المحتوى الرئيسى

manchester by the sea.. «ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها»

02/21 21:05

في رائعته الخالدة "المدينة"، يقول شاعر الإسكندرية قسطنطين كفافيس "ما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود"، ربما ينطبق هذا الكلام بنسبة كبيرة على "لي" بطل فيلم "manchester by the sea"، الصادر في 2016، والمرشح لست جوائز أوسكار.

هناك نوعان من الحزن، حزن عابر ناتج عن موقف أو صدمة لكنه يزول بزوال النتائج، وحزن آخر ينفذ إلى أعماق الإنسان، ويسري في مسامه، ويرافقه دائما حتى يحوله إلى شخص آخر بفعل الزمن.

ذلك النوع الثاني هو السمة الرئيسية للفيلم، الذي يلعب أدوار البطولة فيه كل من كيسي أفليك، لوكاس هيدجز، ميشيل ويليامز، وكايل تشاندلر. والسيناريو والإخراج لكينيث لونيرجان.

«قلت: «سأذهب إلى أرض أخرى

مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه»»

أحداث الفيلم تحكي قصة لي تشاندلر (كيسي أفليك) الذي يعيش في مدينة بوسطن ويعمل سباكا لكن وفاة أخيه الأكبر جوزيف (كايل تشاندلر) تعيده إلى مدينته الأصلية مانشيستر، المطلة على البحر، والتي يكره أن يعود إليها بسبب حادث قديم سنفهمه من الأحداث.

في مانشيستر يفاجأ "لي" بأن أخاه الكبير أوصى بأن يكون وصيا على ابنه باتريك (لوكاس هيدجز)، يحاول "لي" التملص من الوصية لكنه لن يجد في النهاية مفرا من قبولها، وهو ما يزيد من معاناته الأصلية.

رأيت خرائب سوداء من حياتي»

القصة باختصار أن "لي" كان يعيش في مانشيستر مع زوجته راندي (ميشيل ويليامز) وأطفالهما الثلاثة. يحيا "لي" حياة عادية، يعمل ويلهو ويسهر ويتمتع بروح ودودة عموما، لكن شيئا ما يسقضي عليه، عندما يفقد أطفاله الثلاثة في حادث حريق بالمنزل تسبب هو بإهماله فيه.

يترك "لي" مانشيستر ويعيش في بوسطن، يفقد اهتمامه بالحياة، ويعمل سباكا، منعزل ووحيد وينفر من الناس الذين ينفرون منه بالتالي.

نفهم ذلك مثلا في عدة مشاهد، فصاحب المنزل يسأله نصيحته بشأن عيب ما في المرحاض، لكن "لي" الذي لا يبالي بشي كما قلنا لا يهتم بأن يمنحه نصيحة ويقول له إن الأمر يعود لك. تأتي الشكاوى من السكان على طريقة معاملة "لي" معهم، لكنه لا يهتم برغم تعنيف صاحب العمل.

«لن تجد بلدانا ولا بحور أخرى

ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها»

في صباح يوم ما يتلقى مكاملة بأن يأتي إلى مانشيستر لأن أخيه الأكبر المصاب بمرض في القلب دخل المستشفى مجددا، يسافر "لي" لكن أخوه يموت قبل أن يصل. وهنا يتولى إبلاغ الأهل وابن أخيه الصبي ويرتب للجنازة، لكنه عندما يذهب للمحامي يفاجأ بأنه أصبح وصيا على الابن بتكليف من أخيه الراحل.

في البداية يرفض "لي" ذلك، لكنه لا يجد مفرا من أن يقبل، ويعيش مع الابن فترة مؤقتة في مانشيستر حتى يجد حلا للمعضلة، أنه لا يريد أن يعود وأن ابن أخيه لا يرد أن يذهب معه إلى بوسطن. هنا سنكتشف أكثر ما الذي تغير في "لي".

نعود سريعا إلى المشهد الافتتاحي للفيلم: نشاهد "لي" وهو يلاعب ابن أخيه باتريك (كان صغيرا وقتها) على القارب الذي يملكه الأخ الأكبر، هذه اللقطة مختلفة تماما عن علاقة العم بالابن بعد أن أصبح وصيا عليه.

ليس هناك أي حميمية، أو قرب مثلما كان، الروتينية هي التعبير الأقرب للعلاقة، "لي" لا يلعب كما كان، لا يفهم شخصيته أو احتياجاته، ناهيك عن أنه قبل فكرة أن يكون وصيا عليه بالكاد، لأن أم الطفل ليست محل ثقة بسبب إدمانها للخمور في مرحلة سابقة.

في أسلوب ذكي للفيلم، نجد أنه يعود كثيرا للزمن الماضي بطريقة "الفلاش باك"، وجرى تنفيذ لك بكثافة في أحيان كثيرة، حتى أننا نشاهد لقطة من الحاضر ولقطة من الماضي. كان هذا موفقا من المخرج لكي نفهم بشكل يستدعي التيقظ ماذا جرى.

«ستصل على الدوام إلى هذه المدينة

لا تأمل في بقاع أخرى

ما من سفين من أجلك

يعيش "لي" حياته بالذنب، سنوات عمره ثقيلة، نبرة صوته ثقيلة (وهي من سمات التمثيل الرائع لكيسي أفليك). ينحر الحزن في روحه، يتعذب دائما بسبب الماضي، وعلى فترات نجده يفرغ تلك الطاقة المكبوتة بداخله في تصرفات عنيفة، كأن يتشاجر مع أي شخص يحتك به في البار.

ذلك هو الحزن الطويل الذي يرافق "لي"، إنه لا يستطيع أن يعود إلى مانشيستر لأنه "لا يستطيع التغلب على ما جرى"، ويبدو لنا أن أخيه الأكبر تعمد إسناد وصاية الابن له لكي يعيده للحياة مجددا، وهو الاختبار الذي يبدو أن "لي" سينجح فيه في النهاية.

هناك مشهدان عظيمان في الفيلم، الأول بين "لي" وباتريك، والثاني بين لي وراندي.

في المشهد الأول يذهب باتريك إلى الثلاجة ليلتقط شيئا ما، لكنه عندما يشاهد قطع الدجاج المجمد تنهار أعصابه تماما، مستعيدا جثة أبيه في ثلاجة الموتى. بالرغم من أن مشاعر الابن بعد فقدان أبيه لم تكن منطقية إجمالا. ويؤدي لوكاس هيدجز هذا المشهد ببراعة.

في المشهد الثاني تتفوق ميشيل ويليامز، عندما تواجه "راندي" لي" في الجزء الأخير من الفيلم، هنا ندرك كم المشاعر المكبوتة بداخلها، بفعل المأساة القديمة لفقدان الأبناء، وتتكشف أمامنا شخصية "لي" بشكل أوضح، وربما كان هذا المشهد هو السبب في انهيار ذلك الحاجز الهائل بينه وبين الحياة.

أداء كيسي أفليك هادئ في العموم، لكنه بهذا الهدوء يتشرب مأساة الشخصية تماما، يظهر ذلك كما قلنا في نبرة صوته الثقيلة والمحملة بالحزن، وربما تكون فرصه في الفوز بجائزة "الأوسكار" لأفضل ممثل كبيرة، وإن كان الرائع دينزل واشنطن الأقرب لها بفعل أدائه البليغ في فيلم "أسوار".

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل