المحتوى الرئيسى

تراتيل الحياة: شَوقُ.. شَوكِ.. وَردة الحب

02/14 09:18

استيقظت باكراً، أعانق خيوط الأبيض والأسود من الفجر، مكتوبٌ أن أصوم ليلاً وأفطر نهاراً غير بني البشر، قطرات الندى تتلألأ حولي، تتهادى كوِردِ وردٍ دُرّي على وريقاتي، وأنا أردد أنشودة "اليوم فتحت عيني.. على صوت بينادي عليَّ.. الدنيا بقت حرية حرية حرية".. لحظات وينبلج ضوء شمس الصباح، وأنا أسمع صوت نفحات أريج همسات الزهور من حولي.

لوتس.. لِيلِي.. سوزان.. أقحوان.. أوركيد.. سوسن.. اليسا.. بيلسان.. بسنت.. توليب.. زنبق.. كارمن.. كاميليا.. ياسمين.. قرنفل.. بنفسج.. فل.. كالا.. مسك.. لافندر.. فريسيا.. فلامينجو.. ذات العيون السوداء.. وشقائق النعمان.. طوائف وأحزاب وما أكثر مسميات الإنسان!

كل هذه الأزهار رغم رحيق عطورها الجذاب ونغم مظهرها المتعدد الصفات والألوان.. لم أتوقع أبداً أن تنتفض في مظاهرة ثورية ضدي!.. منقوش على أوراقها شعارات الغيرة على كل ما قدموه وبذلوه من جهد في محاولة لتلبية مشاعر المغرمين بالحب.

لا تغضبي يا أزهار الربيع فأنتِ هكذا دائماً تلقين اللوم عليّ، وأنا معذبة لا ذنب لي! "فأنا الوطن" بكل ما ظهر منه وما بطن.

أنا ما أنا عليه.. نضرة خلابة.. براعم قلبي قوسية الالتفاف.. وريقاتُ جسدي من وسائد القطيفة الناعمة.. سهلة الاقتطاف.. صعبة الائتلاف.. متراصة ومتصلة بأطرافي الغضة الخضراء.. يلتف حولها أهداب شوكي المحب.. وبكل تواضع.. دائماً أعلو عليه ولكنه ولد قبلي.

فأنا أولد وأنمو في مناخات متقلبة.. بيد أن أصل فصائلي الوردية عبرت في هجرة عائلية من آسيا إلى مختلف ربوع العالم.

البعض من عائلتي هاجر إلى مصر؛ حيث بلاد النيل فارتوى بماء العروبة الأصيل وأصبحت معروفة هناك بالورد العربي.. وآخرون ذهبوا إلى بلاد الشام المناضلة وبها الورد الفينيقي والمشطي والمغير.. والبقية فضلوا الهجرة إلى بلاد طرابلس المختار، وإلى قرطاج خضراء إفريقية، وإلى جزائر بني مزغنة بلد المليون ونصف شهيد، ممتدة إلى مراكش مملكة فاس التاريخية، وحتى بلاد شعراء المور إلى الأندلس بالمغرب العربي، حفاظاً على أريج تقاليد سلالتي العريقة، فاستقرت هناك عائلات من دمائي الوردية دائم الخضرة والقلمي والمرجي والمسكي، وأي حنين لدفء عائلتي العربية.

أما السلالات الأخرى الغربية فقد نشأت من النسب والاختلاط في زمن العولمة، لكني ما زلت أحافظ على أصولي وغصون جذري المتماسكة في هيئتي وصورتي المتفردة، فما أن يراني أحد إلا ويسميني باسمي المطلق "وردة"، دون بقية فصائل الأزهار الأخرى التي ما زالت تحاول منافستي دون جدوى.

وعلى الرغم من "خجلي الشديد" ينتقدني البعض ويمدحني أكثرهم، ولا أريد أن أظلم أحداً، فلا رفيق يناسبني غير شوك غصني النضر الذي يفهمني، والذي طالما تحول فجأة إلى سيف حاد يقطع يد كل من حاول العبث معي حتى وإن كان من غرس أصولي.. حينها أردد وأنا فرحة: "ياما جرح الورد أيادي حتى الجناينية".

في الوقت ذاته لا أفطن إلى قيمة الشوك وتلازمه الفطري معي، إلا بعد أن يقطفني أحدهم وينزع الشوك عني بدعوى الحب، فلا حياة من بعده، أجدني بلا حماية، أجدني وحيدة، أجدني ألتقط أنفاسي الأخيرة، أذبل رويداً رويداً مهما حالوا إبقائي على قيد الحياة، وأنا أتمتم معزوفة كلماته التي يتغنى بها إليَّ خاطباً ودي ومحبتي، وأنا لا أبالي به، كنت أظنه رفيقي أبد الدهر دون طلب، لكن يبدو أن أيدي العابثين طالت منه ومنِّي.

وكفاني من الحديث عن نفسي، حتى لا يتهمني أحدكم بالغرور، فما أعجب ما وصفني به الفنان الشاعر حسين بيكار حين قال: "الوردة فوق غصنها تتهز تتمايل.. الشوك سباه حسنها.. قلبه لها مايل.. خايف عليها ليجرحها بعد عنها.. قالت له يا حسرتي بختي معاك مايل".

وحدي أفهم كلماته كما وصفني، "أكاد أشك" أن جميع الأزهار ذات طبيعة جذابة، لكنها بلا شوك يحميها، أما أنا فلا ينافسني أحد في اسمي ورسمي وعناق شوكي "وردة".. متفردة المعنى والمنطق.. سيمفونية ألواني الخلابة تعزف حكايات أحاسيس العشاق، تروي ظمأ المحبين للأوطان.. ومن عشق الشوك لوردته ومن خوفه عليها ابتعد عنها ليحميها حتى من نفسه وما كان ليجرحها أبداً، فتحولت لزهرة كبقية الأزهار المتفرقة، كغالبية الأوطان العربية، وعندما أحست بوحدتها تحسرت على حظها المائل.

هكذا الشوك كما بعض رجال البشر وهكذا الورود كما النساء أحياناً، فكلما زادت محبتك لوردتك حاولت إقصاءك عن طريقها، وعندما تتركها وحيدة بلا حماية وأمان تكتشف مدى ضعفها.

ومع كل معاناتي بين المعاني والأغاني.. ألا أفارق شوكي لأن شوقي يزداد بغيابه.. خير لي أن أبقى وردة أسيرة شوكي المحب من أن أكون في يد غيره لأصبح زهرة مختلطة الصفات لا أحد يحميها.. فهو لم يتذمر مني يوماً ولم يقسُ علي أبداً، بل ظل متماسكاً يدافع عني طيلة حياتي، حتى إنني أذبل قبله وتنطفئ جاذبيتي حينما أقع في يد غيره، مهما حاولوا إبقائي على قيد الحياة، يبقى الشوك قوياً حتى وإن جفت خضرته.

لكن عشق الشوك إلى ألهمني طريق الحرية المنشودة.. كيف يحبونني ويقطفونني وينزعون الشوك مني ويهدونني في باقات لبعضهم البعض رغماً عني؟!.. ومن أذن لهم بذلك؟ لا بد أن أفعل شيئاً، لا بد أن أقاوم، لا بد أن أبقى وردة مستقلة، لا أريد أن أكون كما تباين الأزهار تائهة بين الأوطان.

يا إخوة الإنسانية سأناضل مرغمة من أجل إبرام اتفاقية منع قطف الورود، وليبق كل ورد مع معشوقه الشوك، هذا هو أصل الطبيعة.. وليبق كل وطن مع شعبه، ذلك أصل الفطرة.

أنا الوطن.. وردة المحبين.. و"أنا الشعب.. أنا الشعب" شوك ضد الغزاة والحاقدين، فلا حياة للوردة دون شوك يحميها، ولا حياة للوطن دون أنشودة شعب يغنيها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل