المحتوى الرئيسى

محمود نجيب يكتب: بداخلنا راندل ماكمرفي

02/18 10:20

يقولون دائما إن النفس قيمة عليا مطلقة وإزهاق الأرواح جريمة. ربما أجهل الكثير مما حدث بالماضي القريب ولم أشهد أبشع الجرائم التي حدثت منذ أزل ولكن قد صارت مياهنا دما ودماؤنا ماء واستنكرنا أحداثا ضد الإنسانية ثم استيقظنا أمام التلفاز غير عابئين بما قد يحدث غدا.

يكفينى أن أرى ما يحدث فى سوريا ومشاهد فلسطين فى مخيلتى وما نراه من نزاعات وحروب أهلية فى كل مكان كأنها وجبة ما قبل النوم، أسوأ ما في الأمر أننا قد اعتدنا على نشرات الأخبار الدامية والأشلاء المتناثرة التي يظهر نصفها تحت الأنقاض فى كل مكان، المناظر التي كنا نشمئز من رؤيتها من سنين مضت، أصبحت تمر علينا مرور الكرام صباح كل يوم كإعلان درامي عن لحوم البشر، ثم نمنا عاجزين صامتين آملين ألا نرى مثل هذا مجددا، ونحن لم نعد نحتمل العجز ولم نعد نطيق الصمت ولكن نشاهد الأبرياء عن كثب. أخشى أن نفقد القدرة على إبداء الاعتراض ثم تميل رؤوسنا بإيماءات التأييد دون قصد.

أخشى أن يسلب منا الشعور بالألم ونصير مجرد آلات بيولوجية تفتقد لانفعالات الإنسان الأول، لكنى أؤمن تماما أننا جميعا بداخلنا راندل ماكمرفى.

كنت أظن أن العالم وصل أقصى ما يمكن إليه فى التطور وأن ما سنراه لن يكون امتدادا مفاجئا تماما، لكنى مؤخرا أدركت أن هذا المكان بقدر ما نرى فيه من مظاهر التحضر إلا أنه قد صار سخيفا ومرعبا نفتقد فيه إلى الآدمية.

يراودنى دائما أن هذه حقبة سيئة من الزمان وأننا قد انتهينا من الحروب منذ زمن مضى لنرى حروبا أسوأ تحت الطاولة وتلاعبا بأرواح بعدت كل البعد عن أشياء سئمت رؤيتها لأجد العالم قد قسم إلى أناس يملكون كل شئ وأناس فقدوا أنفسهم، لأدرك فيما بعد أن عجزنا يظل القاسم المشترك دائما ولا أدرى أيهما أكثر اتساخا، منظمات حقوق الإنسان والداعين إليها أم القمامة أمام منازلنا؟

فى الحقيقة أرى أن أغشية الديكتاتورية تنتصر دائما على سياسة الحريات المطلقة لتحيط بنا هالة من القيود فى كل مكان والغباء صار هو السمة الدائمة المتحكمة والاعتراض أصبح انتحارا فنحن نعجز عن الاعتراض فى أوطاننا، فكيف لنا أن ندين حروب العالم؟

لكنى أؤمن تماما أننا جميعا بداخلنا راندل ماكمرفى. إذن من هو راندل ماكمرفى؟

المخرج التشيكى ميلوش فوررمان سجنت والدته ومات والده فى معسكر اعتقال أوشفيز بسبب انضمامه للمقاومة التشيكية وفر هاربا من وطنه وقتها. ومن أبرز أفلامه فيلم “أحدهم طار فوق عش الوقواق” لجاك نيكلسون عن رواية لكين كيسلى تحمل نفس الاسم. يتناول الفيلم قصة شاب يدعى راندل ماكمرفى يدعي الجنون أثناء سجنه هروبا من نظام السجن المستبد، فنقلوه لمستشفى الأمراض العقلية ليجد ديكتاتورية مماثلة للحياة فى الخارج تتمثل فى إدارة المستشفى. ولا يتسنى لأي مريض أن يبدي برأيه أو يعترض على نظام المستشفى عموما لدرجة أنهم قد اعتادوا عليه. تبدأ محاولات راندل ماكمرفى فى التمرد وتغيير النظام والتغلب على الضغوط وقوانين المصحة بالاعتراض على الممرضات وبث الأمل فى زملائه قدر الإمكان كما أنه كان له فرصة فى الفرار ولكنه لم يرحل عن المستشفى لكن ينتهى به الأمر فى جلسات العلاج القاسية.

وفى إحدى المشاهد يطالب ماكمرفى الممرضة بمشاهدة بطولة العالم للبيسبول ولكنها ترفض لأنها بذلك تخل بالجدول العام للمرضى وتخبره بأن عليه إقناع أكثر من نصف أشخاص العنبر على الأقل، كان عددهم ثمانية عشر مريضا لينجح ماكمرفى فى إقناع تسعة منهم بعد عناء. يذهب إلى الممرضة لترفض مجددا وتخبره بأن عليه أن يقنع شخصا آخر، وبالفعل نجح ماكمرفى فى إقناع الشخص العاشر وحينما ذهب إليها ردت بأن وقت التصويت قد انتهى فجن جنونه وصرخ بصوت عال ثم جلس أمام شاشة التلفاز يهلل ويصرخ كأن به مباراة بيسبول ليثير بذلك غضب الممرضة القمعية.

يقولون دائما إن النفس قيمة عليا مطلقة وإزهاق الأرواح جريمة، أخشى أن تهجرنا أوطاننا، ونصبح ونمسي بلا مأوى ونسب الغربة بينما نشعر بها فى بيوتنا بقلوب أرهقها الحزن وعقول رغبت فى الرحيل وأجساد فسدت أرواحها، تتبرأ منا بلادنا وتتركنا ونتركها، ونذوق السعير عاجزين عن الاعتراض، نجهل مصائرنا وندمن الصمت، ويصير الملل صديقنا ونتخذ من الضيق مؤنسا ورفيقا، فبأعيننا نرفض ونغضب وبأيدينا نبعد ألسنة اللهب قبل أن تلتف حول أعناقنا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل