المحتوى الرئيسى

إيهاب محمد يكتب: وللبكاء صوت اسمه المنشاوي ج(1) | ساسة بوست

02/13 12:49

منذ 6 دقائق، 13 فبراير,2017

منذ قرنين من الزمان ذاع صيت الشيخ ثابت المنشاوي في صعيد مصر، وكان الشيخ وقتها من أشهر القرّاء في مصر، فلقد رزقه الله صوتًا عذبًا، وترتيلًا خاشعًا يأسر سامعيه؛ وكان الشيخ رحمه الله صوتًا حاضرًا بأغلب المناسبات الاجتماعية والدينية، بتسابق القوم إلى سماعه وحضور مجالسه التي تحفها الملائكة وتغشاها السكينة وترق بها القلوب، وذلك لما قد وقر في صدر الشيخ نحسبه كذلك من الخشوع وحب كتاب ربه الذي كان جليًا عندما تولّى الشيخ ثابت تحفيظ ابنه (سيد) القرآن الكريم، معلمًا إياه أحكام التجويد والترتيل، حتى تبوأ مكانة والده في الشهرة. أما الشيخ صدّيق ابن الشيخ سيد المنشاوي فقد بدأ حفظ القرآن على يد والده، فأتم حفظه وهو يبلغ من العمر تسع سنوات، ثم انتقل الشيخ صدّيق إلى القاهرة، وتلقّى علم القراءات على يد الشيخ المسعودي وكان معلم قراءات مشهور بمصر في ذلك الوقت، ولكن أخاه الشيخ أحمد السيد بقي في الصعيد يقرأ ويعلم ويرتل القرآن الكريم. حرص الشيخ صدّيق المنشاوي على أن يحفظ أبناؤه الأربعة القرآن الكريم وهم: محمد ومحمود وأحمد وحامد، الأول والثاني أصبحا من مشاهير قراء القرآن في العالم الإسلامي، والثالث توفي صغيرًا بعد أن أتم حفظ القرآن، والرابع ما زال يعمل معلمًا بالأزهر.

الشيخ البكَّاء محمد صديق المنشاوي

هو محمد صديق المنشاوي (1919-1969) واحد من رواد التلاوة، تميّز بأسلوب متميز وحزين بتلاواته، علم من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة القراءة لآيات الكتاب العزيز، رزقه الله صوتا جميلا مؤثرا وقبولا حسنا متواصلا عند جماهير الأمة الإسلامية، أوصل كلمة الله بصوته المؤثر الخاشع إلى مشارق الأرض ومغاربها، فكان خير داعية إلى الله وكتابه ودينه على مستوى العالم، على بصيرة بهذا الكتاب وتجويد مخارجه الحروفية وتعظيم ما يحتويه من قوانين إلهية ومبادئ إنسانية عالمية. ولد الشيخ محمد بقرية: البواريك، بمدينة المنشاة التابعة لـمحافظة سوهاج في جمهورية مصر العربية،[1] وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في الثامنة من عمره؛ حيث نشأ في أسرة قرآنية عريقة، فأبوه الشيخ صديق المنشاوي هو الذي علمه فن قراءة القرآن الكريم، وقد وضع أبوه الشيخ الجليل صديق المنشاوي هذه المدرسة العتيقة الجميلة والمنفردة بذاتها، وبإمكاننا أن نطلق عليها (المدرسة المنشاوية)، فأخذ منها الشيخ محمد أسلوبه وطوره بما يناسبه فصار علمًا من أعلام خدام القرآن. وقد استمد الشيخ محمد من تلك المدرسة الكثير الذي كان سببًا في نجاحه بعد صوته الخاشع، ولُقِّب الشيخ محمد صديق المنشاوي بـ«الصوت الباكي».

ذاع صيته ولقي قبولًا حسنًا لعذوبة صوته وجماله وانفراده بذلك، إضافة إلى إتقانه لـمقامات القراءة، وانفعاله العميق بالمعاني والألفاظ القرآنية. وللشيخ المنشاوي تسجيل كامل للقرآن الكريم مرتلا، وله أيضا العديد من التسجيلات في المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا، كما سجل ختمة قرآنية مجودة بـالإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة مشتركة برواية الدوري مع القارئين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي. ويُعد محمد صديق المنشاوي من أشهر القراء في العالم الإسلامي.

تزوج مرتان أنجب من زوجته الأولى أربعة أولاد وبنتين، ومن الثانية خمسة أولاد وأربع بنات، وهم «محمد سعودي» ويعمل في التجارة، «محمد الشافعي» ويعمل مهندسًا معماريًّا في السعودية، «محمد نور» ضابط بالجيش المصري،الدكتور «عمر» ويعمل مدرسًا في كلية العلوم بجامعة الأزهر، «صلاح» ويعمل محاسبًا في إحدى الشركات الخاصة، «طارق» ويعمل مهندسًا في السعودية. أما الإناث فهن: فردوس وفتحية وفريال وفاطمة وفايزة – وجميعهن لا يعملن ومتزوجات -، الثلاث الأوليات تزوجن في حياة والدهنَّ بعد أن أكملن حفظ القرآن، أما الأخريات فقد تركهنَّ صغارًا لم يتجاوز عمر أصغرهنَّ سنة واحدة، فتولى جدّهم الشيخ صدّيق المنشاوي تربيتهن وتحفيظهن القرآن. وقد توفيت زوجته الثانية وهي تؤدي مناسك الحج قبل وفاته بعام. وفي عام 1966 أصيب بمرض دوالي المريء ورغم مرضه ظل يقرأ القرآن حتى رحل عن الدنيا في يوم الجمعة 5 ربيع الثاني 1389ـ، الموافق 20 يونيو 1969.

مسوغات حفظه للقرآن ولما يبلغ الثامنة

العامل الوراثي : فلقد أثبتت الأبحاث العلمية أن الطفل كما يرث الصفات الجسمية والعقلية يرث أيضًا الخصائص الأخلاقية التي تعمل كتربة مساعدة لسلوك الطفل بعد خروجه إلى البيئة الخارجية؛ فإما أن تعمل التربية على إظهار تلك الصفات الكامنة أو إخفائها. ثم اعلم – أخي القارئ – أن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة (الجينة) هو نفس المعنى الذي أفادته الأخبار من كلمة (العِرْق)، فقد روي عن النبي – صل الله عليه وسلم – أنه قال: «تخيروا لنطفكم فإنَّ العرق دسّاس» رواه ابن ماجه من حديث عائشة.

وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة (دسّاس) نجد أن بعضها – كالمنجد مثلًا – تعلق على ذلك بالعبارة التالية: «العِرْق دساس» أي أن أخلاق الآباء تتصل إلى الأبناء. فالرسول – صل الله عليه وسلم – يوصي أصحابه أن لا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة. فلا غرو أن يخرج لنا الشيخ رحمه الله حافظًا لكتاب ربه في سن صغيرة فجدُّه (ثابت) كان من أشهر قراء القرآن الكريم في مصر، ثم توارثت عائلة الشيخ ثابت حفظ القرآن جيلًا بعد جيل، حيث تولى ثابت تحفيظ ابنه (سيد) القرآن الكريم في سن مبكرة، وتولى سيد تحفيظ ابنه (صدّيق) القرآن، فأكمل حفظه وهو يبلغ من العمر تسع سنوات، ثم حفظ الشيخ محمد صدّيق المنشاوي القرآن قبل أن يبلغ الثامنة من عمره، فكان هو نبت هذا الفضل القرآني.

التربية الأبوية: فقد بدأ الشيخ محمد صدّيق حفظ القرآن على يد والده صدّيق الذي ساعده كثيرًا في حفظه كتاب الله، ولكن وقته المزدحم بالعمل دفعه لإحضار قارئين ومحفظين لهذه المهمة. ثم كان أبوه (صدّيق) كثيرًا ما يصطحب أولاده معه في جولاته ينمّي فيهم حب القرآن. فكانت هذه التربية الإيمانية هي الوعاء الذي احتضن الشيخ محمد صدّيق، وأمَّن له المناخ الملائم حتى حفظ القرآن في سن مبكرة. غير أن الشيخ رحمه الله كان يتميز في صغره بذكاء رباني مفرط؛ وجودة في القريحة، وقوة في الحافظة، وسرعة في الحفظ، مع إقباله بشغف ونهم على حفظ كتاب الله، حتى إن شيخه «النمكي» أخبر والده بأن هذا الفتى سيكون له شأن، فأتم حفظ القرآن قبل أن يكمل الثامنة من عمره؛ فأصبح أصغر من يحمل لقب (الشيخ) الذي يطلق في الغالب على من أتم حفظ القرآن في صعيد مصر.

أخلاق الشيخ محمد صديق المنشاوي

اشتهر الشيخ محمد صديق بالشجاعة وطيب الخلق ولين الجانب وعطفه على الفقراء وتواضعه وأدبه الجم، فقلد كان كثيرًا ما يتحرر من عمامته ويرتدي جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء ويجلس أمام بيته؛ فكان بعض الناس يعتقدون أنه بوّاب العمارة، خاصة وأن بشرته قمحية، ولكن ذلك لم يكن يضايقه. وذات مرة اقترب منه أحد الرجال – وكان جارًا له في المسكن – ولم يعرفه وقاله له – بلهجته العامية-: لو سمحت يا عم (ما تعرفش) الشيخ محمد صدّيق المنشاوي موجود في شقته (ولا لأ)، فنظر إليه الشيخ محمد قائلًا له : حاضر يابني انتظر لمّا (أشوفو) لك. وبالفعل تركه الشيخ محمد صدّيق وصعد إلى شقته، وارتدى العِمّة والجلباب والنظارة، ثم نزل إليه وسلّم عليه، ولم يقل له الشيخ عندما سأله أنه هو من يسأل عنه؛ حتى لا يسبب له حرجًا لعدم معرفته به وهو المشهور صاحب الصوت المعروف في العالم العربي والإسلامي، فلم يحرجه أو ينهره وقضى له حاجته.

وعن قربه من الفقراء ورأفته بهم يقول قال أحد أبنائه: إن علاقة والده بأهل بلدته لا تنقطع، وهذه من عادات أهل الصعيد الحسنة، فكان عطوفًا بهم، محبًّا لفقرائهم. وأذكر أنه قال لنا ذات مرة: إنه يريد أن يصنع وليمة كبيرة على شرف بعض الوزراء وكبار الوجهاء على العشاء، فتمّ عمل اللازم، ولكننا فوجئنا بأن ضيوفه كانوا جميعًا من الفقراء والمساكين من أهل البلدة، وممن يعرفهم من فقراء الحي الذي كنا نعيش فيه.

وعن تفقده لأبنائه وحرصه على تعليمهم كتاب الله، يقول محمد سعودي «أحد أبناء الشيخ»حرص والدي على أن نبدأ في حفظ القرآن الكريم ونحن في سن الخامسة، بغض النظر عن تخصصاتنا الدراسية؛ ولذلك أصبح حفظ القرآن هو القاسم المشترك بين أبناء الشيخ محمد صدّيق.

ويكشف الشافعي محمد صدّيق عن ملامح تربوية من حياة والده فيقول: كان أبي حريصًا على أن نؤدي الفرائض، وكثيرًا ما اصطحبنا للمساجد التي يقرأ فيها القرآن، وكان ذلك فرصة لي لزيارة ومعرفة معظم مساجد مصر، كما كان يراقبنا ونحن نختار الأصدقاء، ويصر على أن يكونوا من الأسر الملتزمة خلقًا ودينًا، ويشارك أبناءه في المذاكرة، ويساعدهم في أداء الواجبات المدرسية، ويحضر مجالس الآباء في المدارس التي يلتحق بها أبناؤه، وخلال الإجازة الصيفية كان يشاركنا في الرياضات مثل السباحة والرماية في النهار، وفي الليل يقرأ لنا الكتب الدينية التي تناسب أعمارنا، حتى إذا تعوّد الواحد منّا على القراءة زوّده بالكتب وشجّعه على قراءة المزيد. وقبل هذا وذاك يأتي تحفيظ القرآن الكريم للأبناء، حتى من تركه صغيرًا أوصى والده الشيخ صدّيق أن يحفّظه القرآن، وقد فعل.

وكان الشيخ رحمه الله معظمًا لكتاب الله له حافظًا له هيبته، متأدبًا بآدابه، يعرف له قدره وقدر حفظته فلقد وجه إليه أحد الوزراء الدعوة إلى حفل قائلًا له: سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفلًا بحضرة الرئيس عبدالناصر، فما كان من الشيخ إلا أن أجابه قائلًا: ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صدّيق المنشاوي. ورفض أن يلبي الدعوة قائلًا: «لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلى أسوأ رسله».

– والده الشيخ صدّيق بن سيد بن ثابت المنشاوي الذي كان له الفضل – بعد الله – في تحبيب ابنه لكتاب الله منذ نعومة أظفاره، وكانت البداية معه في تحفيظ محمد صدّيق القرآن، ولكن لما زادت مشاغله أوكل ابنه إلى الشيخ محمد النمكي ليكمل تحفيظه القرآن.

– الشيخ: محمد النمكي، الذي حفَّظه القرآن بكُتَّاب القرية وعمره أربع سنوات، فأكمل حفظه معه قبل بلوغه الثامنة من عمره.

– عمه الشيخ أحمد السيد، الذي كان يرافقه في معظم الجولات التي كان يقرأ فيها القرآن الكريم.

– الشيخ محمد أبوالعلا، تلقى عليه علم القراءات وعلوم القرآن.

– الشيخ محمد سعودي إبراهيم، درس عليه علم القراءات، وكان ذلك عند بلوغه الثانية عشرة. والشيخ محمد سعودي الذي أحبه محمد صديق حبًّا خالصًا لمِا لقيه منه من رعاية واهتمام، حتى إنه سمى أول أولاده «محمد سعودي».

ولقد تأثر المنشاوي – رحمه الله – بالشيخ محمد رفعت – رحمه الله -، وكان محبًّا له، ومن المعجبين بصوته وتلاوته، وكان كذلك يحب الاستماع إلى أصوات كبار المقرئين الذين عاصروه، كالشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، وأبي العينين شعيشع، ومحمود علي البنا، وغيرهم.

قرأ الشيخ المنشاوي القرآن الكريم في سرادق عام لأول مرة في قرية «أبار الملك»التابعة لمركز (أخميم)، وكان ذلك أول مؤشر على أن شهرة الشيخ الصغير قد تجاوزت منطقة (المنشأة). ثم انتقل الشيخ مع والده وعمه أحمد السيد إلى القاهرة ليتعلم القراءات وعلوم القرآن، ونزل في ضيافة عمه، وعند بلوغه الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد أبو العلا، والشيخ محمد سعودي الذي انبهر به وبنبوغه المبكر، فأخذ يقدمه للناس، وظلّ الصبي محمد صدّيق على هذه الحال حتى بلغ الخامسة عشرة وصارت له شخصيته المستقلة. وفي عام (1953) كتبت مجلة الإذاعة والتلفزيون في مصر إحدى أعدادها عن الشيخ محمد صدّيق المنشاوي أنه أول مقرئ تنتقل إليه الإذاعة. وبعد اعتماده مقرئًا في الإذاعة عينته وزارة الأوقاف قارئًا بمسجد الزمالك بحي الزمالك بالقاهرة، وظل قارئًا لسورة الكهف به حتى توفاه الله.

وعن بداية التفرغ لترتيل كتاب الله يقول الشيخ محمود: قررت أن أترك بلدتي لألتحق بالمعهد الديني الأزهري بالقاهرة بعد أن أكملت دراستي الإعدادية والثانوية لكن حالت ظروف خاصة بيني وبين أن أكمل دراستي الجامعية. بدأت أخطو الخطوات الأولى نحو تعلم القراءات وأصولها، حيث نهلت علم القرآن الكريم والقراءات على يد الشيخ عامر عثمان شيخ المقارئ المصرية والشيخ أمين إبراهيم اللذين كان لهما فضل كبير في تعليم التجويد.

ويضيف الشيخ محمود: بعد أن تعلمت أصول القرآن تقدمت للامتحان بالإذاعة المصرية وكان يعقد الامتحان أولا في الأصوات ثم كيفية خروج الحروف ونطقها، وكانت اللجنة مكونة من الشيخ عامر عثمان والشيخ أمين إبراهيم، وبفضل الله وتوفيقه نجحت، ويعود هذا إلى وجود الكتاتيب وإلى الرغبة الجارفة لدى المسلمين وحبهم لسماع القرآن الكريم من المقرئين، فظهرت سمة التباري بين الشيوخ في حفظ القرآن وتجويده من شيوخ عظام خصصوا منازلهم لتعليم قراءات القرآن وكان على رأس هؤلاء الشيوخ الشيخ إبراهيم شحاتة عالم القراءات البارز في ذلك الوقت.

ولعل الخشوع والتباكي عند قراءة كتاب الله هما أفضل ما خص الله به صوت والدي وأخي وأنا والحمد لله، وهو بكاء يزيد من إحساس المستمع بالمعنى ولا يقلل هيبة القارئ، كما أنه لا يعمل على إطراب الناس بقدر ما يعمل على توصيل المعنى الإيماني والحكم الشرعي في الآية القرآنية. وأذكر في هذا المجال أن بعضا من المستمعين كانوا يطلبون منا قراءة سورة بعينها أو آيات خاصة مثل سورة «الفجر» أو سورة «ق» أو سورة «الكهف» لأنها تمثل عندهم معنى خاصا، وقد جعلني هذا أراجع السور والآيات وأدقق في القراءات وذلك حتى أضع حدودا علمية لمساحة التجاوب مع المستمعين، اذ إن محاولة إرضاء المستمع لا يجوز أن تطغى على المعنى أو صحة القراءة.

ويتوقف الشيخ المنشاوي أمام مسجد الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقاهرة حيث يعتبره علامة مميزة في حياته القرآنية، كما كان الشافعي علامة بارزة في تاريخ الدعوة والفقه الإسلامي المديد.

يقول: بعد أن نجحت في الدخول إلى الإذاعة مقرئًا لكتاب الله، تقرر أن أقوم بقراءة السورة في مسجد الإمام الشافعي بحي مصر القديمة. ولقد هالني الاختيار وتهيبت الفقيه في مرقده كما كان يتهيبه العلماء والأمراء في حياته.

وكان والشيخ محمود صديق رحمه الله يفرق بين الترتيل والتجويد حيث يقول إن الترتيل هو قراءة القرآن الكريم بدون نغم أو تلوين في الصوت، وهي القراءة التي نسمعها حاليا في إذاعة القرآن الكريم، أما التجويد فهو ترك الصوت حسب طبيعته وفي تمهل للقراءة، وفيه تلوين في النغمات الموسيقية ذاتها، لذلك فإنه يجب على أي قارئ للقرآن الكريم وأنا منهم إتقان حفظ القرآن جيدا، مع حفظ مخارج الحروف مع مراعاة أصول التلاوة والترتيل من مد وإظهار وإخفاء وإدغام وغنة، وهذا هو التغني عند تلاوة القرآن وهذا ما تبرزه القراءات السبع والعشر والأربع عشرة لنافع المدني وابن كثير المكي وأبي عمرو البصري وعاصم وهشام وأبي جعفر ويعقوب وغيرهم.

ولعلني أتذكر أن أهل القرآن قد أطلق عليهم أهل الدموع وهذا هو معنى قوله تعالى في سورة «المائدة» (آية 83): «وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين». أحب الشافعي حبا جما، لكن عندما علمت أن الذي كان يقرأ السورة في الإمام الشافعي هو الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله أحسست بخوف شديد، وهذا الإحساس أعطاني عزة بالنفس، فتوكلت على الله واستخرته، فقمت بالقراءة لأول مرة في مسجد الإمام الشافعي، ويومها وفقني الله أيما توفيق، وكانت الانطلاقة من هذا اليوم، وقد كان انضمامي إلى قراءة السورة في مسجد الإمام الشافعي، بعد وفاة أخي الشيخ محمد بثمانية أشهر، وكانت أول قراءة في رمضان، ثم قرأت أول تلاوة في المسجد الحسيني في صلاة الفجر بعد اعتمادي في الإذاعة المصرية في فبراير (شباط) عام 1970.

وكان صوت الشيخ رحمه الله يحمل رصيدًا هائلًا من حب الناس لعائلة المنشاوي وبالأخص المرحوم الشيخ محمد صديق، يتلو القرآن في هذه الدول، حيث نال إعجابًا واستحسانًا كبيرين، فقد زار الشيخ محمود السعودية واليمن والإمارات والسودان سفيرًا للقرآن الكريم، ثم أوفدته وزارة الأوقاف المصرية إلى لندن وكان معه الشيخ حجاج السويسي لإحياء شهر رمضان لدى المركز الإسلامي والجالية الإسلامية.

ويقول الشيخ محمود: «تلقيت نبأ سفري إلى لندن وأنا في بلدتي المنشأة بسوهاج، وكم كنت سعيدا بهذا الاختيار، كنا نؤم المسلمين ونصلي بهم الفروض وصلاة القيام طوال رمضان، وكذلك ختم القرآن الكريم، لقد تأكدت أن معجزة القرآن الكريم تكمن في تأثيره على الناس حتى لو لم يكونوا يفهمونه نظرا لاختلاف اللغة، وفي هذه الدول على وجه التحديد يجب على القارئ أن يتحلى بخلق القرآن وأن يكون قدوة حسنة وسفيرا خلوقا وأن يصحح النية أولا لكي تكون هجرته لله، وليس من أجل المال والدنيا والسمعة لأن تأثيره على الناس كبير».

في عام (1955) قام بزيارة إلى إندونيسيا برفقة الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد بدعوة من الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو، ثم أرسل خطابًا من هناك لابنه الأكبر محمد سعودي قال فيه: لم أر استقبالًا لأهل القرآن أعظم من استقبال الشعب الإندونيسي الذي يعشق القرآن، بل ويستمع إليه في إنصات شديد، ويظل هذا الشعب واقفًا يبكي طوال قراءة القرآن؛ مما أبكاني من هذا الإجلال الحقيقي من الشعب الإندونيسي المسلم وتبجيله لكتاب الله. وفي العام التالي استضافته سوريا ومنحته وسامًا رفيعًا، ثم تسابقت البلدان الإسلامية لاستضافته لقراءة القرآن خلال شهر رمضان؛ فسافر إلى الأردن والجزائر والعراق والكويت وليبيا والسودان، كما سافر إلى السعودية عدة مرات لقراءة القرآن الكريم في موسم الحج.

ويقف الشيخ محمود صديق طويلا أمام رحلته مبعوثًا إلى دولة ماليزيا في الثمانينات حيث قضى بها سبعة عشر يوما، فبعد هبوطه من الطائرة في مطار كوالالمبور، لم يتخيل على الإطلاق أن يكون الاستقبال بهذه الحفاوة والترحيب. ويقول: «احتشد المئات من الماليزيين لاستقبالي بالورد يتقدمهم مسؤول رسمي لا لشيء الا لأنني أحمل القرآن الكريم وقد أخذت أشق طريقي إلى السيارة التي أقلتني بصعوبة وبعد فترة زمنية فوجئت بالإذاعة الماليزية تقطع إرسالها، وتخبر عن وصولي وإذا بالمذيع يطالب جموع المسلمين بالتوجه إلى المسجد الكبير بعد الإفطار مباشرة للاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم بصوت الشيخ المنشاوي وتوجيه الاستفسارات الدينية. هنا اعتراني خوف شديد أمام الأسئلة التي تحتاج إلى عالم جليل من الأئمة والمفسرين، حتى ذهبت إلى حجرة الإقامة بالفندق وقد ترامى إلى أذني التنويه الذي سمعته من راديو السيارة يذاع أيضا بالتلفزيون وكم تمنيت يومها أن ألم بعلوم ومقاصد الشريعة والفقه وذهبت بعد الإفطار إلى المسجد الكبير، وفور وصولي وجدت المسجد وقد اكتظ بالآلاف من المصلين وأخذت طريقي إلى دكة التلاوة حيث امتدت إليّ مئات الأيادي لتسلم عليّ وحرصت على الإطالة في التلاوة وفي قرارة نفسي ألا أتوقف عن التلاوة، حتى أشاروا إليّ بالتوقف، وبدأت الأسئلة وكانت كلها عن عدد الركعات في الصلاة وكيفية الوضوء.

رواها الشيخ لبعض المقربين منه عندما حاول بعض الحاقدين عليه عندما دعاه للعشاء بعد إحدى سهراته (أي تلاوة ليلية) وأوصى الطباخ بأن يضع له السم في الطعام ولكن الطباخ أخبر الشيخ وطلب منه ألا يفشي سره وأنجى الله الشيخ من المكيدة. ولقد حكى هذه الواقعة بنفسه ولو أن أحدًا غيره قصها ما صدقته فقد جلس يحكي لجدي الشيخ صديق ونحن جلوس عنده أنه كان مدعوًا في إحدى السهرات عام 1963 وبعد الانتهاء من السهرة دعاه صاحبها لتناول الطعام مع أهل بيته على سبيل البركة ولكنه رفض فأرسل صاحب إليه بعضًا من أهله يلحون عليه فوافق وقبل أن يبدأ في تناول ما قدم إليه من طعام اقترب منه الطباخ وهو يرتجف من شدة الخوف وهمس في أذنه قائلًا: يا شيخ محمد سأطلعك على أمر خطير وأرجو ألا تفضح أمري فينقطع عيشي في هذا البيت فسأله عما به فقال: أوصاني أحد الأشخاص بأن أضع لك السم في طعامك فوضعته في طبق سيقدم إليك بعد قليل فلا تقترب من هذا الطبق أو تأكل منه، وقد استيقظ ضميري وجئت لأحذرك لأني لا أستطيع عدم تقديمه إليك فأصحاب السهرة أوصوني بتقديمه إليك خصيصًا تكريمًا لك، وهم لا يعلمون ما فيه ولكن فلان – ولم يذكر الشيخ اسمه أمامنا – أعطاني مبلغًا من المال لأدس لك السم في هذا الطبق دون علم أصحاب السهرة ففعلت فأرجوا ألا تبوح بذلك فينفضح أمري، ولما تم وضع الطبق المنقوع في السم عرفه الشيخ كما وصفه له الطباخ وادعى الشيخ ببعض الإعياء أمام أصحاب الدعوة ولكنهم أقسموا عليه فأخذ كسرة خبز كانت أمامه قائلًا: هذا يبر يمينكم ثم تركهم وانصرف. محمد صديق المنشاوي كان على رأس قراء مصر في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي مع القراء أمثال الشيخ المرحوم الحبيب عبد الباسط عبد الصمد وغيرهم من القراء وما زالوا إلى يومنا هذا على رأس القراء لما كان عندهم من رونق في صوتهم جعلهم يحرزون المراتب الأولى بين القراء.

مرض الشيخ بمرض دوالي المريء في حلقه وهو في سن مبكرة عام 1966 وأخر العلاج أيامه الأخيرة وكان في أيامه الأخيرة يقرأ القرآن بصوت جهوري شجي أكثر من أيام صحته وكان الناس يجلسون خارج بيته ليستمعوا إليه دون علمه وهم متأثرون وكأنهم أحسوا بدنو أجل الشيخ.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل