المحتوى الرئيسى

الثقافة الشعبية تبرر ظلم الحاكم وتلعن الحكومات!

02/15 14:32

الثقافة الشعبية استبدلت لفظ “الدولة” بالـ”حكومة”

حرق دمية “اللنبي” إدانة لقهر السلطة

الثقافة الشعبية تعاطفت مع الخارجين على القانون كيداً في السلطة

الطبقية “قدر” والحاكم عادل دوماً تفسده الرعية!

في كتابه الهام “أوراق في الثقافة الشعبية” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يتوقف الباحث في التراث الراحل عبدالحميد حواس، عند “الحكومة” في الثقافة الشعبية.

يقول في البداية: إذا فحصنا استخدام كلمة “الدولة” في الثقافة الشعبية فإننا لن نجد لهذه الكلمة شيوعاً، وإنما تستخدم الثقافة الشعبية، تعبيرا عن مفهوم الدولة لفظ “الحكومة”.

واللفظ يتضمن تجردا لمفهوم السلطة العامة التي تقف على رأس المجتمع وتفرض هيمنتها بواسطة قرارات علوية وأجهزة تنفيذية ذات طبيعة قهرية.

يتابع: أيضاً نجد أن الاستعمال الشعبي لكلمة الحكومة يشير إلى تجسد هذه السلطة المجردة في أجهزة تنفيذية وخاصة في “الرتب” والوظائف الرسمية المتصاعدة للقائمين على التنفيذ، وعلى الأخص في رجال الشرطة وما يرتبط بتنفيذهم لقرارات النظام من إجراءات قهرية.

يوضح الكتاب: إذا تتبعنا الصياغات الشعبية الكاشفة عن نظرة الثقافة الشعبية إلى الحكومة، نجد تقليد شعبي طقسي خصوبي تجري وقائعه عند التحول الفصلي من الشتاء إلى الربيع، وبالتحديد في شم النسيم.

من شعائر هذا الاحتفال إقامة حريق ليلة شم النسيم، وفي بورسعيد تميز الاحتفال بإلقاء دمية في النار واتخذت هذه الدمية منذ الاستقلال اسم اللينبي إشارة إلى القائد البريطاني الذي تولى قيادة الحملة على فلسطين والشام، وعُين معتمداً بريطانياً بمصر والسودان وكان وراء نفي سعد زغلول نفيه الثاني.

غير أن هذه الدمية تتشكل تحت الاسم الشائع “اللينبي” بأشكال كل الشخصيات والمهن بل والصفات التي لا يرضى عنها أصحاب الاحتفال. ويعبرون من خلالها عن إدانتهم السياسية والاجتماعية والإدارية لأي من هذه الشخوص.

لذلك سنجد بين هذه الدمى دمية “بيجن”، ودمية مركبة على هيئة سيارة يقودها رجال الشرطة ومباحث التموين، كتب على أحد جوانبها “عربة الحملة”، وعلى جانب آخر “عربة الموت”.

وحرق الدمية وتجريسها يذكرنا بالزفات التجريسية التي كانت تتم في التاريخ الوسيط وخاصة المملوكي والعثماني، حتى العصر الحديث للمحتسب، وأضرابه من ممثلي السلطة في السوق والشارع، عندما يرفع عنه الحاكم حمايته، ويتركه للعامة ينفثون فيه غضبهم، وينفسون عن مشاعر الظلم والتعسف، وقد يمتد ذلك إلى تعليق دمية في مشنقة والطواف بها، وتمثل هذه الدمية أحد هؤلاء المتنفذين أدوات الحكومة.

وقد نقل إلينا الجبرتي نصوصا من هتافات العامة التي كانوا يرددونها أثناء تظاهرهم احتجاجا على زيادة الضرائب. فقد أورد في حوادث عام 1142هـ - القرن الثامن عشر – أن أحد الولاة زاد في الضرائب فتجمع العامة أمام بيته ينشدون:

باشا يا باشا يا عين القملة

مين قال لك تعمل دي العملة

باشا يا باشا يا عين الصيرة

مين قال لك تعمل دي التدبيرة

يشير الكتاب إلى أن تمردات العامة على السلطة وأدواتها، والتي طالما تجاهلها التأريخ الرسمي، وجدت التعبير عنها في الثقافة الشعبية في صياغات أكثر تركيباً من الهتافات والأناشيد، فقد صاغت تأريخها عن طريق السير والحكايات والنوادر والموال القصصي.

وقد تعاطف القصص الشعبي مع الخارجين على القانون والقانون هنا بالطبع قانون السلطة الحاكمة، وهو تعاطف نشأ من تحدي السلطة ومن هنا فإن القصص الشعبي يحول مواجهتهم للسلطة ومقاومتهم لها من قضية خاصة إلى قضية عامة.

ولعل مثال الموال القصصي “أدهم الشرقاوي” يعبر عن ذلك.

يتناول الموال حادثة خروج أدهم الشرقاوي على القانون، نتيجة استشعاره عدم كفاية حكم المؤسسة القانونية الرسمية ولا الجزاء الذي وقعته على قاتل عمه. ومن ثم يأخذ و على عاتقه تنفيذ الحكم الذي يرتضيه. ثم يتصاعدد تمرده ومواجهاته للسلطة وأدواتها، وإظهار جزها عن أن تطوله.ولا تجد السلطة من سبيل للوصول إليه إلا بالغدر وإرغاء أحد رفاقه بخيانته.

أمانة يا من عشت بعدي

ما تآمنش لصاحب دنيا غرورة

ما فيش ولا صاحب إلا يجيبلك الأذى بإيديه

أمانة يا عيلة الشرقاوي ما حد بعديه

لا أخ ليّ، ولا عم، ياخد الار بعديه

يا قاعدين كلكم وحدوا الإله يا هوه

دي الحادثة اللي جرت على سبع شملول

ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟!

وفي إحدى روايات الموال طولها حوالي 129 شطراً تتردد كلمة “الحكومة” عشرين مرة في سياقات تصور التقابل الضدي بين أدهم ورجال السلطة. فعقب انتقام أدهم من ابن قاتل عمه، ثم من القاتل نفسه، يطرح ممثل سلطات التحقيق عليه السؤال:

جت الحكومة تقول: يا أدهم عملت كده ليه؟

قال: جتك خيبة يا حكومة

لما قتل عمي عملتي إي

يوضح الكاتب أن الموقف من الحكومة قد لا يأخذ هذه الصورة القائمة على المواجهة الصريحة، لفظ وسلوكا وإنما يأخذ صورا أخرى من التقنع والمواراة.

فالعرف الشعبي يدين اللصوص ولكنه يميز داخل هذه الإدانة نوعاً من اللصوص هم “اللصوص الشرفاء” يأخذون من الأغنياء ويعطون الفقراء، يعتدون على الأقوياء ويساندون الضعفاء وينتصرون للعامة في مواجهة البطش والاستغلال.

وعادة ما تختم الحكايات الشعبية وقائع هذا اللص الشريف بالهداية والتوبة والاستقامة. فضمير الجماعة الأخلاقي يأبى أن تترك بطلاً تعاطفت معه في موقف خلاقي ملتبس، وهذا ما حدث مع ابن عروس وغيره.

ويدخل ضمن مجموعة النوادر التي تدور حول شخصية جحا عدد من النوادر، التي تعتمد على هذا التقابل بين إعمال الحيلة وبين قوة السلطة، لتكشف غباء السلطة وعجزها. ويظهر هذا في نوادره التراثية مع تيمورلنك، كما يظهر في نادرته مع السلطان الذي ادعى أمامه أن حماره يعرف القراءة.

وتصور الثقافة الشعبية من خلال القصص أيضاً التعسف والجور والاستغلال، ويمثل ذلك كما يشير الكتاب حكاية “الملك حكمون” الذي أصدر قراراً بالتصفية الجسدية لكل كبار السن وهم في الحكاية رمز الخبرة والحكمة، بواسطة أبنائهم أنفسهم.

ثم أعقب هذا القرار بقرار تسخير شبان المدينة في عملية حصاد وهمي لزرع وهمي”وهو في الحكية رمز للاستغلال دون عائد” ولم يتراجع الملك عن تعسفه إلا عندما كشف أحد الشبان الخلل الفاضح في قرارات الملك.

مواجهة السلطة – برأي الكاتب - يتجلى أيضاً في الأمثال ومنها: “يا فرعون ايش فرعنك؟ قال: ما لقيتش حد يردني!”. والدعاء المأثور: “يكفيك شر حاكم ظالم”، والنصيحة التقليدية: “خد نُص حقك وابعد عن المحاكم!”.

والنصيحة الأخرى: “إذا كان دراعك عسكري “شرطة” اقطعه!، وابن الحرام يطلع: يا قوّاس “جندي”، يا مكّاس “محصل ضرائب” أي أداة باطشة من أدوات السلطة.

ويرى الكتاب أن التصور الشعبي للحكم والحكومة عموماً يتضمن إلحاح التعبير الشعبي على التباين بين وضع الفقير ووضع الغني كالمثل القديم: الغني شكته شوكة، بقت البلد في دوكة، والفقير قرصه تعبان، قالوا: اسكت بلاش كلام!.

وأقوال مثل: ديار مصر خيرها لغيرها! واللي ليه ضهر ما يضربش على بطنه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل