المحتوى الرئيسى

ريهام مهدي تكتب: “بليغ” العائد ليحكي عن “طلال”

02/18 10:42

يطالعك اسم الرواية المكون من كلمة واحدة تتصدر غلافًا دمويًا يحتل خلفيته عود، فيتأهب عقلك أنه على وشك قراءة سيرة ذاتية عن موسيقار المتعة الخالصة “بليغ حمدي”، بل قد تجد نفسك تهمهم بأحد الألحان المميزة لذلك الموسيقار الذي جُنّ بالموسيقى وجنت به.

يصفعك طلال في بداية الرواية بأنه يحدثك عن نفسه، ويوفر عليك عناء القياس والتخيل والمقاربة والمقارنة حين يذكر للقارئ صراحة اسم بطل الرواية وهو في حقيقة الأمر “طلال فيصل” حين يحاول أن يجد في الكتابة ملاذًا آمنًا كمحاولة للفرار من ألم مُلّح مغروس في أبعد نقطة في أعماقه.

بل يذهب إلى أبعد من ذلك، في بداية الراوية ذاتها يوفر على القاريء أيضاّ محاولة غربلة ولضم الخيوط الدرامية للرواية بقوله:

“حكايتي معقدة ومبنية على ثلاث خطوط متوازية، أولها سيرة موسيقار موهوب أدرك سر الحياة والنغمة الحلوة والنسوان فابتهج وأبهجنا معه، وثانيهما حدوتة فتى غر غادر بلاده هربًا أو عشقًا أو كليهما، فانتهى مكلبشًا في مصحة في قلب باريس، وثالثهما سيرة الهرب من الهوس والحزن بمطاردة نغمة حائرة ومحاولة تحليلها في صحبة موسيقار مغربي مديوكر، غير موهوب، ولا قيمة فعلية له في الحكاية” (ص: 35)

يبدو طلال الكاتب -وليس طلال بطل الرواية- صادقًا فيما رواه عن روايته، حيث بالفعل قسمها إلى ثلاث أقسام غير متساوية، قسم يحتل ما يقرب من مائتي صفحة يروي ويتداخل فيها بين “طلال” و”بليغ”، يفتح مسام كلا منهما بمشرط جراح ماهر ليصنع ممرات سرية تتيح لـ”طلال” أن يبني جسرًا نحو التعافي من قصة حب تبدو وأنها أطفأت روحه، وتسلط الضوء على موسيقار ملأ الدنيا ضجة وإيقاعًا وحبًا وتمردًا فصبت عليه نفس الدنيا قدرًا لا بأس به من اللعنة بقدر ما منحته من نعيمها. ثم ينطلق طلال -الكاتب- كمن يتذكر أنه لم يوثق أو يدون بالقدر الكافي عن حياة هذا الموسيقار العبقري فيفرد ما يقرب من مائة صفحة عبارة عن أوراق وقصائص وخطابات يتم الإشارة إليها أنه تم العثور عليها في نوتات خاصة بالموسيقار دون وجود أي صورة فوتوغرافية من خط يده. ثم ينتهي بتخصيص عدد ورقات تتطاير في نهاية الرواية عن الموسيقي المغربي كما ذكر آنفًا والذي يراه بلا تأثير حقيقي في مجرى أحداث الرواية سوى أن يلعب دور مساعد المخرج الذي يساعده على تظبيط الكادر لكي تضع عدسة المخرج نهاية للفيلم.

في بداية قراءتي للرواية التي استغرقت مني يومًا متواصلًا كنت أسير على ما رسمه “طلال” من مسارات ثلاثة للقاريء ليتحرك من خلالها، ثم وجدتني أتمرد على خطوطه المستقيمة المتوازية وأنبش بأظافري في طبقات أخرى من الوعي أو لنقل اللاوعي الذي تم طرحه من خلال تلك المسارات التي تبدو على السطح محاولة سردية لسيرة ذاتية سواء لموسيقار أو شاب فقد إيقاعه ويجاهد لأن يتزن.

رأيت أن الرواية تتحرك في مسارات ثلاثة بالفعل، لكنها ليست مسارات الشخصيات الثلاث بقدر ما هي مسارات الهشاشة الإنسانية ومراحلها: التعري الكامل، التفكيك لكل ما حدث، التقبل لما حدث، المضي في الحياة حاملين ندبة لا يراها سوانا بلا إنكار، بلا مقاومة. ومنحها الوقت الذي تتطلبه كي تلتئم.

مرحلة التعري الكامل، يمنحنا الكاتب تفاصيلًا قد تتقاطع مع حياته ذاتها وهذا أمر يتطلب قدرًا هائلًا من الشجاعة، ذلك القدر من الشجاعة التي تتيح لصاحبها ألا يكترث بآراء الآخرين، وألا يبدو أمامهم أنه صاحب أسطورة وموهبة فذة وكأنه يعمد إلى تكسير صنم “صورته المثالية” التي صنعها عنه الآخرون، فتجده صادقًا حد الصدمة ليس في استخدام تفاصيل عن عائلته بقدر ما يصفعك حين تصبح أول جملة على لسان بطل الرواية “كسم الحب يا دكتور. كسم الحب”.

يستطيع أن يكون كاذباّ ويدعي بطولات وهمية تتعلق بما حدث في وقت ثورة يناير، فلا زلنا حتى هذه اللحظة ننظر في أعين من حولنا وهم يتحولون إلى قاصين على ربابة عن بطولاتهم الجسيمة وقت الاشتباكات الثورية فنتركهم يسترسلون ونحن نعلم أننا بصدد هبّة هرمونية ثورية ستذهب إلى حال سبيلها ثم سنتفرغ جميعًا لتجرع الهزيمة كل على شاكلته. يحرمك الكاتب من أن تعيش أحد تلك الهبات الهرمونية بقوله في منتهى البساطة والصدق والشجاعة أنه وقت الثورة كان مشغولًا بفض عذريته مع فتاة فرنسية ساقها الشبق إلى الشرق.

يتعرى الكاتب كلية بغية أن يمنح صوتًا لألمه، فهو يريد أن يكتب كما يرى لا كما يمليه عليه الموقف أو الحالة، يتضح ذلك جليًا حين خاطب نفسه: هل يشبع نهم أبناء جيله في أرض الوطن بالكتابة عن مآثر فرنسا أم يكتب لهم بكل صدق عن وجعه وألمه، أيًا ما يكون اختياره فاعتقد أنه اختار أكثر الطرق إثارة للصدمة.. التعري الكامل، ولكنها من ناحية أخرى أكثر الطرق أيضا قربًا للتعافي.

حين يملك المرء قدرًا من الشجاعة الكافية لأن يطرح ما يراه كما هو دون أن يضفي عليه ما هو زائف ودون أن يجّمل واقعًا قبيحًا، ستكون هناك لا شك قوة ستجد طريقها لأن تشير إلى بوابة الخروج من دائرة الألم. ذلك أن الطرح الشجاع لما يحدث في كل كادر يتيح لك أن تمارس مهارة تفكيك الحدث فتتضاءل الأشياء ويتقزم الأشخاص وتنكسر الكثير جدًا من الأصنام وينسحب البساط من تحت قدسية بعض المفاهيم. في مرحلة التفكيك يمنحنا الكاتب تفكيكًا لما يحدث في الثورة، تفكيكًا للشعب المصري “العلق”، تفكيكًا للهزيمة وإعادة تدويرها في مشاهد متفرقة من الثورة. يحمل ذات القدرة على التفكيك بشكل متوازٍ ليفكك لماذا صعد نجم الموسيقار “بليغ” ثم يبذل جهدًا واضحًا في معرفة المقامات الموسيقية وتفكيكها وتحليلها وربطها بهوية الموسيقار العبقري، لكنه لا ينسى في ذات الوقت أن يمارس لعبة التفكيك في هزيمة تجرعها جيل الموسيقار أيضا وهي الهزيمة الوطنية الكبرى وكيف تعامل معها الموسيقار بقدر كافٍ من الاستخفاف لكل ما ترمز إليه تلك المرحلة، نفس القدر من الاستخفاف الذي يرى به كل ما لحق بالثورة المصرية في يناير من هزائم وأحداث ومفارقات.

في مرحلة التفكيك، يميل المرء إلى إلقاء أحجار في كل مياه راكدة من دين أو أسرة أو مؤسسة أو وطن يفرض عليه حالة اغتراب قسري. أظن -بقراءتي المتواضعة- أن الكاتب هنا فعل كل ذلك ومارس تفكيكًا بمستويات مختلفة لكل مسار من تلك المسارات. يظهر ذلك جليًا في مقولته:

“رعشتك لحظة القذف لا تعني أن العلاقة ناجحة، تنحي مبارك لا يعني أن النظام سقط، صلابة الإخوان المسلمين، وجرح أبي وسط من جرحوا في موقعة الجمل، لا يعني أنهم ليسوا ولاد وسخة، وتخرجي من حقوق فرنساوي لا يعني أني أجيد الفرنسية، بكاء مارييل في النافذة يومها لا يعني أنها تحبني، حصولي على منحة كتابة لا يعني أنني كاتب، وصفوف المصلين الباكين لا تعني أن الله موجود، وخلود أسطورة بليغ حمدي لا يعني أن كل أغانيه عظيمة. فاسمع منّي وعنّي، وتذكر أنّ الفتى الذي نشأ في طاعة الله دخل جامعة القاهرة، وبدأ كل شيء، فتدبّر”. (ص: 36)

غير أن الكاتب عمد إلى إظهار بطل روايته كـ”ملحد” في صورة ساذجة أقرب لما يتم التهكم عليه في المرحلة الحالية بـ”الملحدين الجدد” وهم طائفة ممن نبذوا اختيار الدين، فتجدهم يحشرون حشرًا في كل جملهم مقولة “آه بس أنا ملحد”. يحاول أن يغلف تلك السذاجة بمقولة مقتبسة “ثمة شيء مشترك بين الله والحب: الجميع يتكلم عنه لم يره”، لكنه يتأرجح فيما لم يتم توظيفه بشكل حقيقي أو أقرب للتصديق بذكر الإلحاد بشكل مباشر. لا أرى ذلك شجاعة، هو أقرب لقراءتي الشخصية بمن خرج حديثًا من “عتمة” حتى وإن كانت “دينا” وحين وجد نفسه فيما رأته عيناه “نور” قعد يصيح ويسيح ويقول “هيييييييه، أنا بقيت كذا. شفتوني وأنا كذا” لربما تلك هي العثرة الوحيدة من وجهة نظري فيما يتعلق بالرواية في مرحلة التفكيك. ومن ناحية أخرى أسرف علينا الكاتب في استخدام الآيات القرآنية في سرد الأحداث، يبدو ذلك منطقيًا للغاية حيث يعلق بالذاكرة أكثر سحر لا تستطيع الخلاص منه حتى وإن حاولت ويتفق مع نشأته الدينية وحفظه القرآن في سن مبكرة. أعجبني الظهور المبعثر للـ”خضر” كانت محاولة/ ات غير مكتملة للبحث عن الخلاص أو لإيجاد إجابات لأسئلة قطع عليها الطريق مبكرا بقوله إنه ما توجب على “موسى” أو طلال أن يطرح أي سؤال من البداية.

في الجزء الخاص بسيرة الشاب الغر الذي غادر بلاده تجد الجمل قصيرة متلاحقة، يبدو وأن الكاتب ينهج في روايتها لأنه يريد أن يلقي على قارئه قولًا ثقيلًا لكي يستريح، تتأرجح لغته بين استخدام العامية واستخدام اللغة المعاصرة حيث يتم استخدام كلمات بالإنجليزية ودمجها مع السياق دون أن يخل ذلك بالنص، وبين التأرجح المحسوب تمامًا من استخدام آيات قرآنية ومقاطع من كلمات أغنيات شهيرة في مسيرة الموسيقار، كلاهما كان السياق السحري الذي تولدت من خلاله مأساة البطل والموسيقار معًا.

يعلل الكاتب نفسه اختيار سيرة حياة الموسيقار بليغ حمدي بقوله:

“البرنس في ذات نفسه”، ثم يمضي مسترسلًا:

“هل تعرف يا سليمان لماذا يحب المصريون بليغ حمدي؟ أقول أنا لك، لأنه -نجح في تحقيق المعادلة التي يحلم بها كل مصري بتحقيقها، أن يعيش على مزاجه، ثم في الوقت ذاته يحقق الأسطورة والنجاح والخلود! كيف تكون علقًا وناجحًا في الوقت نفسه، كان تعبيرًا مثاليًا عن الرجل الذي ترك نفسه تمامًا لما يريد، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ رجل محترم وفل الفل، ينبسط ويقضي حياة لطيفة، يشرب وقتما يريد، يسافر، يلحن، دون ارتباط لا بمشروع ولا قيمة ولا معنى كبير، يتزوج صباحا ويطلق مساءًا ويلحن حين يطيب له اللعب بالعود”. (ص: 74)

هذا ما ذكره الكاتب نفسه، ولكني أرى أن البعض يختار نموذجًا أبعد ما يكون عن شخصيته ليتوحد معه في محاولة للتخلص من عباءته القديمة، لذا فإنه ينسج خيوطًا غير مرئية مع عباءة جديدة، وكأنه يربت على كتفه قائلًا: “في حياة أخرى كنت سأصبح بليغًا. كنت سأصبح برنسًا في نفسي”. هذا يمنح الطمأنينة بعض الوقت لكنه قد يمنح أيضا قدرًا متوقعًا من التيه حين نرتضي أن نتوحد مع من لا يتشابكون معنا بعمق في جذورنا الأصيلة.

يختتم الكاتب روايته -من وجهة نظري المتواضعة- بمرحلة أراها أن تسير حاملًا ندبتك في ظهرك دون أن تحاول إخفاءها، تعد لها متكئًا وتمنحها ما تتطلبه من وقت لكي تلتئم. حين نتلقى الصفعة في بداية الأمر نطرح كثيرًا من التساؤلات، ظانين أننا سنجد الشفاء في الإجابة. وضع الكاتب سؤالًا يلخص عمق ألم بطل روايته على لسان “بليغ” بقوله:

و يمضي كالمذهول من حالة الخواء الذي يعتصر قلبه يتردد كبندول يتحرك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويطرق بعنف على فلاش باكات كل ما جرى وكان، تارة على لسان البطل وتارة على لسان “بليغ” بقوله:

“عندما نحب أحدًا فإننا نحب البقاء معه، النظر إليه، الاستماع لصوته. نتكلم معه، عنه، ليس عن العمل ولا الألحان ولا إيرادات الأسطوانات ولا المشاريع القادمة. عندما نحب أحدًا نبقى معه للأبد، وعندما نحب أحدًا نتمنى أن يكون لنا منه أطفال. ثمرة لهذا الحب الصادق!

عندما نحب أحدًا لا نجهض نفسنا مرتين. كأننا لا نريد رابطًا أبديًا بيننا وبينه!

هل أنا كفاية؟ ” (ص: 317)

لكنه يستدعي الخضر تارة أخرى حين يقطع على نفسه الطريق بقوله: “هذا سؤال لا أريد معرفة إجابته أبدًا”

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل