المحتوى الرئيسى

هوس الطعام ولماذا الفرنسيون نحفاء!

02/11 21:58

«لماذا نأكل كثيرًا؟». كتبتُ السؤال في السطر الأول من صفحة الوورد على جهاز اللاب توب، ثم هممت بكتابة الإجابة التي ظللت أفكر فيها، وقتها كان أولادي بجواري يشاهدون فيلمًا كرتونيًا على قناة تليفزيونية للأطفال، قطعتْ القناة الفيلم وبدأت في عرض فقرة إعلانية عن منتج غذائي للأطفال، أقل ما يُوصف به محتواه أنه «قمامة» غذائية، تضايقت من استغلال قنوات الأطفال لعرض هذه السموم، قلت لأولادي بحزم: سنغير القناة، غيرت القناة لأفاجأ بإعلان آخر على قناة أخرى يقدمه لاعب كرة قدم محترف يحبه الشباب ويعتبرونه قدوة، كان إعلانًا عن مشروب غازي لشركة عالمية، غيرت القناة ثانية، فوجدت إعلانًا ثالثًا لفتيات غاية في النحول يبدو عليهن «الفرح» التام أثناء شربهن مشروبًا غازيًّا آخر لشركة منافسة للشركة التي شاهدت إعلانها قبل ثوانٍ، ثم تلاه إعلان آخر لشباب مستمتعين بتناول شطائر البرجر في مطعم أمريكي عالمي للوجبات السريعة، ثم إعلان لأطفال متجمعين فرحين حول جرة نوتيلا ضخمة ثم وثم… توقفت عن تغيير القنوات وبدأت أفكر بشرود، كم إعلان نشاهده يوميًا عن مأكولات ومشروبات ومنتجات تعدنا بـ«الفرح» والسعادة وقضاء وقت ممتع؟ كم إعلان شاهدتُه أنا أثناء سيري على الطرقات لمأكولات ومشروبات تحتل صورها كل الميادين، كم مطعم أجده في كل ركن وكل شارع، كم «قناة فضائية» وكم «مجلة» وكم «موقع إلكتروني» و«قناة يوتيوب» أصبحت تتفنن في تقديم أحدث الوصفات وفنون الطهي… كم وكم وكم؟ تركت جهاز «الريموت كنترول» من يدي وعدت لملف الوورد، كان المحث لا يزال نشطًا بجوار السؤال الذي كتبته في السطر الأول؛ كتبت حينها الإجابة ببساطة:

لقد تحولت علاقتنا بالطعام، من كونه مصدرًا للطاقة و«المتعة المنطقية»، إلى كونه شغلًا شاغلًا لا ننفك عن التفكير فيه أو الإعداد له، أو تناوله، أو التخطيط لتناوله، إن مجتمعاتنا – وأغلب العالم في الحقيقة – يمر بعصر يمكن تسميته بلا حرج «عصر هوس الطعام»، آلاف المُصنّعين، وملايين المنتجات الجديدة يوميًا التي تندرج تحت مسمى «المواد الغذائية» وهي أبعد ما تكون عن الغذاء، ثم الآلة الإعلامية الهادرة التي تعمل خلف هذه الصناعات، حتى أصبحت عقولنا مبرمجة على التفكير في الطعام بشكل لا ينقطع! إن أقرب مثال يمكن أن يصف لنا حالة الهوس هذه، هو سلوكنا في تلك الأوقات التي نظن فيها أننا سنبتعد أو سنُحرم من الطعام فترة، إننا نتعامل مع تلك الأوقات باعتبارها تهديدًا مرعبًا، نمارس هوسًا حقيقيًا بتجميع أكبر قدر ممكن من الطعام لمواجهة ذاك التهديد الذي نتعامل معه كأنه مجاعة حقيقة. ولا أقرب من المثال الذي سيظهر جليًا في الأيام المقبلة ألا وهو الاستعداد المهول للمجاعة القادمة. عذرًا، أقصد الاستعداد لشهر رمضان المبارك. حتمًا هناك شيء ما خطأ.

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ» حديث نبوي صحيح.

يبدو أن لهذا الانفعال جذورًا بدائية، إننا قطعًا نخاف – كأسلافنا البدائيين – من الجوع، لكن الجوع عندهم كان يعني الموت! لأن الطعام كان عسر التوفر، وربما ظلوا يبحثون عن الطعام أيامًا حتى يجدوه، أما نحن؛ فرغم كون الطعام متوفرًا حولنا- ربما بشكل أكثر من المطلوب أو من الضروري – إلا أننا ما زلنا نتوتر بشدة من الجوع، نقلق منه ونضطرب كثيرًا، نسارع إلى إسكاته عند أول بادرة أو «قرصة» جوع، ناهيك عن أننا فوق ذلك اعتدنا التعامل مع الطعام بوصفه مهدئًا لانفعالاتنا، فحين نشعر بحرماننا منه، فإن عقولنا لا تتعامل مع هذا الحرمان كأنه حرمان من مصدر الطاقة الأساسي، بل على أنه حرمان من مصدر «المتعة» الرئيسي، وربما «الوحيد» عند الكثيرين. لمّحت في كتابات سابقة إلى سلوكنا الإدماني في التعامل مع الطعام، لذا فإننا- باعتبارنا مدمنين للطعام – حين نحرم منه فترةً، فإننا نفكر كما يفكر المدمن! لابد من التعويض، والتعويض الأقصى.

«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» حديث نبوي صحيح.

من أغرب السلوكيات التي تلفت نظري هو تعاملنا مع الطعام كأننا من فصيلة الجمال المجترة، إننا نفقد أي قدرة على التمييز أو الانضباط في حضورالطعام، نتناول كميات غير منطقية أحيانًا، كأن طعام العالم سينتهي وستحل المجاعة الكبرى بعد هذه الوجبة! أو كما كانت جدتي تقول للمستكثر منا «ما لك تأكل كأنك تأكل آخر زادك»، إن الجمل يجتر الطعام والماء لأنه يعلم أنه سيواجه أوقاتًا عصيبة في الصحراء، أما نحن فثلاجاتنا مليئة، والأسواق قريبة، بل إننا أحيانًا لا نحتاج الذهاب إلى السوق، بل يصل الطعام إلى أبواب بيوتنا بمكالمة هاتفية بسيطة. ومع ذلك فإن تلمحًا خاطفًا لأسواقنا ومنازلنا وموائدنا المتخمة بالطعام قبل وأثناء شهر رمضان، أو لحقيبة سيارتنا قبل خروجنا في رحلة خلوية، تخبرك أننا نتعامل مع الطعام بنفس التوتر الذي يتعامل معه من يشعر أنه على مشارف مجاعة. نحن لسنا جمالًا ولا نوقًا، لأن هذا الحيوان الرائع يستطيع تخزين الطعام والشراب في جسده بلا هضم حتى يستفيد منه لاحقًا عند الحاجة، أما نحن فلا نستطيع ذلك؛ إننا نخزن الطعام الزائد على شكل دهون فوق بطوننا وهذا يؤذي قلوبنا ويقتلنا.

«كَفَى بِالْمَرْءِ سَرَفًا أَنْ يَأْكُلَ كُلَّمَا اشْتَهَاهُ» عمر بن الخطاب.

قال غير واحد من الحكماء ما معناه: اقتصد في الشيء لتستمتع به، واشتققت من هذه الحكمة قاعدتي التي أجتهد في تطبيقها في التعامل مع الأطعمة التي أحبها:

إن السرف يقتل المتعة، ويورث المرض، الذي يجعلك تحتمي لاحقًا غصبًا، ويمنعك من طعامك المفضل، قديمًا قالت العرب: «كثرة المساس تُميت الإحساس»، الكثرة والمداومة وغزارة اللقيا تقتل الشغف، وتميت اللهفة والاستمتاع، ولذا كان الصيام من المدارس العظيمة التي تعيد ضبط بوصلتنا الغذائية، وتعيد وضع الطعام في موضعه الحقيقي المحدد و«المحدود»؛ مصدرٌ للطاقة والاستشفاء، وليس هوسًا لا ينتهي، أنت لن تموت حين تمتنع – نسبيًا – عن الطعام، بل إن هذا سيجعلك تستمتع به أكثر، وتستفيد به بشكل أفضل، لاحقًا سأحدثكم (بشكل علمي وليس أدبيًّا) عن كيف ينظف الصيام أجسادنا ويجعل استفادتنا من الطعام أفضل ويجعل أجسادنا أقوى وأكثر مهارة في الاستفادة من المغذيات، وكذلك الأمر في الاستمتاع به.

«لا شيء يعتبر سُمًّا، وكل شيء سُم، إنما السُم في الجرعة» باراسليس.

أهم أخبار مرأة

Comments

عاجل