المحتوى الرئيسى

ضحكات نتنياهو ونبوءة إدوارد سعيد

02/20 22:45

تنطلق ضحكةُ رئيس الوزراء الإسرائيلى سافرة ظافرة، فيما يعلن ساكنُ البيت الأبيض الجديد عن عدم تمسكه بحل الدولتين، ومباركته لأى حل يرتضيه «الصديق بيبى مع الفلسطينيين»، ذلك الحل الذى ينبغى أن يتسقَ فى الوقت ذاته مع تمسك الكيان الصهيونى بيهودية الدولة، والذى وصفه ترامب بعبارة غامضة بأنه سيكون حلا «إقليميا» تشارك فيه دولٌ عربية حليفة.

كثيرٌ من الضحكات، كثيرٌ من المجاملات، وكثيرٌ أيضا من الجهل والتناقضات، هكذا وصفت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية لقاء الحليفين. تتسارع رفات جفنى «بى بى» كما يفعل الثعلب وهو يحاول أن يبدو بوجه حمل إذ يقول إن «الرئيس ترامب هو أكبر داعم للشعب اليهودى والدولة اليهودية»، ومن جانبه لا ينسى ترامب فى غمرة الجهل والتناقض والارتباك الفكرى والإدارى أن ينصح الشعب الفلسطينى ــ بكثير من العنصرية والاحتقار ــ بالكف عن الكراهية التى تُغرس فى أبنائه منذ نعومة أظافره.

بدا نتنياهو فى قمة سعادته، فالتخلى عن حل الدولتين كان وعدا انتخابيا غازل به أصواتَ اليمين المتطرف ورجح به كفته حين أطلقه قبيل إعادة انتخابه. ضاحكا مستبشرا بدا فى الصور التى أطلقها مغردا بها على حسابه فى تويتر. ولم ينسَ وهو يوثق للحظات اللقاء الحميم من داخل البيت الأبيض، أن يختم بتغريدة شديدة الخبث مفادها بأن الدول العربية باتت تعتبر إسرائيل حليفا لا عدو. وهى رسالة لا يسهل الإحاطة بمضمونها إلا بوضعها فى سياقها الكامل، فهى تأتى تزامنا مع سحب السفير الإسرائيلى من مصر كوسيلة للضغط، وتزامنا مع تسريبات الوزير الإسرائيلى أيوب قرا بشأن مزاعم لتوطين الفلسطينيين فى سيناء كوسيلة للابتزاز، سبقتها تسريبات لاتصال الوزير سامح شكرى فى تباحثه مع المستشار الإسرائيلى بشأن جزيرتى تيران وصنافير.

يتزامن ذلك كله مع صورة أكبر تتلخص فى تشريعات متلاحقة على الأرض فى فلسطين المحتلة لتهويد الأراضى الفلسطينية وتشريد أهلها، وذلك بمحو كل ما عساه أن يؤكد الهوية الفلسطينية: كالتصديق قبل أسبوع على تشريع لحظر الأذان، وإقرار قانون آخر قبله لشرعنة سرقة الأراضى وتقنين المستوطنات فى الضفة الغربية المحتلة بأثر رجعى، فضلا عن الاحتلال التصعيدى للمسجد الأقصى بصورة يومية من قبل المستوطنين، والتمادى فى قمع المدنيين والتنكيل بالأسرى والمعتقلين، وهدم البيوت ومصادرة الممتلكات بوتيرة بلغت مداها الوحشى الأقصى.

تلك هى الصورة الأكبر التى تندرج فى إطارها تغريدة رئيس الكيان الصهيونى القائلة بأن العرب ما عادوا أعداء بل حلفاء، والتى تمثل رسالة تقف بين الوعد والوعيد، مفادها بأن حالة التطابق المتنامية بين الموقفين الأمريكى والإسرائيلى تقتضى من القادة العرب أن يعيدوا تأكيد موقفهم الداعم للدولة الصهيونية، فإما عدو أو حليف، أو بالتعبير الإقصائى القديم، الذى نبذته أمريكا فى سنوات حكم أوباما: من ليس معنا فهو ضدنا!

إذ تأتينى صور المؤتمر الصحفى بين نتنياهو وترامب عبر الشاشة، أستعيد صوتَ الأكاديمى الفلسطينى إدوارد سعيد وقد بُعث من وراء القبر والزمان والحدود. وهو الذى كان من أشد المحذرين من نواقص اتفاقية أوسلو ومن سوء عاقبتها. اليوم، أستحضرُ خطابَه النقدى البصير فى مراجعة السلطة الفلسطينية ونقد التخاذل العربى ودحض أكذوبة أوسلو منذ بداياتها، فيتهافت الحاضرُ العربى التعسُ أمام عينى، مشيَعا بخيالاتِ الذكرى وجلال النبوءة.

كان سعيد من أقوى المناهضين للخطاب الصهيونى الأمريكى، لكنه كان مع ذلك من أشد دعاة النقد الفلسطينى الذاتى. فلم يتردد عن الجهر بمطاوى الخلل المتفشى فى السلطة الفلسطينية، القائمة على السلطوية والقمع والفساد. وكان من أبرز منتقدى دكتاتورية الرئيس ياسر عرفات، ومقولة «ليس ثمة بديل آخر له»،و «جوقة المنتفعين المتحلقين من حوله»، التى وجد فيها بعضا من «سمات المافيا» التى تستبعد ذويى الكفاءة والشرف لصالح دائرةٍ ضيقة من العملاء المـُختـَرَقين من قِبل الموساد والمخابرات الأمريكية، ومن الانتهازيين المنشغلين بعقد مختلف الصفقات التجارية على حساب الشعب الفلسطينى المُعذب.

لكن دور إدوارد سعيد الأهم قد تلخص فى بيان دور المثقف فى مواجهة السلطة فى أزمنة الهزائم المتلاحقة. أسمعه إذ يقول: « تزداد أهمية الدور الذى يلعبه النقد والتذكير بالنواقص فى غياب نظام قانونى ودستورى متكامل. ولا يصح هذا الأمر فى حالة غزة والضفة الغربية فحسب، بل ينطبق على أى مكان فى العالم العربى. فالنقد يرفع من مستوى الوعى ويعيد ارتباط القادة بشعوبهم، كما أن نقد السلطة واجب أخلاقى. إذ إن التزام الصمت أو الاكتفاء باللامبالاة أو الانصياع للسلطة الباغية كلها أمور تنم عن انعدام الحس الأخلاقى».

إن شيئا من النقد الذاتى كان كافيا للوصول لدرجة من الصدق مع الذات، ولدرء كثير من الهزائم العربية التى ساقتنا إليها خطانا. بعد أوسلو وقبلها.

فى أكثر من موضع، قرأتُ إن الكراسى المصفوفة فى حديقة البيت الأبيض يوم توقيع اتفاقية أوسلو كانت من ذلك النوع الذى يمكن طيه وإزاحته بعد انقضاء المناسبة. لكن المؤسف هو ما تبدى عبر كل تلك الأعوام المنصرمة، من أن الاتفاقية بأسرها كانت هى أيضا من ذلك النوع الذى يسهل طيُه كطى السجل ليُقذف فى سلة المهملات. فلقد ذهب الذاهبون إلى أوسلو وهم يعلمون أنها لا تمثل معاهدة سلام، بل محض إطار لبيان ترتيبات سلطة عاجزة مؤقتة، وقناةٍ لتسهيل مفاوضات صورية كاذبة. ذهب الذاهبون وهم يعلمون أن الأمر لا يعدو أكثر من تمثيلية، وألا حديثَ سيكون عن أى من المشكلات الصعبة: القدس والاستيطان واللاجئين والحدود. ذهبوا وهم يظنون أنهم مُنحوا هبة عظيمة لمجرد أن إسرائيل قد اعترفت بوجودهم. ذهبوا وفى نفوسهم عقدةُ نقص، وطمعٌ فى سلطة، واستعدادٌ لفساد، وافتقار لكفاءة، وبوادر انقسام. فبدوا أضعف شأنا من حمل لواء قضيتهم العادلة وباءوا بما باءوا به اليوم، واستحقوا ضحكات رئيس وزراء الكيان الصهيونى.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل