المحتوى الرئيسى

ذات ليلة تعيسة فى بيروت

02/20 22:31

كل شىء بدا على ما يرام فى بيروت. الساهرون فى بيوتهم كانوا يسترخون أمام تلفزيوناتهم. التلفزيونات كانت تواصل برامجها المعتادة. بعض السياسيين كانوا قد نبهوا اللبنانيين إلى نعمة الأمن قياسا بأوضاع الجوار. سياسيون آخرون كانوا قد طمأنوا إلى أن العهد الجديد لا يقل عن عصر جديد.

فجأة تأهب مشاهدو التلفزيون المستلقون على كراسيهم. عدلوا جلستهم المسترخية وأصابهم شىء من الاستنفار. فجأة تحولت القناة التلفزيونية موقعا حربيا، وصار السؤال: هل يسقط هذا الموقع ومتى يسقط؟

قليلون جدا هم الذين صدقوا أن شربل خليل ومحطة «الجديد» أهانا الإمام موسى الصدر. ولنقل، بالصراحة التى تعكس الحساسيات اللبنانية المعروفة، إن من المستبعد، إن لم يكن من المستحيل، أن يتجرأ صاحب محطة سنى وصاحب برنامج مسيحى على رجل دين وسياسة يُنسب إليه تأسيس الشيعية السياسية فى لبنان. وهذا فضلا عن أن الصدر، لم يعد فاعلا سياسيا منذ تغييبه قبل قرابة أربعة عقود. ثم إنه، ولا سيما بفعل تغييبه الظالم، محط تعاطف واسع عابر للطوائف.

هكذا بدا طبيعيا أن تتجه الأنظار فورا إلى أسباب أخرى وراء الغزوة «الجماهيرية» التى حاصرت المحطة والعاملين فيها: هناك الود المفقود بين رئيس مجلس النواب نبيه برى وصاحب القناة التلفزيونية تحسين خياط، وهناك عموم الخريطة السياسية، فى ظل عهد جديد واحتمال قانون انتخابى آخر، وربما وضع مختلف فى المنطقة. هذا بدوره قد يحض الأطراف السياسية الفاعلة على استعراض قوتها وتوكيد أهميتها فى موازاة التحولات المقبلة والممكنة. لحالات كهذه، هناك معادلة شهيرة ترجع إلى عهد عنترة بن شداد: أضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القوى!

لكن ما تعرضت له قناة «الجديد» (وموقع هذه الأسطر ليس من عشاقها) أخطر وأبشع من أن يمر مرور الكرام. ففى تلك الليلة التعيسة، قُدمت عينة باهرة على الحياة اللبنانية الراهنة، وعلى موقع الحرية فى توازناتها الفعلية.

واقع الإعلام وأزماته فى لبنان، صار يستدعى النظر بعين أوسع. الكلام عن حكم المؤسسات وسيادة القانون، والذى لم يُحمل مرة على محمل الجد، صار لا يُحمل إلا على محمل التشدق.

أبعد من هذا وأهم، ذاك الأساس التحتى الذى يحكم العيش اللبنانى، والذى جاءت ليلة «الجديد» تكشف على نحو بليغ رخاوته وتهافته. فالمؤسسات والحريات شىء والمقدس المحمى بالسلاح شىء آخر. والشيئان لا يلتقيان بتاتا. المقدس ــ الذى قد يكون قضية ــ سريعا ما يتقلص إلى زعيم أو مرجع أو قطب. والسلاح المقدس ــ الذى يقال إنه مخصص للعدو ــ ينشر فى المجتمع حالة سلاحية قد تكتفى بالمفرقعات، كما فى تلك الليلة المشئومة، وقد لا تكتفى بالسلاح، كما فى 2008، ولا باستدعاء الحرب، كما فى 2006، ولا بالاغتيالات، كما فى 2005.

فليس صحيحا ما قاله رئيس الجمهورية من أن لا تناقض بين الدولة والسلاح الذى ليس فى يدها. وليس صحيحا أن لا تناقض بين الدولة، ومعها المؤسسات والحريات المكفولة بالقانون، والمقدس. والواقع وتجارب الماضى القريب تقنعنا بأنه كلما زادت قداسة المقدس (أمين عام حزب الله مثلا، أو القضية التى ينتدب نفسه لتمثيلها) زادت احتمالات الدوس على الحريات والمؤسسات والدولة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل