المحتوى الرئيسى

حلقات من كتاب عبدالله السناوى «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: هيكل الآخر «4 - 10»

02/19 23:37

- مديرة كلية الصحافة بجامعة أوكسفورد وصفته بـ«الأسطورة الحية»

- أبدى استغرابه من اقتراح كسينجر لقاء شيمون بيريز فى مطعم بلندن على ضوء الشموع

- شخصيته مزيج من تقاليد التهذب البريطانى وخفة الظل المصرية

- فى تسعينيات القرن الماضى رسمه الفنان جورج بهجورى كـ«آلة للتفكير بأسلاك متداخلة تنتج رؤى وسياسات»

- حفظ نحو 10 آلاف بيت من التراث العربى القديم والحديث وكان يستعيدها فى أحاديثه العادية كأنه يتنفسها

- فى لحظاته الأخيرة ردد أبيات شعر أمام أبنائه تؤكد أنه لا فائدة من معاندة الطبيعة والقدر

تتلمذ على يد الشاعر «على الجارم».. وتأثر بـ«كامل الشناوى» بحياته الصاخبة البوهيمية و«محمود عزمى» بثقافته الموسوعية وعمق رؤيته

كان منضبطًا فى علاقاته وإبداعه الروائى.. وللقاءاته قواعد وأصول لا تعرف المفاجآت

رأى أن الفن هو الأب الحقيقى للثقافة فى جميع مجالاتها.. وكان يذهب للنمسا سنويًا للاستماع لأعمال «موتسارت»

كتب رسالة خاصة للروائى بهاء طاهر لحصده «البوكر»: الجائزة سعت إليك كما يسعى حق لصاحبه

اعتذر عن عدم قبول الدكتوراه الفخرية فى العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية: تكريم الصحفى من حق جمهور قرائه

والده وهبه للأزهر.. ووالدته أصرت على إلحاقه بالتعليم المدنى

استمع إلى قراء العصر فى رحاب «الحسين».. وجلال صوت «محمد رفعت» لم يفارق مخيلته أبدًا

حفظ القرآن فى الخامسة.. وتحدى ظروف عائلته القاسية التى منعته من التقدم فى التعليم لآخر مراحله

فى منتصف السبعينيات رفض تعيينه مستشارًا لرئيس الجمهورية للعودة لمقاعد الدرس

زوجته «هدايت تيمور» لعبت دورًا محوريًا فى صياغة ظاهرته الفريدة

بدت «سارميللا بوز»، مديرة كلية الصحافة فى جامعة أوكسفورد، مأخوذة بحضور الأستاذ «محمد حسنين هيكل» المشهد الافتتاحى لأول كلية تنتمى إلى صناعة الإعلام فى أعرق الجامعات البريطانية.

بأثر مما قرأت وسمعت وتابعت غلبتها مشاعرها، كأنها لا تكاد تصدق أنه أمامها الآن.

عندما طلبت منه التقدم لإلقاء أول محاضرة تذكارية فى الكلية الوليدة، التى نشأت بالتوافق بين«أوكسفورد» و«رويترز»، وصفته بـ«الأسطورة الحية».

قبل أن يصعد على منصة أوكسفورد وصفه اللورد «كريستوفر باتن»، رئيس الجامعة، المفوض الأوروبى الأسبق، آخر الحكام البريطانيين لجزيرة «هونج كونج»، وأحد الأركان الوزارية فى حكومة «مارجريت تاتشر» بـ«أنه من عظماء الصحافة فى نصف القرن الأخير»، ثم التفت إلى «سارميللا بوز» قائلا: «لم يسبق لأحد أن وصفنى بالأسطورة الحية، على الرغم من المناصب الكثيرة التى توليتها والأدوار التى قمت بها، لكننى الآن يمكننى أن أترك المنصة لأسطورة حية لتتحدث إليكم».

المشهد بمعانيه ورسائله محفوظ على شرائط.

كان ذلك فى أكتوبر (٢٠٠٧).

مساء ذلك اليوم ضم عشاء على الشموع فى مطعم لندنى ثلاثة رجال: «اللورد باتن» و«هيكل» و«هنرى كيسنجر».

لم يكن من عادته تناول طعام عشاء.

وقد دار حوار طويل بين الماضى والمستقبل فى الشرق الأوسط، ما جرى وما قد يجرى.

فى ذلك العشاء تساءل «كيسنجر» إذا كان ممكنا أن يضمهما مع الرئيس الإسرائيلى «شيمون بيريز» لقاء مماثل على ضوء الشموع، فالثلاثة من مواليد العام نفسه (١٩٢٣).

استغرب «هيكل» اقتراح «كيسنجر»، فمن القواعد الصارمة التى التزم بها ألا يلتقى إسرائيليين، على الرغم من أنه منفتح على أى اتجاهات فى العالم ولا توجد له عداوة مع اليهود كأصحاب ديانة سماوية.

لم تكن صورته من بعيد تضاهى حقيقته الإنسانية.

هناك من تصوره إلها إغريقيا فوق جبال الأوليمب ينظر من فوق، يستكفى بإرث تاريخه ويستغنى عن جديد عالمه، وأن ثقته فيما يكتب ويقول أقرب إلى النصوص المقدسة، وهذه أوهام لاحقت تاريخه، وكأى أوهام فإنها لم تكن صحيحة فى أية لحظة.

فى تسعينيات القرن الماضى رسمه الفنان «جورج بهجورى» كـ«آلة للتفكير بأسلاك متداخلة تنتج رؤى وسياسات».

الصورة ــ أحيانا ــ أقوى من الحقيقة بالاعتياد، أو بالتقادم، لكن حسه الإنسانى كان أكثر رهافة من صور أسلاك متداخلة لعقل يفكر طوال الوقت دون توقف أو راحة.

لم يكن عصيا على الذين اقتربوا منه أن يلحظوا دون عناء ذلك المزيج فى شخصيته من تقاليد التهذب البريطانى وخفة الظل المصرية، لا تند عنه كلمة خارجة، ولا يتصرف بطريقة جارحة مع أحد.

فى أحاديثه الشخصية هو حكّاء عظيم، والحكى بإمتاع المعرفة غير الثرثرة باستهلاك الوقت.

كان مغرما بالطقوس مثل غرامه بالشعر والقوافى، لكل فعل طقس.. العمل والرياضة والصداقات حتى فى الصيف على شاطئ الساحل الشمالى يجلس يوميا يتابع الغروب على دكة خشبية خضراء، وربما أدى غرامه بالطقوس إلى شيوع صورة العقل المجرد عنه.

سألته عن رأيه فيما رسمه «بهجورى»؟

قال: «عقل إيه، ومبرمج إيه، ده نصف الذى أكتبه أدب»، وهذه حقيقة، فبعض كتاباته ــ بشهادة روائيين كبار أهمهم «نجيب محفوظ» ــ ترتقى بصورها الدرامية والإنسانية إلى مصاف الأعمال الروائية الرفيعة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه روائيا ولا كانت كتابة الرواية من أحلام الشباب التى راودته.

الشعر هو عشقه الأول، كان يحفظ نحو عشرة آلاف بيت من التراث العربى القديم والحديث خاصة لـ«المتنبى» و«شوقى» ويستعيدها فى أحاديثه العادية كأنه يتنفسها، فلكل موقف بيت شعر يستدعيه من الذاكرة يعلق عليه ويبدى رأيه فيه.. واستعادة محفوظاته الشعرية كانت من وسائله لتدريب الذاكرة أن تأبى نسيان ما جرى.

فى لحظاته الأخيرة، وهو ينازع الروح، أخذ يردد أمام أبنائه بعض أبيات شعر تؤكد أنه لا فائدة من معاندة الطبيعة والقدر.

من عباراته: «أنا شاعر مقموع».

فى سنوات التكوين الأولى بالمدارس الابتدائية تتلمذ على يد شاعر كبير هو «على الجارم»، ساعدته تلك المصادفة على تنمية ذائقته الشعرية.

«كنت قريبا من الأدب والشعر والمسرح، ولم تخطر الصحافة ببالى فى البدايات».

فى سنوات تكوينه الأساسى تأثر برجلين لكل منهما شخصية تناقض الآخر.

الأول ــ «كامل الشناوى» بحياته الصاخبة البوهيمية وطباعه الحلوة والمشاكسة.

«فى كل يوم قصة حب جديدة وإحباط آخر وقصيدة مبدعة«.

كلما ورد اسم «الشناوى» تبدت على وجهه ابتسامة رائقة وتدفقت عليه الذكريات المحببة، ولا يستدعى اسمه فى جلساته الحميمة إلا على النحو الذى كان يخاطبه به: «كمولة».. بينما لا يذكر اسم «محمد التابعى»، ولم تكن هناك حواجز بينهما، إلا مسبوقا بلقب «الأستاذ».

التناقض ما بين شخصيته الانضباطية فى مواقيتها وعملها وتصرفاتها وما بين شخصية «الشناوى» بكل جموحها وعفويتها وليلها الممتد حتى ساعات الفجر سر عمق ذكرياته، فـ«التناقضات تصنع جمال علاقاتها وخصوصيتها».

والثانى ــ الدكتور«محمود عزمى» بثقافته الموسوعية وعمق رؤيته، وقد أفضت حواراته المنتظمة معه قبل ثورة يوليو إلى توسيع مدى نظرته إلى حقائق الأشياء والعصور، كان يعتبره: «من بقايا الرعيل الأول لكُتاب مصر العظام».

فيما بعد يوليو قدمه إلى «جمال عبدالناصر»، الذى عينه ممثلا دائما لمصر فى الأمم المتحدة وفارق الحياة شهيدا على منبر مجلس الأمن.

كان وفيا لأساتذته بأكثر مما هو معروف ومعلن، كان بوسع «التابعى» و«الشناوى» أن يطلبا ما شاءا فى ذروة صعوده الستينى وأن يمشى ما يطلبان على الرقاب.

«لم يكن ممكنا أن أمانع فى طلب حتى لو كان فيه خرق لأصول ونظم وقواعد».

صداقته الخاصة مع «الشناوى» تبدو غريبة على صورته النمطية.

فـ«الشناوى» أحد الصعاليك العظام فى حياتنا الأدبية والشعرية والسياسية، بينما هو لم يجلس فى حياته على مقهى، رغم أنه ابن منطقة «الحسين»، ولا تعود السهر لبعد التاسعة إلا لظروف طارئة.

«قلت له يا كمولة يا ريت تسجل ما تقوله على ورق، فالأحاديث الشفهية مهما تكن روعتها وسحرها تنسى مع الوقت ولا يبقى منها شىء».

«بروح الفنان البوهيمى كان يحب فكرة الحب ذاتها أكثر من أن تكون شخوصا وقصص حياة».

بدا كل أمله أن يأخذ «الشناوى» منه شيئا من الانضباط، لكنه لم يتغير.

وربما آمل هو أن يأخذ شيئا من حرية أمير الساخرين، لكنه لم يتغير.

كان منضبطا فى علاقاته، فللقاءات قواعد وأصول لا تعرف المفاجآت، أو ضيوفا لا يعرف أنهم قادمون إليه.

فوجئ ذات مساء أن «الشناوى» دعا إلى منزله المطربة «فايزة أحمد» على حفل عشاء.

طرقت الباب ودخلت إلى صالون البيت، وهو وقرينته لا يعرفان من هى، ليكتشفا بعد عشر دقائق أنها «فايزة أحمد»، وأنها جاءت بدعوة من «الشناوى»، الذى تأخر بالحضور.

«هيكل» و«الشناوى» شخصيتان على طرفى نقيض، لكن جمع بينهما شىء ما، ربما رغبة المتناقضات فى التلاقى.

«الانضباط شرط ضرورى للإبداع حتى فى الفن».

لعله ــ من هذه الزاوية ــ كان أقرب ما يكون إلى انضباط «نجيب محفوظ» فى الإبداع الروائى.

كما هو معروف فقد كتب رواياته فى مواقيت محددة لا يغيرها، وفى فصول معينة من العام لا يبدلها.

كان «محفوظ» يميل فى شبابه إلى حياة الصعاليك، بمعناها الذى عرفته الحياة الأدبية والفنية المصرية، غير أنه لم ينقل هذا النمط من الحياة إلى مواعيده فى كتابة الأدب الروائى.

أما «هيكل» فكل شىء فى حياته منضبط بمواعيد لا تتغير، وبتقاليد فى كتابة مقالاته وكتبه أقرب إلى الاستغراق الكامل، لا اتصالات هاتفية ولا أحد يدخل إليه.

وحده مع أقلامه وأوراقه وسيجاره، الذى دعاه الأطباء مرة بعد أخرى للامتناع عنه دون جدوى.

«لماذا أنا الآن هنا ــ داخل إطار يبدو بعيدا عن موطنى الطبيعى باعتبارى كائنا عاش عمره، ومارس عمله وسط مواقع الصحافة ــ وقرب مواقع السياسة».

هكذا طرح السؤال على نفسه، وهو يلقى كلمة نادرة بموضوعها ومجهولة بنصها، فى افتتاح معرض للفنانة «تحية حليم».

«لاختصار الطريق إلى إجابة واضحة فقد أقول من البداية إننى واحد من الذين يعتقدون أن الفن هو الأب الحقيقى للثقافة فى جميع مجالاتها، ثم إن الفنون التشكيلية هى الحلقة الرئيسية فى قصة الصعود المدهش ــ على سلم الحضارة الإنسانية».

هذا المقال النادر ينير بعض ما خفى فى الجانب الآخر من حياته، حيث الفن بلغة الخطوط والألوان، كما الأدب بلغة الحروف والكلمات، من ضمن تكوينه الأساسى.

بناء الصور فى مقالاته وكتبه تعود إلى ذلك النوع من الثقافة.

كما كان الاستماع إلى السيمفونيات الكلاسيكية داعيا لترقية متعة السمع.

فى كل عام كان يذهب إلى النمسا للاستماع لأعمال «موتسارت» فى مهرجانه السنوى.

إعجابه بـ«موتسارت» الجامح فى مشاعره، وهو المنضبط على قواعد صارمة، مثير بذاته.

كان ذلك أقرب إلى زواج المتناقضات فى كيمياء البشر على الجانب الآخر من الحياة.

بتكوينه العقلانى لم يكن يتعجل إصدار أية أحكام قبل استبيان الحقائق، أو يأخذ الزمن حقه.

عندما حصد الروائى «بهاء طاهر» جائزة «البوكر» الدولية فى أول إطلالة لها على الرواية العربية عام (٢٠٠٨)، ولم يكن التقاه حتى ذلك الوقت، كتب رسالة خاصة إليه قال فيها: «أردت أن أحضر احتفال أصدقائك بك مع حصولك على جائرة البوكر، التى سعت إليك كما يسعى حق إلى صاحبه، وذلك شىء نادر فى زمان فرض فيه على الحق أن يخلف موعده أغلب الأحيان».

فى تلك الرسالة الخاصة جملة لافتة تضىء جانبا من شخصيته والمنطق الذى يحكمه فى النظر إلى معايير التكريم:

«إن الدائرة الواسعة للقراء هى الجائزة الأهم والصحبة الأبقى لأى كاتب أعطى نفسه حرية الاختيار فمنحه قراؤه نعمة الرضا».

قبل سنة من تلك الجملة المنيرة جاءته رسالة موقعة من «دافيد أرنولد»، رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تبلغه أن: «مجلس الجامعة صوت بالإجماع على أن يقدم لكم درجة الدكتوراه الفخرية فى العلوم الإنسانية».. فـ«إنجازاتكم طوال تاريخكم العملى تعكس مستوى عاليا من الأمانة والامتياز فى توثيق تاريخ مصر السياسى، وإسهاما له قيمته المؤثرة والمستمرة والحيوية فى تطور الشرق الأوسط» ــ (١٩) فبراير (٢٠٠٧).

وهكذا رد فى (٥) مارس التالى على تلك الرسالة:

«إننى شديد التأثر ـ راضٍ وممتن، لكن لدى مسألة أرى أهمية وضعها أمامكم، وتلك هى أننى التزمت أمام الرأى العام من بداية عملى على أن تكريم الصحفى من حق جمهور قرائه بحكم سلطتهم الأدبية والمعنوية عليه، ثم إنه مطالب طوال حياته المهنية بأن يلتزم بهذا الحق للرأى العام دون بديل أيا كان شكل تعبيره: وساما أو لقبا أو تقديرا من أى جهة أو من أى نوع».

«إننى حاولت مراعاة هذا المبدأ إزاء دول شاءت أن تهدينى أوسمتها بما فى ذلك وطنى مصر ــ كذلك راعيته إزاء هيئات تفضلت وأرادت أن تحتفى بى، بما فى ذلك جامعات عربية وغير عربية رأت أن تهدينى أرفع درجاتها العلمية».

«ولقد وضعت التزاما ــ مصيبا فيه أو مخطئا ــ أمام جميع المبادرين بالفضل، وأسعدنى أنهم ــ فى الغالب الأعم ــ تفهموا دواعيه، حتى وإن رآه بعضهم تعسفا لا ضرورة له».

فى (٢١) مارس كتب «دافيد أرنولد» رسالة ثانية سجل فيها تفهمه لـ«الأسباب التى بنيت عليها موقفك فى هذا الاعتذار عن قبول عرض الجامعة الأمريكية بالقاهرة».. رغم «خيبة أمل مجلس الأمناء والهيئة الأكاديمية بالجامعة لأنهم لم يستطيعوا أن يقدموا لك تقديرهم لإسهامك فى قضايا الشرق الأوسط على شكل دكتوراه فخرية».

ولد فى (٢٣) سبتمبر (١٩٢٣) لأسرة متوسطة الحال أصولها من صعيد مصر، ثم وهبه والده للأزهر، كما وهب أخويه الكبيرين للتجارة، غير أن والدته، وهى الزوجة الثانية، أصرت على إلحاق ابنها بالتعليم المدنى وإعطائه فرصة أوسع للحياة.

للآن توجد صورة لـ«هيكل» الصغير بزى الأزهر الشهير لدى إحدى شقيقاته.

استرق السمع لأمه وهى تقرأ لأبيه نصوصا مكتوبة من السير الشعبية، التى بهره سحر خيالها.

لم تتصور الأم، ولا الأب، أنه كان يسمع ويتأثر وأن الحكايات سيطرت على وجدانه بالكامل، أو أنها سوف تلهم مستقبله.

كان الجد يصحب حفيده للاستماع إلى قراء العصر فى رحاب «الحسين»، من بينهم الشيخ «على محمود»، والشيخ «الشعشاعى»، والشيخ «محمد رفعت»، الذى لم يفارق جلال صوته مخيلته أبدا.

حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب فى الخامسة، أو السادسة من عمره، على يد الشيخ «قاسم»، وقرأ ما تيسر له من كتب فى مكتبة جده.

تحدى ظروفا قاسية داهمت عائلته منعته من التقدم فى التعليم إلى آخر مراحله، علم نفسه بدأب، التحق بالقسم الحر فى الجامعة الأمريكية لتعلم الإنجليزية، ومر على القسم الحر فى مدرسة الليسيه لتعلم الفرنسية، التى أتقنها مثل الإنجليزية وقرأ بها، كما حضر دورة دراسية فى كلية الصحافة بجامعة فى نيويورك، ودورات مماثلة فى جامعات غربية أخرى، بل إنه حضر دورة دراسية فى الجامعة الأمريكية فى علم الاجتماع السياسى بعد خروجه من «الأهرام».

لم يستنكف منتصف سبعينيات القرن الماضى أن يجلس على مقاعد الدرس من جديد بالوقت الذى رفض فيه تعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية، أو نائبا لرئيس الوزراء فى حكومة «ممدوح سالم».

بأى قياس اعتيادى فإن رفض المنصب الرسمى الرفيع والجلوس مجددا على مقاعد الدرس، وهو أقوى وأشهر صحفى فى الشرق الأوسط دون منازع، خارج كل ما يمكن تقبله، أو تعقله، أو تفهمه.

بمنطقه هو فإنه تأهب بزاد إضافى من العلم لدخول مرحلة جديدة من عطائه العام أسفرت عن مجموعات كتبه التى أرخت ووثقت للصراع على مصر.

ما لم يكن متقبلا، أو متعقلا، أو متفهما ساعده على الوصول إلى آفاق لم يصلها أحد قبله.

«فى كل مراحل حياتنا هناك أستاذ يعلم ويؤثر بأكثر مما نتصور وحياتنا تتوقف على الطريقة التى نستقبل بها المقادير، نشيطين فى التفاعل معها أو بليدين».

هكذا قال بعد أن استكملت تجربته مقوماتها كلها.

كان ممن يعتقدون أن المشاعر تخص أصحابها.

تزوج عام (١٩٥٥) بالسيدة «هدايت تيمور»، وشهد «جمال عبدالناصر» على عقد الزواج، ولم يكن يفضل التطرق إلى حياته الأسرية فى الصحف.

لمرات عديدة أبدى ضيقه من بعض ما ينشر عن حياته الشخصية، معتقدا أنها ملكه وحده.

وقد اختار لأبنائه وأحفاده مهنا أخرى غير الصحافة حتى لا يظن أحد أن ما يحصدونه من فرص فى المهنة مجاملة لأب، أو جد.

سألت كبرى حفيداته «هدايت على هيكل» عندما كانت فى سنتها الأولى بالجامعة الأمريكية: «لماذا لم تدرسى الإعلام؟».

رد جدها بالنيابة: «يكفى واحد من عائلة هيكل».

على الرغم من حرصه البالغ على خصوصية حياته العائلية، إلا أن كل من اقترب منه يكتشف دون عناء الدور المحورى الذى لعبته السيدة «هدايت تيمور» فى صياغة ظاهرته الفريدة.

ذات مرة وصف علاقة «جمال عبدالناصر» بحرمه«تحية كاظم» بـ«الولاء».

«عنده ولاء لها»، يضايقه أن تحزن ويرضيه ما يسعدها.

ذلك معنى أعمق وأهم وأجمل من عبارات الحب الاعتيادية.

نفس الوصف ينطبق على علاقته هو بحرمه.

عندما أُخضعت لتدخل جراحى حساس فى لندن، واضطر أن يعود للقاهرة لفترة قصيرة بسبب ارتباطات لا تحتمل تأجيلا، كان قلقا بصورة أفقدته رغبة الحديث، يسمع ولا يتكلم، فمشاعره هناك حيث ترقد مريضة.

سألته: «هل تعرف أنك تحبها إلى هذا الحد؟».

كانت تعرف بأكثر مما قدرت.

لم يكن يخفى عنها شيئا لكنه أبعد أولاده «على» و«أحمد» و«حسن» بقدر ما يستطيع عن شواغله وأزماته، وبعضها مزعجة.

ولم يكن يخفى ضيقه البالغ من الخلط بين دوره العام وطبيعة عمل أولاده، فإذا ما اعترضت أحدهم أزمة ما فإنه يتم تعريفه فى العناوين الصحفية بـ«نجل هيكل»، على الرغم من أنه يستطيع أن يتحمل مسئولية تصرفاته.

هو رجل عوّد نفسه على احترام حقائق الحياة، لكن مشاعره غلبته على نحو فادح عند رحيل شقيقه الأصغر الدكتور «فوزى هيكل» الأستاذ بالجامعات الأمريكية.

لم يكن الدكتور «فوزى» يذكر اسم شقيقه الأكبر إلا مسبوقا بـ«الأستاذ» حتى فى أحاديثه الخاصة على ما أكد لى أصدقاؤه، ومن بينهم الدكتور«أشرف البيومى»، والدكتور «كمال خلف الطويل».

سألته: «لماذا اتسعت المسافة مع شقيقك الوحيد إلى هذا الحد؟».

قال: «لا تنس فارق السن، خمسة عشر عاما، وقد تكفلت برعايته وتعليمه بعد أن توفى والدنا، فهو ابنى بكل معنى إنسانى، لا أخى كما تقول شهادة الميلاد».

وقد بكاه بحرقة أب على ابن.

بالإضافة إلى «فوزى» فهناك ثلاث شقيقات ارتبطن به، وكان مثيرا أنهن تزوجن من ثلاثة أشقاء، بعضهم سفراء.

تحدث كثيرا وطويلا عن والدته ودورها فى حياته، لكنه لم يكن يتطرق إلى والده.

Comments

عاجل