المحتوى الرئيسى

أحمد محمد جميل عبد الله الشرقاوي يكتب: مَتَى صارَ جُلُّ المديرينَ أوغادًا؟ قراءة في الحداثة والهولوكوست | ساسة بوست

02/15 21:02

أحمد محمد جميل عبد الله الشرقاوي

أحمد محمد جميل عبد الله الشرقاوي

منذ 11 دقيقة، 15 فبراير,2017

من أقوى وأشدّ النقد الذي وُجّه إلى الحداثة الغربية.. والإشارة إلى ما في روحها من عوار قاتل، أو قل ـ إن شئت ـ تحديدًا: اللاروح، هو كتابُ «الحداثة والهولوكوست» للفيلسوف البولندي-اليهودي زيجمونت باومان.

ظنّ ناسجو اليوتوبيا الحداثيّة أنّهم بإزاحة المشاعر والعاطفة وتنحيتها، وإزاحة الإنسان من المركز، ثم تنصيب العقل ملكًا لا منازع له؛ سيصبح عالمنا أجمل، لكنّهم أخطأوا، وخطأهم كان كارثيًّا.

قد يُلحُّ على القارئ العزيز سؤالٌ عن العلاقة بين الحداثة والهولوكوست. ما العلاقةُ أصلًا؟ وهل يُمكنُ أن تكون هناك أيّةُ علاقة؟ بل قد يحسب أحدنا، وللوهلةِ الأولى، أنّ هذا على شاكلة العلاقة بين سرعة الحصان ووزن الفيل، على سبيل المثال.

لكن هل خطر ببال القارئِ، ولو بمقدارٍ بسيط أنّ الهولوكوست تقبع في قلب الحداثة! فيروس كامنًا ينتظر اللحظة المناسبة لينشط ويحصد ألوف، بل ملايين الخلايا البشريّة، هكذا، بمنتهى البساطة؟

لم تكن المحرقة البشعة استثناءً لا عقلانيًّا من قيم الحداثة، أو لطخةً من العُنف، أو نكوصًا مؤقتًا واستثنائيًّا إلى الحيوانية والهمجية، بل كانت على العكس، هي الأفق المتوقّع أو الامتداد الطبيعي لقيم الحداثة العقلانية المصمتة، مدًّا للخطِّ على استقامته، ولأنّ شواهد هذا صادمة بحقّ لأنصار الحداثة المتحمسين، كتجارب ميلجرام، التي وضّحت بشكل كبير لماذا يقوم من نعتبرهم أشخاصًا عاديين بارتكاب تلك الجرائم البشعة، ثم الذهاب إلى المنزل وممارسة الحياة بشكل طبيعي.

الأمر حينئذٍ لا علاقة له باختلال الصحة النفسيّة لمرتكبي تلك البشاعات، نعم قد وُجد من يستمتع كثيرًا بممارسة شتّى أنواع التعذيب، وهؤلاء يقبعون في دركٍ بأسفل سُلّم الروح البشرية، لكن الحداثةَ مكّنت، وفي المنتصف منها بيروقراطيتها، من انتزاعِ العَامِلِ الأخْلَاقِيِّ، أو تحييده من الممارساتِ التي يتمُّ تَمْرِيرَهَا تحت ستارِ المصلحةِ القوميّةِ، أو مصلحةِ العملِ، أو القُدْرَةِ على الإنجاز. وكيف أنّه يُمْكِنُ تحييدُ أثرِ الفعلِ ووقْعِهِ على الفاعل، لا على المفعول به، وذلك بزيادةِ المسافةِ النَّفْسِيَّةِ، الاجْتِمَاعِيَّةِ، والفيزيقيّة بين الفاعِلِ والمَفْعُولِ به ذلك الفعل. الأمر الذي صرخت به نتائج تجارب ميلجرام التي أكّدت أن استعداد البشر العاديين لطاعة السُّلطة التي بإمكانها إعادةُ تعريفِ المصْلَحَةِ وتعْرِيفِ الأخْلاق، كذا مع زيادة الفصل بين صاحب الفعل والمفعول به يزدادُ الميلُ بشكلٍ مرعبٍ حقّاً إلى استخدامِ أكثر الوسائِلِ قَسْوَةً دون أدنى شُعُورٍ بالنَّدَمِ النَّاتِجِ عنْ وُجُودِ المَانِعِ الأخْلَاقِيِّ الطبيعيّ.

ذلك الأمرُ أيضًا الذي نجد أثره في الحياة اليومية. القوانين المصمتة والتنظيمات الهرميّة الحاكمة لسوق العمل، وكيف حوّلت الحداثة، التي ولا شكّ ضاعفت من قدرة الإنسان على الإنتاج، كدّ وجهد الموظّفين إلى رسوم بيانيّة يطالعها صاحب العمل أو صاحب السلطة ببرود، ولمّا كانت هناك مسافةٌ نفسيّةٌ ومكانيّة بين الرئيس والمرؤوسين، كانت قدرة الرئيس على إنهاء وظيفة مرؤوسيه لإضرارهم بـمصلحة العمل، دون أدنى التفاتٍ إلى حياتهم الشخصية وتقلّباتها، أو إلى أي اعتباراتٍ أخلاقيّة أخرى، أمرًا سهلًا للغاية.

يلخّص ذلك قول باومان في كتابِهِ التالي أشدّ التخليص حيث يقول:

«حققت الحضارة الحديثة نجاحًا فاضحًا في إحلالها للمعايير العقلانيّة محلّ المعايير الأخلاقيّة، باعتبارها معايير لا عقلانية، وفق التعريف الحديث، وباعتبار أن أهمّية الحكم الأخلاقي تتضخّم بين المعايير اللاعقلانيّة. هذا النجاح الفاضح كان يحكمه بشكل قاطع التقدّم في التحكّم عن بُعد، أي التقدّم في توسيع المسافة التي يكون عندها الفعل البشريّ قادرًا على إحداث تأثيرات واضحة. فالأهداف البعيدة، والتي يصعب رؤيتها، لا تخضع للحكم الأخلاقيّ، ومن ثَمّ فإنّ اختيار الفعل الذي يؤثّر على هذه الأهداف لا يسري عليه القيود التي يفرضُها الدافعُ الأخلاقيُّ».

هكذا تتلخّص المعضلة، اللاروح، الغياب الأخلاقي بحجّة اللاعقلانية التي تحجّم التقدّم البشري المادّي، هكذا يُمكنُ ،وبكلّ سهولة، وفي القلب من قيم الحداثة، وفي قلب الحضارة الحديثة التي تتبرّأ من العنف وتَنْظُرُ إليهِ كإرثٍ حيوانيّ، يمكنُ وبكلِّ سهولةٍ تحويلِ مَوْتِ الملايين إلى صِنَاعَة خاضعة لقوانين البيروقراطية، أي عقلنة الإنتاج، والتنظيم الهرمي الذي يفتح المجال لمشاركة العديدين من البشر العاديين الودودين المحبّين لجيرانهم والفاعلين للخيرات، في قتل الملايين على مدار اليوم بدون الشعور بالمشاركة في الفعل، حيث الكل مشترك في القتل، بينما لم يباشر أحدهم القتل بيده، أو ما يمكن تسميته بالمسؤولية السائبة، كما أشارت إليه بمعنىً مشابهٍ المفكّرة السياسيّة حنّة أرِنْدت.

بقي أن نشير إلى أنّ العامل الأهم في كيفيّة إيجاد تلك المسافة اجتماعيًا، ومن ثمّ تأكيدها فيزيقيًّا، هو إعادة تعريف الأشخاص تعريفًا يسمح باستثنائهم من المظلّة الاجتماعية، ومن ثمّ ما يمكّن من استباحتهم أو استثنائهم من المظلّة القانونية والأخلاقية. ما يسمّيه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين «الإنسان المُسْتَبَاح»، وذلك يتحقق تحت ظروف تراها الدولة استثنائية أو طارئة يمكن لها فيها أن تتحرر من القانون من أجل التعامل معها أو حسبما يسميها أغامبين أيضًا بـحالةِ الاستثناء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل