المحتوى الرئيسى

استئناف الحضارة

02/24 21:47

«استئناف الحضارة» عبارة فاه بها الشيخ محمد بن راشد رئيس وزراء الإمارات العربية وحاكم دبى، وبالطبع هو لا يقصد الحضارة الفرعونية أو الفينيقية أو اليونانية الرومانية لكنه يقصد الحضارة العربية الإسلامية، ولذا فالسؤال هو: إلى أى حقبة عربية إسلامية يشير الشيخ محمد بن راشد ويريد استئنافها؟ هل إلى الخلافة الأموية لأن الخلافة الأموية 715م التى اتخذت من دمشق عاصمة لها امتدت من إسبانيا فى الغرب وإلى المحيط الهندى ومن وسط آسيا فى الشمال إلى حدود الصحراء الكبرى؟، وذلك بعد أن غزت الجيوش الإسلامية معظم المقاطعات جنوبى جبل طوروس (فى الأناضول وتركيا). تلك الدولة التى رغم امتدادها العظيم إلا أنها لم تقدم إلى العالم حضارة إنسانية حقيقية بل على العكس تحول نظام الخلافة إلى ملك عضود وراثى كالممالك المحيطة.

إن الحضارة العربية الإسلامية العالمية قد برزت أثناء الخلافة العباسية بدءا من عام 750م. وكان العباسيون من بلاد فارس اتخذوا من بغداد عاصمة لهم، وتدفقت الأموال والذهب من البلاد التى دخلها المسلمون إلى العاصمة، وهنا استخدموا هذه الأموال لبناء ثقافة وحضارة حقيقية ونجحوا فى ذلك بفضل الخلفاء العباسيين الذين قرروا ترجمة العلوم والفنون والرياضيات والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وكانوا يقدمون لكل مترجم وزن الكتاب الذى يترجمه ذهبا رغم أن الذين كانوا يترجمون من المسيحيين. فقد كان غير المسلمين الذين يعيشون فى ظل الخلافة العباسية فى ذلك الوقت يتمتعون بالحرية ويمارسون الرياضة ويرتدون الملابس الفاخرة بل ويتسمون بأسماء مسلمين. وقد كان الخلفاء يقيمون الحوار الإسلامى المسيحى واليهودى فى قصورهم، وهكذا أصبح المجتمع العربى العباسى يموج بحركة حضارية اجتماعية ثقافية تعددية على مستوى البشر الذين يعيشون فيها.

من هنا كان للمسيحيين العرب دور بارز ليس فى الترجمة فقط من التراث العالمى إلى العربية، لكن أيضا كانوا سببا فى تشجيع وتحفيز المثقفين والحكام المسلمين لكى يناقشوا معا كيف يكون لهذا المجتمع هوية خاصة فكرية ودينية وحضارية معينة بذاتها. فى هذا الزمان البديع نشأ علم الكلام الإسلامى وهو المقابل لعلم اللاهوت المسيحى، وقد دار نقاش معاصر بين مختصين بدراسة تاريخ الفكر الإسلامى حول موعد انبثاق أو نشوء علم الكلام.. ترى هل جاء هذا العلم نتيجة استخدام اللاهوتيون علم اللاهوت المسيحى مع الفقهاء المسلمين فى ذلك الوقت للدفاع عن إيمانهم، أم أنه جاء نتيجة الحوارات المسيحية المسيحية؛ أى بين الفرق المسيحية وبعضها البعض فى قضايا مثل قضية قضاء الله ومسئولية الإنسان؛ حيث كانت كل فرقة تقدم إثباتاتها لرأيها وحججها من خلال النصوص المقدسة والفلسفة والمنطق العلمى. وكذلك دار نقاش حول قضية صفات الله وهل هذه الصفات موجودة فى جوهره أم تختلف عن جوهره، وقد اعتبر كثير من العلماء والمؤرخين أن نشوء علم الكلام كان تأثرا بهذه الحوارات المسيحية المسيحية، لكن البعض يرفض هذا القول. أما ما يتفق عليه الجميع فهو أن الفكر الدينى الإسلامى فى نهايات العصر الأموى وبدايات العصر العباسى قد تأثر بالمسيحية وديانات أخرى مثل اليهودية وقد استخدموا هذه المعرفة للدفاع عن الإسلام وعن موقفه من بعض العقائد المسيحية التى يرون أنها منافية للعقل مثل التجسد الإلهى فى عيسى بن مريم والتثليث.

إذا كنا نعتقد أن الحضارة التى يتحدث عنها بن راشد ويريد استئنافها اليوم هى الحضارة العباسية فالسؤال: كيف؟ من الناحية المادية فقد كانت هناك فرصة بسبب تدفق أموال البترول بغزارة شديدة منذ ما يقرب من خمسين عاما على منطقة الخليج كما حدث أيام الدولة العباسية، لكن الأموال فى حد ذاتها لا تصنع حضارة إنما العقول والبشر هم الذين يستخدمون الأموال لصنع الحضارة. وكان على من يريد استئناف الحضارة أن يستغل الأموال التى تدفقت على دول الخليج فى ذلك ــ وهو ما لم يحدث حيث اشتروا بهذه الأموال الأجهزة والتقنيات الحديثة ليقتنوها ويستخدموها دون أن ينتجوها. قد كان بإمكانهم أن يشيدوا محطة فضائية ضخمة مثل محطة ناسا لتنافس محطات أمريكا وروسيا وكان يمكنهم أيضا فى المجال العسكرى إنتاج القنبلة النووية كإسرائيل وإيران، وكان يجب عليهم أن يشيدوا منظومة تعليمية نابعة من التراث العربى واللغة العربية ويطوروا لغتهم لكى تنافس اللغات الحية، وهكذا ينتجوا علماء وفلاسفة عربا. لكن المأساة أنهم أضاعوا هذه الأموال فى حروب ليس من ورائها طائل؛ حروب ليست ضد إسرائيل بل ضد بعضهم البعض، فضلا عن تمويلهم للجماعات المتشددة ليسقطوا رؤساء عربا.

من المعروف أن عناصر الحضارة تتكون فى جو من حرية الشعوب وتبنى حقوق الإنسان وتكافؤ الفرص، لكن بالنظر للمنطقة العربية فى الخمسين سنة الماضية نراها تمارس انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتتورط فى حروب عبثية، بل وتنظر للمرأة كمواطن درجة ثانية وتنتهك حقوق الأقليات، فكيف مع وبعد كل ذلك تكون قادرة على صنع الحضارة؟

يقول محمد بن راشد إننا نستطيع بالإنسان والإرادة والإدارة أن نستعيد مجد الحضارة العربية وأكد أنه يحارب الفساد، وهو يعتبر أن الإرهاب جزء هام من الفساد والتخلف وأنه ليس من الإسلام فى شيء. هنا نأتى للسؤال الثانى: هل الإمارات قادرة على صنع الحضارة الإنسانية؟ نقول نعم – كانت لتصبح قادرة على استئناف حضارة فارس لكن بشرط أن تنضم إليها جميع الدول العربية أو على الأقل دول الخليج، وهذه الدول سواء على مستوى الخليج أو على مستوى الوطن العربى ككل أصبحت الآن غير مؤهلة لاستئناف الحضارة؛ خاصة بعد أن نقلت أموال البترول التى كان يمكن أن تستخدم كأداة لصنع الحضارة إلى أمريكا وأوروبا. هكذا صارت الدول العربية فى مجملها مكبلة بالديون، هذا غير الصراع الدائر الآن بين السعودية واليمن من ناحية وبينها وبين سوريا بالوكالة من الناحية الأخرى.

لقد ذكر الشيخ راشد أهمية السعودية وبناء الحضارة بل ذكر أنها يمكن أن تقود حركة استئناف الحضارة! إن الدولة الوحيدة التى تستطيع أن تفعل ذلك هى الإمارات حيث يوجد على أرضها الآلاف من البشر من مختلف الجنسيات يعاملون معاملة المواطنين، وعندما طلب رئيس وزراء الهند أرضا يبنى عليها معبدا هندوسيا استجابوا فورا. وقد قمت بزيارات لدولة الإمارات وخاصة أبوظبى ودبى وكنت أشعر أنى أسير فى دولة أوروبية كلندن أو باريس وقد صنفت دبى كبلد تتساوى مع نيويورك وهونج كونج.

لذا فالسؤال مجددًا: هل تستطيع الإمارات بحجمها الصغير أن تستأنف الحضارة؟، أعتقد أنه من الصعب بمكان، لقد فاتت الفرصة التى كانت فيها يمكن أن تتأسس الحضارة العربية بأموال الخليج من جهة وعلماء مصر وسوريا والعراق ولبنان من الجهة الأخرى وعقول حكام مثل محمد بن راشد. هذه التوليفة فات أوانها فمصر غير مؤهلة لذلك بسبب انهيار الاقتصاد والتعليم والإعلام... إلخ، والعراق وسوريا ذكرهما يصدر الاكتئاب على كل وسائل الإعلام فى العالم، وصنع الحضارة أو استئنافها يحتاج إلى شعب مستنير قادر على الحلم بمستقبل أفضل وشعوبنا أحبطت بما فيه الكفاية.

ويكفى أن المهاجرين بالملايين من العرب يتسولون الأمان والإقامة من الدول الأوروبية وهم الذين قام أجدادهم بصنع حضارة عظيمة صدرتها إلى أوروبا فى القرون المظلمة فأنارتها وكانت سببا فى نهضتها وإصلاحها علميا ودينيا وفلسفيا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل