المحتوى الرئيسى

أميركا التي رأيَا: الجامع بين نظرتَي فيديريكو غارسيا لوركا وسيّد قطب

02/25 00:25

الأوّل شاعر وكاتب مسرحي إسباني، ولعلّه من أهمّ أدباء القرن العشرين، ينتمي إلى "جيل 27" الأدبي التقدّمي، والثائر على قواعد الشعر وتقاليد المجتمع، والداعي إلى التحرّر من هذه القيود وإلى التغيير؛ التحق كطالب في جامعة كولومبيا في الولايات المتّحدة الأميركية بين 1929 و1930؛ حيث نظم أحد أشهر دواوينه: "شاعر في نيويورك" (1)، والمنشور لأوّل مرّة سنة 1940، أي بعد موت الشاعر بأربع سنوات.

أمّا الثاني، فكاتب وأديب وناقد أدبي مصري، قال عنه طه حسين يوماً إنّه "انتهى في الأدب إلى القمّة والقيادة" (2)، حصل على بعثة للولايات المتّحدة الأميركية من وزارة المعارف المصرية للتخصّص في التربية وأصول المناهج بين 1948 و1952، وقد كتب أثناء وجوده في أميركا مجموعة من المقالات عن الحياة فيها ونشرها في الصحف المصريّة، وأهمّ هذه المقالات: "أميركا التي رأيت"؛ وذلك قبل أن يعود لمصر ويصبح عضواً في مكتب إرشاد الإخوان المسلمين، ومن أشهر المنظّرين الإسلاميّين في القرن العشرين، وأكثرهم تأثيراً، حتّى اليوم، في الحركات الإسلامية على اختلافها.

للوهلة الأولى، يمكن للقارئ أن يظنّ أنّ لا شيء يمكن أن يجمع بين هذين الأديبين الآتيين إلى أميركا -مع فارق عقدين من الزمن فقط- من بيئتين وحضارتين وعقليّتين وثقافتين مختلفتين (حتّى لو كان لوركا من غرناطة ومطّلعاً على حضارة الأندلس السالفة فيها).

إلّا أنّه بعد الاطّلاع على "شاعر في نيويورك"، و"أميركا التي رأيت"، يفاجأ القارئ بتعدّد القواسم المشتركة، لا بل بالتشابه الموجود إلى حدّ كبير بين كلّ من نظرة لوركا ونظرة قطب إلى أميركا، في أواسط القرن العشرين.

إنّ أغلب الأدباء والمفكّرين الذين زاروا أميركا أو هاجروا إليها، لا سيّما في تلك المرحلة من الزمن، أو في بدايات القرن العشرين، رأوا أميركا بعيون ملؤها الإعجاب والدهشة والإطراء والانبهار، وقالوا بضرورة تقليد ما رأوه ونقله إلى البلدان التي أتوا منها (مثلاً: "شعراء المهجر" من بلاد الشام عندئذ، أي السوريون وخصوصاً اللبنانيّين). أمّا السمة الأساسيّة المشتركة بين نظرتي لوركا وقطب، كما تتجلّى من كتاباتهما فهي، على العكس من ذلك تماماً، النفور من أميركا، وهو نفور كبير، قد عبّرا عنه بشكل واضح وجريء.

أمام المفاجأة الكبيرة التي أفرزتها الانتخابات الأميركية الأخيرة، التي شكّلها وصول اليمين المتطرّف، المتمثّل بدونالد ترامب وغالبية مستشاريه، إلى مركز القرار الأوّل في أميركا، مع ما يرافقها من إجراءات إقصائية وقمعية وعنصرية وعدائية بشكل يومي، ربّما شكّلت العودة إلى نصوص لوركا وقطب في تجربتهما الأميركية، محاولة -ولو محدودة- لفهم ما يحصل، لا سيّما وأنّهما حاولا -كلّ بأدبيّاته- سبر أغوار العقلية الأميركيّة، وتبيان العوامل الثقافية السلبية الأساسية في هذه الحضارة، والمتأصّلة في جيناتها.

لا مجال هنا للغوص عميقاً في عرض أشكال هذا النفور، ولا للخوض في مسبّباته، أو تحليل مضمونه تفصيلياً، لا سيّما أنّ كاتب هذه السطور ليس من أهل الاختصاص في الأدب المقارن، نكتفي بعرض موجز جدّا لأهمّ تجليّات هذا النفور عند الأديبين، كما يمكن أن يستشفّه أي قارئ ممّا كتباه.

1- حضارة بلا جذور، مادية، قاسية:

قبل كلّ شيء، يشترك الأديبان في نظرتهما إلى أميركا كحضارة بلا جذور. ففي قصيدة "الفجر"، التي يصف فيها فجر نيويورك كمقبرة لكلّ أمل، يقول لوركا: "النور مدفون في سلاسل وضجيج، في تحدٍّ وقح لعالم بلا جذور".

من جهته، يذكّر قطب أيضاً، في "أميركا التي رأيت"، بـ"الحياة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى، التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين، فالمغامرون جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات، والمجرمون جيء بهم من بلاد الإمبراطورية الإنكليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج".

وبنظر الأديبين، فإنّ أميركا ليست فقط حضارة بلا جذور؛ بل هي أيضاً حضارة ماديّة قاسية، يلخّصها قطب بوصفه الشعب الأميركي بأنّه "شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي، لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!".

وهو بذلك يقترب جدّاً من لوركا الذي يصف بأسى كبير، في قصيدة "الفجر" مثلاً، هذه المادية وقسوة الحياة: "وقطع النقود أحياناً، كأسراب نحل غاضبة، تثقب أطفالاً مهمَلين وتلتهمهم. الأوائل الذين يغادرون منازلهم يدركون في عظامهم، أنه ليس هناك فردوس ولا حب بلا أوراق، يعرفون أنهم يتجهون إلى وحل الأرقام والقوانين، إلى ألعاب لا فن فيها، إلى عرق يتصبَّب سدى".

ويكمل لوركا في نفس القصيدة: "في الأحياء، هناك أناس يترنحون أرقاً، كما لو أنهم خارجون لتوِّهم من سفينة دماء تغرق".

أمّا قطب، فيبدو أنّه مصدوم من تجليات هذه المادية، لا سيّما في العلاقات العاطفية: "إن هذا كله قد تجردت منه الحياة في أميركا مرة واحدة، وتجلت عارية عاطلة من كل تجمل "ذكراً وأنثى"، كما خلقهم أول مرة، جسداً لجسد، وأنثى لذكر. على أساس مطالب الجسد ودوافعه، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات، ومنها تستمد قواعد السلوك، وآداب المجتمع، وروابط الأسر والأفراد. بفتنة الجسد وحدها، عارية من كل ستار، مجردة من كل حياء، تلقى الفتاة الفتى، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة".

كما يعبّر قطب عن اشمئزازه من تغلغل هذه النظرة المادية السطحية بالدين: "ليس أكثر من الأميركان تشييداً للكنائس، حتى لقد أحصيت في بلدة واحدة لا يزيد سكانها على عشرة آلاف أكثر من عشرين كنيسة! وليس أكثر منهم ذهاباً إلى الكنائس (...). وبعد ذلك كله ليس هناك من هو أبعد من الأميركي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته، وليس أبعد من الدين عن تفكير الأميركي وشعوره وسلوكه. وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة في العالم المسيحى كله، فإنها في أميركا مكان لكل شيء إلا العبادة".

ويحاول قطب تفسير أسباب هذه الحياة المادية القاسية: "أما في أميركا فقد وُلد الإنسان على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص، هو العلم التطبيقى؛ لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة في القارة الجديدة، وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة، وهو يهمّ أن ينشئ ذلك الوطن الجديد الذى أنشأه بيده، ولم يكن له من قبل وجود، وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم.. كان العلم التطبيقى هو خير عون له في ذلك الجهد العنيف؛ لأنه يسعفه بالأداة العملية الفعالة، في مجال البناء والخلق والتنظيم والإنتاج. ولم يفرغ الأميركي بعد من مرحلة البناء، فلا تزال هناك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضي البكر التي لم تمسسها يد، ومن الغابات البكر التي لم تطأها قدم، ومن المناجم البكر التي لم تُفتح ولم تُستغل، وما يزال ماضياً في عملية البناء الأولى، على الرغم من وصوله إلى القمة في التنظيم والإنتاج".

بالإضافة إلى صور الموت، والتعفّن، والتشويه الجسدي، والكآبة والسوداويّة القاتمة، الممزوجة بصور الحديد، والزجاج، والباطون، تسيطر مشاهد الدماء سيطرة كاملة في ديوان لوركا.

ولعلّ أبرز هذه الصور الشعرية الدموية، هي تلك الواردة في قصيدة "ملك هارلم"، التي يصف لوركا فيها حياة الإفريقيين - الأميركيين (يسمّيهم السود) في نيويورك، وما يتعرّضون له من عنصرية وفقر وتهميش؛ أو قصيدة "نيويورك.. مكتب وشكوى"، وأهمّ ما جاء فيها: "لكنني لم آتِ لأرى السماء/ أتيت لأرى الدم المضطرب/ الدم الذي يحمل الآلةَ إلى الشلالات/ والروحَ إلى لسان الصل"؛ "البط والحمام/ الخنازير والخراف/ تضع نقاط دمها/ تحت أعداد الضرب/ والصيحات الرهيبة للبقرات المنتزَعة الأمعاء/ تملأ الوادي ألماً/ حيث يسكر الهَدسُن من الزيت"؛ "إنّه ليس الجحيم، إنه الشارع/ إنه ليس الموت، إنه دكان الفاكهة/ هناك عالم لأنهار متصدعة/ ومسافات لا تُدرَك/ في القائمة الصغيرة لهذه الهرة، التي هشَّمتْها السيارة/ وأنا أسمع غناء دودة الأرض/ في قلب طفلات كثيرات"؛ "وأقدِّم ذاتي لتأكلني البقرات المنتزَعة الأمعاء/ عندما تملأ صيحاتُها الرهيبة الوادي/ حيث يسكر الهَدسُن من الزيت".

من جهته، يلخّص قطب ثقافة العنف في أميركا بما يلي: "ويبدو الأميركي بدائياً في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام: بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفى حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية، فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال. ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأميركية الخشنة التي ليس لها من اسمها (كرة القدم) أى نصيب، (..) بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بكل عنف وكل شراسة.. منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوحشية الدامية.. منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: "حطم رأسه"، "دقّ عنقه"، "هشّم أضلاعه"، "اعجنه عجناً".. هذا المنظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور، التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها".

ويتابع قطب: "وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأميركي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب، ولست أدري كيف راجت في العالم وبخاصة في الشرق تلك الخرافة العجيبة؟ خرافة أن الشعب الأميركي شعب محب للسلام. إن الأميركي بفطرته محارب محب للصراع: وفكرة الحرب والصراع قوية في دمه، بارزة في سلوكه، وهذا هو الذي يتفق مع تاريخه كذلك، فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها، قاصدة إلى أميركا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع، إن الحيوية المادية عند الأميركي مقدسة، والضعف أياً كانت أسبابه جريمة، جريمة لا يغتفرها شيء، ولا تستحق عطفاً ولا عوناً.

كن قوياً ولك كل شيء، أو كن ضعيفاً فلا يسعفك مبدأ، ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح، أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت!".

فلربّما كان من شأن الاطّلاع على هذه الاقتباسات من الأديبين -وهي غيض من فيض- أن يقلّل من درجة استغراب القارئ أمام عنف الرئيس الأميركي الجديد وفريق عمله ومؤيّديه، هذا العنف المتجلّي في خطابه، وقراراته، وتصرّفاته المتّسمة غالباً بالسطحية، والعنصرية، والفظاظة، والتي تفتقر إلى أدنى درجة من التحضّر ومن الحسّ الإنساني المرهف.

هذا العنف لا يأتي من عدم، بل هو -كما تبيّنه كتابات لوركا وقطب- راسخ منذ القدم في بيئة تمجّده؛ لا سيّما أنّ ترامب يفتخر بأنّه أوّل رئيس أميركي يأتي من الشعب، من أميركا العميقة، وليس من النخبة المثقّفة والاستبليشمنت.

طبعاً لا تخلو ملاحظات لوركا وقطب، وتحليلاتهما، من المبالغات الكثيرة ومن التعميم التعسّفي؛ كما أنّ محاولة إسقاطها على الواقع الأميركي الحالي، ولو كانت صحيحة إلى حدّ بعيد، إلّا أنّه يشوبها الكثير من العثرات؛ خصوصاً أنّ المظاهرات، والاحتجاجات ضدّ ترامب وقراراته، وعمل السلطة القضائية الذي جمّد قرارات ترامب وحمى حقوق الإنسان، كلّها تثبت أنّ هنالك أميركا أخرى مختلفة عمّا يمثّله ترامب، أميركا متمسّكة برسالة حضارية إنسانية تتخطّى المادية والعنف.

ولكن، بنفس الوقت، فلا يمكن أن تشكّل تلك المبالغة مادّة للوم الأدباء والشعراء، فهم يرون بحسّهم المرهف ما لا يراه الكثيرون، فيعبّرون عمّا يرونه بنفس الزخم العاطفي الذي أثاره فيهم، كلّ بطريقته المميزة، التي لا يتقنها الآخرون.

لوركا وقطب.. الغريب أنّهما لم يشتركا فقط بنظرتهما النافرة من أميركا، بل أيضاً بمصير شخصي مشابه إلى حدّ بعيد، بل شبه مطابق، بعد مغادرتهما أميركا وعودتهما كلّ إلى وطنه.

فالاثنان منعت كتبهما من التداول في بلديهما، والاثنان أعدما.

الأوّل كان من مؤيّدي الجمهوريّة، فأعدم رمياً بالرصاص من قِبل القوميّين من أتباع فرانكو، وذلك على أثر قيام الثورة الإسبانية سنة 1936.

أمّا الثاني، فقد أمضى عشر سنوات في المعتقل، قبل أن يلقى عليه القبض مرّة أخرى، ويتّهمه نظام جمال عبد الناصر بتأسيس تنظيم سري مسلّح، وبمحاولة تغيير نظام الحكم بالقوة، وقد حكم عليه بالإعدام، ونفّذ به حكم الإعدام سنة 1966، وذلك بعد أن رفض أن يسترحم عبد الناصر.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل