المحتوى الرئيسى

الحق فى أن ننسى

02/19 22:03

لم يكن أحد العلماء هو أول من تنبأ بإمكانية «نسيان النسيان»، لكنه كان الشعر والأدب كما هى العادة دائماً. نزار قبانى بالذات كان قد قال فى قصيدته «نهر الأحزان» شيئاً عن ذلك؛ إذ راح يصف شخصاً يائساً من إدامة علاقته بمحبوبه على النحو التالى: «تاريخى ما لى تاريخ.. إنى نسيان النسيان.. إنى مرساة لا ترسو.. جرح بملامح إنسان». تظل الذاكرة مناط اهتمام واعتزاز بل وتنافس أحياناً، وهى تستحق الكثير من الجهد لصيانتها وتنشيطها، حتى إن شركات الدواء باتت تخترع الأدوية والمكملات الغذائية المناسبة، لكى تدعمها وتنعشها وتديمها بقدر الإمكان. وعلى عكس المخاوف السائدة من فقدان الذاكرة، أو تراجع قدرتها، يبدو أن مخاوف عكسية تبرز، وهى مخاوف تتعلق بفقدان النسيان أو نهاية عهده. فمع مطلع القرن الحادى والعشرين، كان بإمكاننا أن نتوقع نهايات الكثير من العهود، وأن نتقبل تلاشى الكثير من المفاهيم الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، أو تعرضها لتغييرات فارقة. عندما تتعلق صيغة «نهايات العهود» بالمفاهيم المادية، والأداة والآلة، لا يجب أن يزعجنا ذلك كثيراً، بل على العكس تماماً؛ فقد انتهى عصر السفر على الدواب، وكان ذلك مقبولاً ودليلاً على تطور البشرية، ويكاد، فى هذه الآونة، عصر الصحافة المطبوعة أن يمضى، ولا نرى بأساً فى ذلك، إلا من زاويتى الانعكاسات الاقتصادية على صناعة الصحافة، أو تغير أنماط التعرض لوسائل الإعلام. لكن «العهود» التى بدأت تزحف كما الأفيال إلى مقابرها، تتضمن أشياء شديدة الحيوية، وشديدة الارتباط بمفهوم الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالكون، بل وبجوهر الإيمان.

فى شهر ديسمبر من العام 2016، نقلت صحيفة «ذى جارديان» البريطانية عن باحثين أمريكيين قولهم إنهم توصلوا إلى شكل جديد من أشكال العلاج الجينى الذى يحظى بتأثير تجديدى واضح على فئران التجارب التى شملتها دراساتهم. فبعد مرور 6 أسابيع من العلاج، عاد الشباب للفئران وقد استقامت أعمدتها الفقرية وتحسنت لديها صحة عضلة القلب، وشفيت سريعاً من الجروح، وعاشت مدة أطول بنسبة 30%، . يقول «خوان كارلوس ايزبيسوا»، الذى قاد فريقاً بحثياً فى معهد «سالك» فى ولاية كاليفورنيا، إن دراسة أجراها المعهد أظهرت أنه «قد لا يكون بالضرورة مضى الشيخوخة قدماً فى اتجاه واحد، بل يمكن التصدى لها من خلال القيام ببعض التعديلات الدقيقة».

وقال الباحثون إن ذلك قد يساعدهم فى الوصول لنهج جديد خاص بالرعاية الصحية، تتم فيه معالجة مشكلة الشيخوخة نفسها، بدلاً من معالجة الأمراض العديدة التى ترتبط بها.

فهل يعنى ذلك أن فكرة الشيخوخة باتت على المحك؟ يرى أستاذ الفيزياء النظرية، فى جامعة «نيويورك سيتى»، «ميشيو كاكو» أن أربعة اختراقات بشرية صنعت مسيرة التطور العالمى، وحددها فى اكتشاف قدرة البخار، ثم اكتشاف الكهرباء، والتكنولوجيا وخصوصاً تجليات «الإنترنت»، وصولاً إلى الاختراق الرابع المتمثل فى «الذكاء الاصطناعى».

يقول «كاكو» إن «الإنترنت» سيكون فى عدسات العيون، وبالتالى فستكون المعرفة مجانية وفورية، بحيث ستلتقى شخصاً للمرة الأولى، فتأخذ عدسة العين صورة له، وتضعها على محركات البحث الموصولة بـ«الإنترنت»، لتعرف كل المعلومات المتوافرة عنه. لن يكون فى المستقبل مكان لبطاقات التعارف، أو عبارات من نوع «لا أتذكر اسمك» أو «أين تقابلنا آخر مرة».

بحسب «كاكو»، لن يخفق أى منا فى فهم اللغة الصينية أو السواحلية وإدراك معانيها، ولن يحتاج إلى مترجم أيضاً، لأن الاتصال المباشر ببرامج الترجمة، سيمكننا من الحصول على ترجمة فورية لكل ما نسمعه من اللغات الحية والميتة. نحن نتحدث إذن عن نهاية عهد الترجمة البشرية، بما قد يستتبعه ذلك من انعكاسات على وظيفة الترجمة، وبقاء المترجم، ودراسة اللغة لغير الناطقين بها، وبما سيجلبه أيضاً من منافع على صعد التجارة والسياحة والتعليم والتبادل الثقافى. ليس هذا فقط، لكن ما يطرحه «كاكو» يبدو أكثر إثارة للاهتمام عندما يصل إلى الحديث عن «الذاكرة» و«النسيان»، فمع استمرار هذا النوع من البحث والتطوير، سيمكن أن نتحدث عن «نهاية عهد النسيان»، خلال العقد المقبل على الأرجح. فـ «النسيان» ليس سوى «عدم القدرة على استرجاع المعلومة عند الحاجة إليها»، وهذا الخلل، فى حد ذاته، يبدو فى طريقه إلى «النسيان».

وبمعنى أكثر بساطة؛ فإن الإنسان يقوم بتخزين المعلومات فى ذاكرته على شكل شبكات متداخلة، حيث توجد فى كل شبكة معلومات تتعلق بمفهوم معين، وترتبط هذه الشبكات مع بعضها بعضاً بعلاقات معينة، وعند التفكير فى مفهوم محدد، يتم فتح الشبكة المتصلة بهذا المفهوم، والشبكات التى تحتوى على مفاهيم قريبة منه، أما «النسيان» فيحدث عندما يتم قطع هذه الشبكة بسبب حدوث تشوش أو تدخل يضعف القدرة على التركيز. ستتكفل علاجات «الخلايا الجذعية» بمنع هذا الخلل أو الحد منه إلى أقصى درجة، إذ إنه لا يخرج عن أسباب محددة ومعلومة؛ مثل سوء التغذية، أو رداءة الطعام، أو الإدمان على الكحول، أو التدخين، أو الاكتئاب، أو «ألزهايمر»، أو السكرى، أو اضطرابات الدماغ. وإذا أخفقت علاجات «الخلايا الجذعية» فى ذلك، فإن أنظمة «الذكاء الاصطناعى» لن تخفق؛ إذ سيتم تخزين كافة تلك المعلومات على شرائح ذكية، وسيتم عقد علاقات ارتباط قوية بين المفاهيم المتقاطعة والمتقاربة، وسيتم استدعاء المعلومات، بالصوت والصورة، فى ثوان. لكننا كثيراً ما نسعى قاصدين إلى النسيان؛ فها هو «واسينى الأعرج» يحضنا على أن نتعلم كيف ننسى: «وحده النسيان يشفى الذاكرة من أوجاعها القاسية»، كما يعتقد «عبدالرحمن منيف» أنه «لولا النسيان لمات الإنسان لكثرة ما يعرف، ولكثرة الهموم والعذاب والأفكار التى تجول فى رأسه». يبقى هذا ضرباً من ضروب التأويل الثقافى لهذا المفهوم.. «النسيان»، لكن إثباتات علمية أقرت بذلك، حين اكتشف باحثون أن كثيراً من العلاجات للصدمات النفسية والعاطفية والحياتية، يكمن فى «التدرب على النسيان». يتسق هذا بشكل أو بآخر مع نصيحة «ستيفن كوفى»: «تعلم كيف تنسى لتعيش.. تعلم فن النسيان»، ومع الخلاصة التى يقولها «جبران خليل جبران» بقطع واطمئنان: «النسيان شكل من أشكال الحرية»، وهو ما يأتى العلم التجريبى ليثبته بوضوح، فى تحديده عامل «الترك والغمور»، كأحد العوامل التى يلجأ إليها البعض، للتخلص من المآسى والتجارب الصادمة فى حياتهم، عبر إيداعها بعيداً فى الغياهب المظلمة فى العقل والوجدان. لا يمكن إنكار أن «عهد النسيان» يشرف على الأفول، ليس فقط بفعل تجليات «الذكاء الاصطناعى»، واختراقات العلاجات بـ«الخلايا الجذعية»، لكن كذلك عبر تآمرنا على الذاكرة فى كثير من الحالات.

أهم أخبار توك شو

Comments

عاجل