المحتوى الرئيسى

علي رضا يكتب: دائرة الزمان وفلسفة الوجود في فيلم (Arrival) | ساسة بوست

02/20 18:09

منذ 1 دقيقة، 20 فبراير,2017

أولاً عليّ أن أعترف أن فيلم «Arrival» لم يكن على قدر توقعي له، ولكني أيضًا يجب أن أعترف أنه كلما أعدت التفكير فيه، أجده عملاً فنيًّا متعدد المستويات الفلسفية. بمعنى أن الفيلم يعلن بوضوح، أنه يناقش قضايا فلسفية تنتمي لعدة فلسفات مختلفة، أبرزها فلسفة اللغة والزمان وعلاقة حرية الإرادة بالوجود ومعنى الحياة أمام الألم والموت. ففلسفة اللغة وراء الفيلم، على سبيل المثال، لها عدة مستويات، فعلى المستوى السطحي تناقش علاقة اللغة بالعقل والمعرفة والعالم، وتناقش أيضًا المشاكل اللغوية التي قد تنشأ بين المتحدثين بلغات مختلفة وبالتحديد بين البشر والكائنات الفضائية كالتعريف بالإشارة والترجمة، ولكن على مستوى أعمق تجد أنها تناقش مفهوم التواصل حتى ولو بين البشر أنفسهم لاختلاف لغاتهم، أو حتى بين البشر الذين يتحدثون اللغة نفسها في العالم الذي نعيشه، وأن هذا المفهوم ضروري لحل مشكلات الجنس البشري.

لكني لن أتناول في هذه المقالة تحليل مستويات فلسفة اللغة في الفيلم، بقدر ما سأركز على تحليل أكثر ما أعجبني في الفيلم، وهو رمزية لغة الكائنات الفضائية لتمثل كل العناصر الفلسفية في الفيلم، كالزمان وعلاقة حرية الإرادة بالوجود ومعنى الحياة أمام الألم والموت.

تظهر تلك اللغة في صورة رسوم لفظية «Logogram»، تمثل كل منها معنى محددًا، ما يذكرنا باللغة الصينية أو اليابانية أو الهيروغليفية حتى. ولكن المميز هنا هو أن أي جملة في تلك اللغة تتكون من عدد من الرسوم اللفظية التي ترتبط بعضها ببعض لتكون هيكلاً دائريًا، ويتم رسمها من خلال حبر كالدخان تطلقه أطراف الكائنات الفضائية مثل الأخطبوط، فتكون النتيجة النهائية كأنها لوحة من الفن الصيني أو الياباني، والتي يتم رسمها بالحبر والماء على ورق شبه شفاف.

الدائرة رمز للكمال أو للحركة الكاملة من قديم الأزل، ولهذا كان الاعتقاد قديمًا، وفقًا لأرسطو والنموذج البطلمي، بأن حركة الأفلاك هي حركة دائرية. هي شكل ليس له بداية أو نهاية، وإذا وقفنا في نقطة المركز سنجد أننا تجاوزنا المسار المحدد ومفهوم الاتجاه الحاكم للحركة، وبالتالي سنرى كل المسار بدون حركة في أي اتجاه، أي أن النتائج المعرفية واحدة في جميع الاتجاهات، فسنرى كل شيء بدون أي حركة. وهذه الفكرة هي فكرة أساسية في البوذية الصينية من خلال الرمز (ensō) والتي ترمز لكلية الكون وللتنوير المطلق وما يصاحبه من قوة. ولهذا يتم رسمها في حركة واحدة سلسة ومتناغمة، كدليل على صفات صاحبها، وأن سياق عملية الرسم كفعل عبر الزمان، هو في الحقيقة فعل يتجاوز الزمان.

يعتبر أشهر رمز ليوضح العلاقة بين الدائرة والزمان هو «Ouroboros» وهو رمز يظهر فيه ثعبان أو تنين يأكل ذيله. فمنذ بداية ظهوره في عهد المصريين القدماء وانتقاله للتيارات الهرمسية ثم لأوروبا وتطوره كرمز مهم في الخيمياء يمثل الحركة الدورانية للزمان الذي ليس له بداية أو نهاية، أو يمثل حياة الإنسان في هذا الزمان الدوراني، أو ما يعرف بالعود الأبدي «Eternal Recurrence». أي أنه إذا كان الزمان لا نهائيًا، فلا بد أن كل توزيعات المادة والطاقة ستتشكل في كل الصور الممكنة عبر المكان، وإذا كان المكان محدود فتلك الصور الممكنة ليست لا نهائية بل محدودة بحدود المكان، والنتيجة النهائية أنه لابد وأن تلك الصور ستعيد نفسها بعد استنفاذ باقي الصور الممكنة، أي أن الإنسان في لحظة ما عبر الزمان، سيعيد حياته كما هي مرة أخرى. بمعنى آخر أن لحظة النهاية هي نفسها لحظة البداية، كما قال السير توماس براوني: «إن أول يوم سيكون آخر يوم، ففي تلك اللحظة بالضبط، سيعود ذيل الثعبان إلى فمه».

وفي الفلسفة الحديثة، يظهر مفهوم العود الأبدي كركن أساسي في فلسفة نيتشه، الفيلسوف الألماني الشهير. فهو يقول: «أخي الإنسان! إن حياتك كلها، كالساعة الرملية، ستظل محفوظة دائمًا ولن تنفد أبدًا، فقط لحظة طويلة ستمضي حتى تعود كل تلك الظروف التي ظهرت منها في عجلة العملية الكونية». ولكن هذا التصور لا يلبث إلا أن يطرح العديد من المشاكل للإنسان، فحتى لو عاش الإنسان، كما تملي عليه فلسفة نيتشه، بأن تكون أفعاله وفق إرادته، فسيظل هناك الكثير من الأحداث في حياته ليست له أي سيطرة عليها، فيطرح السؤال التالي نفسه: من يريد أن يعيد لحظات الألم والحزن كالموت وفقد الأحباء، على سبيل المثال، في حياته مرة أخرى؟

يؤسس هذا السؤال لنوع من الفضيلة عند نيتشه، يظهر من خلال قيمة الفعل التي تعتمد على كون الفعل «ينشأ من أعماق الشخص» أم لا، وبالتالي فالإنسان العظيم لا يريد أن يغير أي شيء في أحداث حياته، وأن يتقبل ما يحدث من أعماقه لدرجة الحب، وهو ما يعبر عنه نيتشه من خلال مفهوم حب القدر «Amor fati» يقول نيتشه في كتابه «العلم المرح» مقطع 276: «أريد أن أتعلم أكثر فأكثر كيف أرى اللزوم في الأشياء، كنوع من الجمال، عندها سأكون واحدًا من أولئك الذين يجعلون الأشياء جميلة. Amor fati! لن أخوض حربًا ضد القبح، لن أتهم إطلاقًا، لن أتهم حتى أولئك الذين يتهمون. ليكن اعتراضي الوحيد: صرف النظر! وبالجملة: فإني أريد يومًا ما أن أكون ممن يقولون نعم أمام الحياة دائمًا». ويظهر بوضوح أن مفهوم حب القدر إذا اقترن بفكرة العود الأبدي، فإنه سيعني أننا لن نحب الحياة الحالية فقط، بل أيضًا أننا سنحب تكرارها الأبدي، بالسيء فيها قبل الحسن.

نصل للنقطة الأخيرة في هذا التحليل قبل أن نعود للفيلم مرة أخرى، الفيلسوف الألماني هايدجر في كتابه الشهير «الكينونة والزمان»، حلل مفهوم الوجود وعلاقته بالزمان، فقال إنه لكي يفهم الإنسان وجوده فلا بد أن يتجاوز المفهوم الشائع للزمان من عصر أرسطو بأنه سلسلة خطية من الأحداث بين الماضي والحاضر والمستقبل. وأن يستبدله بتصور يتجاوز هذا التقسيم الثلاثي، إلى تصور يربط الزمان والحاضر والأبد كشروط للوجود، بمعنى أنه لا انفصال للمستقبل والماضي عن الحاضر، فالحاضر يحتوي على الماضي والمستقبل، أي أن الحاضر يحتوي على كل الاحتمالات المستقبلية الممكنة التي ستتحول إلى واقع باختيارات الإنسان في الحاضر. وبالتالي فالنتيجة التي لا يمكن الهروب منها هو أن الحاضر يحتوي على الموت المستقبلي الذي لا مفر منه. ولهذا يجب علينا أن نحيا، في الحاضر، في ضوء استبصار مستقبلي بحقيقة الموت أو ما يسيمه هايدجر «الوجود تجاه الموت «Being-toward-death» فيقول هايدجر: «بمجرد أن يأتي الإنسان إلى الحياة، فإنه على الفور يكون عجوزًا بما يكفي لكي يموت».

لكن رغم أن الموت حقيقة حتمية، إلا أن كيفيته غير محددة، فلا أحد يعلم كيف ومتى سيأتي موته. وهذا هو سبب المشكلة في أن الإنسان يتعامل مع الموت كحدث احتمالي «يحدث للآخرين» وليس كواقع «يحدث للجميع». ولهذا فالوجود الحقيقي يملي على الإنسان أن يدرك أن «أنا» جزء من «الآخرين»، أي أن الموت الذي يحدث للآخرين، سيحدث له أيضًا. وهذا الوجود الحقيقي هو ما يحمي الإنسان من القلق الوجودي، فبمواجهة الإنسان لحقيقة الموت وحقيقة محدوديته كإنسان، سيتقبل فكرة أن الموت جزء منه، وجزء من الحاضر، فيصنع المعنى ويحاول أن يجد السعادة والحرية في لحظة الحاضر، أي الوجود الحقيقي.

أحداث الفيلم في ضوء تلك الفلسفات

الجزء الأخير من المقال به شرح لأحداث الفيلم وربطها بالفلسفات السابقة، فلا أنصح به لمن سيشاهد الفيلم.

عندما تصل لويز عالمة اللغويات إلى مرحلة التنوير المطلق، عندما تكتسب القدرة اللغوية للكائنات الفضائية، وبالتالي تصل إلى تصورهم نفسه وتلقيهم للزمان، فتتجاوز الرؤية البشرية التقليدية للزمان الخطي المحصور في الحاضر إلى القدرة على رؤية المستقبل بوعيها في الحاضر، أي أنها تري المستقبل والحاضر والماضي معًا في لحظة الحاضر نفسها، إذا جاز التعبير، كأنها تقف في منتصف الدائرة. ورغم أن هذه القدرة هي ما سينقذ العالم، إلا أنها سترى الحدث المؤلم المستقبلي في حياتها وهو وفاة طفلتها. ورغم أن تلك المشاهدات والذكريات المستقبلية كانت تؤلمها طوال الفيلم رغم عدم معرفتها لهوية تلك الفتاة الصغيرة، إلا أنها بعد تجاوز وعيها لقيود الزمان، نراها متقبلة لمستقبلها بما يحويه من ألم وموت كما هو، بدون أي نية أو إرادة لتغيره، بل على العكس، نجد أن ذلك التقبل نتيجة اختيار حر ومحب لتلك السلسلة من الأحداث التي تبدأ بحبها لزميلها إيان وزواجها منه وحتى لتسميتها لابنتها «Hannah» وهي كلمة لا يهم تجاه قراءتها سواء من اليسار لليمين أو العكس، في إشارة لدائرة الزمان، الدائرة التي ليس لها اتجاه، ليس لها بداية أو نهاية.

لكن ذلك الاختيار سيؤلم زوجها لاحقًا لدرجة أنه سينفصل عنها. تقول لويز إن زوجها وصف اختيارها بالخاطئ، ولكن الفيلم، في أكثر نقاط ضعفه وضوحًا للمشاهد، اكتفى بذلك الاعتراض متجاهلًا أهم سؤال يفرض نفسه نتيجة اختيار لويز، وهو السؤال الأخلاقي، هل ما فعلته لويز يعتبر فعلًا أخلاقيًا أم لا؟ هل من حقها أن تفعل ذلك بابنتها رغم معرفتها المسبقة بما سيحدث؟

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل