فى مواجهة القوة، ابتداء من مذبحة ماى لاى فى فيتنام إلى مأساة سجن أبوغريب فى العراق.

لقد وقف سيمور هيرش كصحفى بالحق ضد القوة فى بلاده، وكثير فيه داخل إلى الصميم فى قضايا الشرق الأوسط، ويبقى أمر أريد توضيحه فى هذا المجال مؤداه أننى لم أستطرد كثيرا فى حديث الأبواب المغلقة لأنى لا أريد تسييس عملنا، مع تسليمى بالطبع بأن السياسة مثل الهواء لا يمكن عزلها عن طبائع الحياة العامة، وأولها الأفكار والمواقف، لكننا مطالبون ـ أحيانا ـ بأن نراعى اعتبارات متناقضة، وعلى أى حال فتلك هى المأساة الإنسانية المشهورة: البشر والقدر ـ والمأمول والواقع ـ والممكن والمستحيل».

لم يشر «هيكل» إلى القصة كلها، التى تابعت بعض فصولها، فقد أغلقت الأبواب أمام تلك المحاضرة، وتراجع مسئولون كبار عن تعهدات قطعوها تحت ضغط الأمن، والأمن تحت ضغط الرئاسة.

كان ذلك تعبيرا موجعا عن فجوات وتناقضات ومآسٍ فى النظر إلى القضايا العربية، وفى الصمت على رموز التعصب الإسرائيلى بينما الهجمات تنصب بلا عدل على من يقفون بجانبنا فى الغرب لمجرد أنهم يهود.

كانت أول جملة أطلقها «هيرش» من فوق منصة الجامعة الأمريكية: «هذه المرة الأولى التى يذكر فيها اسمى مع بيجين وشامير».. فضجت القاعة بخليط من الضحك والتصفيق والأسى.

تصادف أن وجدت نفسى طرفا فى واحد من الاتصالات النادرة بين «هيكل» و«مبارك».

بدأ كل شىء وانتهى فى صمت إلى أن اتهمته جريدة «روزاليوسف» بالتنكر لفضل الرئيس فى رعاية حالته الصحية.

بتاريخ (١٥) إبريل (٢٠٠٧) نشرت على الصفحة الأولى من جريدة «العربى» القصة التالية:

[لأول مرة: القصة الحقيقية للاتصالات الهاتفية بين مبارك وهيكل

أشارت إحدى الصحف الرسمية ـ فى معرض هجومها على الأستاذ محمد حسنين هيكل على خلفية حواره مع روبرت فيسك كبير مراسلى الإندبندنت البريطانية ـ إلى اتصال هاتفى أجراه الرئيس مبارك مع الأستاذ هيكل ليطمئن على صحته بعد أزمة صحية خطيرة تعرض لها قبل سنوات.

جاءت المعلومات، التى أوردتها الصحيفة تسريبا من جهة ما، غير دقيقة فى وقائعها ومسيئة للرئيس والكاتب الكبير معا، والقصة الحقيقية أن السيدة قرينة الرئيس اقترحت عليه الاتصال بالأستاذ هيكل ليطمئن على صحته، وطلب الرئيس رقم هاتف الأستاذ فى مزرعة برقاش من وزير الثقافة فاروق حسنى دون لجوء للأجهزة الأمنية أو رئاسة الجمهورية، مفضلا الطابع الشخصى فى هذا الاتصال وبدوره اتصل وزير الثقافة بالناشر المعروف الأستاذ إبراهيم المعلم، الذى كان موجودا وقتها فى ألمانيا استعدادا لمعرض فرانكفورت للحصول على رقم الهاتف، وبدا للوزير أن يتأكد من دقة الرقم، فاتصل بعبدالله السناوى رئيس تحرير «العربى» وبعد نحو (١٠) دقائق اتصل الأخير بالأستاذ هيكل سائلا: ماذا جرى فى الاتصال الهاتفى الذى انهيته للتو؟.. ورد الأستاذ هيكل مستغربا: أى اتصال؟.. ثم فوجئ مرة أخرى بالإجابة: الرئيس.

فى وقت لاحق روى الأستاذ هيكل للسناوى، الذى كان طرفا فى جانب من الواقعة، أن مبارك قال له: لك دور فى البلد ولك قيمة فيه، وأية تكاليف علاج فى أى مكان فى العالم تختاره سوف تسدده الدولة فورا.

اعتذر هيكل ـ شاكرا ـ مبادرة الرئيس: ظروفى المالية تكفى وتزيد للتكفل بمصاريف العلاج، والعملية أجريت بالفعل قبل سنتين. وأنا يا فندم مقدر جميل اهتمامك وممتن، وهناك من هو أولى منى بالعلاج على نفقة الدولة، ثم أردف: ومع ذلك فإنى اعتبر عرضك «احتياطى استراتيجى» حين الضرورة.

ضحك الرئيس ومازحه: يا أستاذ «هيكل» احتياطى استراتيجى إيه هو أنت لازم تفلسف كل حاجة فى الدنيا.

بدت هذه المهاتفة ـ فى جانبها الإنسانى ـ مقدرة من الأستاذ «هيكل«، وقد تكون هناك اتصالات أخرى جرت بينهما فى ظروف مختلفة.

طلب الأستاذ «هيكل« من «السناوى» عدم نشر أية أخبار عن هذه الاتصالات، مفضلا أن يترك للرئيس وحده تقدير النشر من عدمه، وقد التزمت «العربى» برغبة «الأستاذ» فى عدم النشر إلى أن اقتحمت صحيفة رسمية القصة بصورة مشوهة خلطت ما لا يختلط بين تقديرات سياسية من حق «هيكل» أن يعرب عنها وأن ينتقد أوضاعا سياسية حالية وفق اعتقاداته وبين اعتبارات إنسانية ملك أصحابها].

قبل أن تذهب الجريدة إلى المطبعة صباح السبت (١٤) إبريل اتصل فى الساعة السادسة صباحا ليراجع الصياغة بنفسه ويتأكد من دقة كل حرف فى كلام حساس.

كان يراجع ما رويته على نص أصلى أمامه، فقد سجل الواقعة «فى خطاب شكر مكتوب بعثت به إليه من باب الوفاء وفى الوقت نفسه لكى يكون هناك مرجع لا يترك مجالا لسوء فهم» ـ كما كتب بقلمه فى كتابه الأخير «مبارك وزمانه»، وقد كان «مبارك» فى السجن وزمانه انقضى.

يستوقف الانتباه ـ أولا ـ تعبير الوفاء للسؤال عنه فى لحظة مرض.

ويستوقف الانتباه ـ ثانيا ـ أنه نشر الرسالة بكامل ألفاظها وحروفها كما كتبت فى وقتها وظروفها دون تعديل حرف واحد.

كان مقال «فيسك» عن «رجل الشرق الأوسط الحكيم»، الذى استدعى هجوم «روزاليوسف» عليه خطيرا إلى حد أن «فيسك» نفسه قال فى مقدمته: «أستطيع أن أرى الرئيس المصرى حسنى مبارك ـ الذى يقرأ الإندبندنت ـ مندهشا وهو يقرأ الفقرة التالية.. يقول هيكل إن الرئيس مبارك يعيش بعالم خيالى فى شرم الشيخ، دعونا نواجه الأمر، هذا الرجل لم يعتدِ أبدا على السياسة، لقد أصبح سياسيا فى الخامسة والخمسين من عمره.. ولم تعلمه حادثة المنصة التى اغتيل فيها الرئيس السادات وقد كان إلى جواره سوى أن يحافظ على الأمن».

انتقادات «هيكل» رآها «فيسك» مدمرة لنظام «مبارك»، غير أنه أورد على لسانه وصفا يشبهه بـ«بقرة ضاحكة».

سألته: «هل ورد مثل هذا الوصف فى كلامك؟».

قال: «كل ما هو منسوب لى صحيح وأتحمل مسئوليته، لكن مثل هذه الأوصاف لا ترد على قاموسى السياسى ولا الشخصى وأنت تعرف ذلك».

فى أول تصريح صحفى نفى ما هو منسوب إليه من تعريض شخصى لا يليق به.

كان يعرف بالاسم من أطلق ذلك التعبير سخرية من النائب واستخفافا به من داخل الدائرة الضيقة للرئيس «السادات».

لكنه لم يكن يقحم نفسه فى صغائر الأمور، ولا كانت له قضية شخصية مع «مبارك» بقدر ما كانت قضيته من أولها إلى آخرها مع سياساته وما ترتبت عليها من آثار ونتائج على مجمل الحياة العامة.

«يشرب» ـ هكذا بكلمة واحدة لخص الرئيس «حسنى مبارك» ما جرى لسكرتيره السابق للمعلومات الدكتور «مصطفى الفقى» من مضايقات فادحة إثر ما قاله فى حوار مع صحيفة «المصرى اليوم» من «إن الرئيس القادم لمصر يحتاج إلى موافقة أمريكا وعدم اعتراض إسرائيل»، وعلق عليه «هيكل» بكلمة مقتضبة عنوانها دال على معانيها: «وشهد شاهد من أهلها».

كان التعليق بـ«يشرب» تعبيرا عن شماتة فى «الفقى»، الذى لم يكن يكف تحت كل الظروف عن إبداء إعجابه البالغ بـ«هيكل» بصورة ضايقت أهل الحكم.

لم يكن تصريح «الفقى» فى يناير (٢٠١٠) كشفا جديدا فى حسابات القوى والنفوذ الفاعلة فى النظام السياسى المصرى بعد توقيع معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية، أو قبلها بسنوات عندما ارتبطت السياسات المصرية بنوع من التحالف مع الاستراتيجيات الأمريكية فى المنطقة، وكان أخطرها إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى بصورة أدت إلى ارتفاع منسوب الدور الخارجى فى تقرير الشأن الداخلى.

الجديد أن هذا الكلام المتواتر عن دور أمريكى، وراءه حسابات إسرائيلية، فى الخيار الرئاسى صدر عن رجل اقترب من السلطة وكواليسها، الأمر الذى دعاه إلى وصف هذا التصريح المثير بأنه يصدر عن «شاهد ملك» عاين بنفسه.

«إننى توقفت أمام هذه العبارة… لأنها جملة كاملة، وجملة معبرة، وجملة مسئولة بلا سهو أو خطأ ـ باعتبار أن صاحبها يعلم ما يقول، ويقول ما يعلم، فقد تولى منصبا رفيعا فى الرئاسة لسنوات طويلة ـ وهو منصب سكرتير الرئيس للمعلومات ـ ثم إنه تصدر لمهمة كبيرة لا يزال عليها، وهى رئاسة لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب».

«وإذا ما كان ما ذكره الدكتور الفقى خبرا، وهو خبر بالتأكيد، فإن هناك أسئلة وإجابات لازمة لاستكماله، وكلها ليست من عندى، وإنما هى مجمل أول درس عن قواعد المهنة وأصولها سمعناه جميعا».

«والحاصل أن الدكتور الفقى أجاب عن سؤال واحد من أسئلة الخبر، وهو السؤال بماذا، أى ماذا حدث…. لكن حق المهنة ـ وواجبها ـ يستدعى بقية من أسئلة لا بد لها من إجابة حتى يستوفى الخبر أركانه».

«هناك السؤال عن متى؟ أى متى وقع الخبر؟ ومتى أصبح اختيار الرئيس فى مصر بموافقة أمريكية، وعدم اعتراض إسرائيل؟!.. وهناك السؤال عن: كيف؟ ـ وهناك السؤال عن: أين؟ وهناك السؤال عن: من؟ ـ وهناك السؤال عن لماذا؟ وأخيرا هناك السؤال عن: ثم ماذا؟!».

اتصل ما كتبه بالظلال الكثيفة على صورة «مبارك»، من هو؟ وكيف صعد وبقى فى الرئاسة لثلاثين سنة؟.. ومن بعده فى الاختيار الأمريكى برضا إسرائيلى؟

كان يمكن أن يمضى ما قاله «الفقى» إلى حاله دون ضجة كبيرة لو لم يعلق «هيكل» عليه فى الصفحة الأولى من الجريدة نفسها «المصرى اليوم».

بدا «الفقى» فى وضع حرج للغاية، فأقلام الحكومة تهاجمه بضراوة، وأقلام المعارضة تستشهد بما قال لتأكيد ما هو ثابت من توغل الدور الأمريكى فى الداخل المصرى.

فى تعليق «مبارك» بـ«يشرب» تبدت مرة أخرى «عقدة هيكل» مستعصية ومقيمة.

Comments

عاجل