المحتوى الرئيسى

في البحث عن ماضي الراحلين: ألبير قصيري.. «إله الكسل» يتمشَّى في شوارع باريس - ساسة بوست

02/10 22:32

منذ 1 دقيقة، 10 فبراير,2017

«لستُ في حاجة لأن أعيش في مصر، ولا أن أكتب بالعربية، فمصر داخلي». * ألبير قصيري

في غرفة رقم 58 بفندق «لا لويزيان»، والتي تطلُّ على نهرالسين، في حيّ سان جيرمان دوبريه، قطنَ «ألبير قصيري» لمدَّة 63 عامًا، منذ الحرب العالمية الثانية 1945 وحتَّى 2008 عندما توفِّي ألبير وحيدًا، في غرفته المحببة، بعدما رحل رفاقه الذي ائتنَسَ بهم لسنواتٍ طويلة على مقاعد مقهى دوفلور، سارتر وكامو وهنري ميللر ولورانس داريل.

هي نفس الغرفة التي كتبّ فيها قصيري جلّ إنتاجه الضئيل جدًا نسبةً لسني إنتاجه الأدبي. عاش ألبير في باريس لثلاثةٍ وستين عامًا، كتب فيها 7 روايات، سُبقت برواية ومجموعةٍ قصصية وديوان شعر قبل أن يأتي باريس. ربما كان من المنطقيّ لقصيري أن يكتب «عصفور من الشرق» كما كتب توفيق الحكيم، ناقدًا أو راصدًا «الشرق» وما يعانيهِ من مشكلات، أو ما عاناه هذا المهاجر من اغترابٍ وفقدٍ في هذا البلد الجديد. لكن على العكس، كتب قصيري عن هذا الشرق باعتباره الجنَّة، ليس بالطبع جنَّة الفلاسفة، إنَّما جنَّة «ألبير» هذا العدميّ الكسول!

الكَسَل والوحدة.. سعادة ألبير المتعالية

وُلدَ قصيري في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) قبيل الحرب العالمية الأولى، عام 1913، في حيّ الفجالة بالقاهرة. درس في مدارس دينية مسيحيَّة باعتبار أصول والديه الشامية الأرثوذوكيسة، في السابعة والثامنة عشر كتب ألبير قصصًا صغيرة ونشرها في مجلَّاتٍ مصريَّة، في بدايات الثلاثين كان ألبير قد أخذ قراره الغريب – وإن كان ليس غريبًا عن فلسفته – بالسفر إلى فرنسا، باريس ليعيش أجواء اللغة التي يقرأ ويكتب بها باعتبار دراسته الفرنسيَّة.

في حوارٍ معه أجرته الصحافية الفرنسية ألييت أرميل، عام 1994، قال ألبير ردًا على سؤالها لماذا قرر البقاء بباريس:

بالنسبة لكاتب يكتب بالفرنسية من الأفضل له أن يعيش بفرنسا لعدَّة أسباب لا حاجة لي لذكرها. لكن، لا يتعلَّق الأمر بباريس اليوم، باريس المُتَأمْرِكَة التي كان بإمكاني مغادرتها فورًا لو وجدتها مثلما هي عليه الآن. أمكث هنا لأنه في مثل سنِّي سيَّان أن يُعجبني الأمر أم لا، فأنا لم أعدْ أنتظرُ منها شيئًا. لكنّ باريس التي أعيشُ فيها الآن لا علاقة لها إطلاقًا بتلك التي عرفتُها كل مساء إلى الصباح في هذا الحي. لقد عرفتُ حي مُونْبّارْنَاسْ لِما قبل الحرب وحي السّانْ جِيرْمَانْ لِما بعد الحرب، وهما أجمل فترتيْن عَرفَتْهُما باريس. إذن، لستُ نادمًا على شيء. ثمّ، هل تعرفين لماذا نُحبُّ بلداً ما؟ نُحبُّه بسبب مثقفيه. بالنسبة لي فرنسا هي ستندال وسيلين وسائر كبار الكتاب.

الحقيقة أنّ قصيري امتلكَ فلسفةً خاصَّةً به، تمامًا، فالكسل هو محور حياته، ساعده على ذلك نمط حياة أسرته ميسور الحال، فقد كان والداه من ذوي الأملاك وعاشا من ريع هذه الأملاك طوال عمرهما، ورث قصيري هذه الفلسفة عن إخوته الأكبر عن أبيه عن جده، وبينما عاشت أسرته من أهل «الأملاك»، كره ألبير التملُّك معتبرًا إيَّاه هو العبودية الحقيقيَّة.

بناءً على هذه الفلسفة، تدبَّر ألبير مصروفاته من عوائد كتبه والسيناريوهات التي كتبها. وبناءً عليها أيضًا لم يمتلك مسكنًا خاصًّا به، مجرَّد غرفة لا تتغيَّر في فندق «لا لويزيان». على كلٍّ لم يكن ألبير هو الوحيد الذي اعتاد العيش في فندق، ففي نفس الحقبة الزمنية كان جان جينيه أيضًا يعيش مثل قصيري، ولكنه يعيش في عدَّة فنادق يتنقَّلُ بينها. أمَّا بالنسبة لألبير، فقد كان جوابه: أنَّه أحب فندق لويزيان لأنَّه في الحي الذي اعتاد أن يمرح فيه.. ففي الزقاق يوجد متجر يشتري منه المأكولات والمشروبات، والدخان.. وهو كل ما كان يلزمه لقضاءِ سهرةٍ طيبة.

وفقًا لفلسفته أيضًا الرافضة لكلّ ما هو «حداثي» فهو سعيدٌ لأنَّه لا يمتلكُ بطاقةً بنكية ولا دفتر شيكات – «سعادة الحمقى» وفقًأ لألبير – بينما السعادة بالنسبةِ له، باختصارٍ وتكثيفٍ شديدين: أن يكون بمفرده!

الحارة والعاهرات واللصوص.. الأرستقراطي نصير المهمَّشين

اعتمد ألبير ثيمةً واحدة لا تتغيَّر في كافة أعماله، تتكوَّن من عدَّة عناصر:

1- فالرواية تعتمدُ بشكلٍ رئيسيّ على «المهمَّشين»، وهم في هذه الحالة: عاهراتٌ ولصوص، وفقراء مُعدمون وحتَّى مجرمون. شخصيات ألبير غرائبيَّة تمامًا، أسمائهم غريبة وصادمة، وكذلك أفعالهم، ولكن يمكن اعتبارهم «صرخات» في وجه العالم، يمكن تلمُّس ذلك في مجموعته الصغيرة جدًا «بشرٌ نسيهم الربّ» وهي من أوائل أعماله.. بإطلالةٍ بسيطة للغاية على عناوين القصص: الجياع لا يحلمون إلا بالعيش، الحلاق يقتل زوجته، ساعي البريد ينتقم، البنت والحشَّاش.

2- الكسل والحشيش، أحد المكونات الرئيسيَّة في شخصيَّات ألبير، ورغم أنَّه لم يدخن الحشيش إلا نادرًا عندما كان في مصر، إلا أنه عبر عن فلسفته تلك بأنّه: «في الرواية الأمريكية الشخصيات تشرب الويسكي وفي الرواية الإنجليزية تحتسي البيرة وفي رواياتي تدخن الحشيش».

3- روايات قصيرة للغاية، ربما لهذا الأمر علاقة برؤية ألبير للكتابة، إذ يعتبر أنَّ الكتابة عملية عسيرة للغاية، فهو: يكتبُ سطرًا كل أسبوع، وهو يمكنه أن يكتب عشرين سطرًا دفعةً واحدة ولكنّ هذا سيجعله يصحح ذلك في غضون شهرين!«كلُّ جملةٍ يُعادُ فيها النظر من جديد، فليست هناك جُملٌ مَجانيةٌ في كتبي، إنه عملٌ دَؤوب، ولا يمكن أن أكتب إلا في غرفتي».

4- تدور أحداثها دومًا في مصر، في القاهرة والإسكندرية ودُمياط. أو في مُدنٍ متخيَّلة، تدلُّ بطبيعتها على مصر أو العالم العربي. قصيري الذي عاش أغلب حياته في باريس لم يكتب عنها، ورغم كتابته بالفرنسيَّة إلا أنه وجد ضالتهُ في مصر، في القاهرة التي تتجاورُ فيها الطبقات تجاورًا متلاحمًا صارخًا. ربما وجد ألبير في هذه الشخصيات – الفقيرة والمعدمة من المصريين – ضآلته ليعبِّر عن فلسفته «العدميَّة/الكسولة» في الحياة.

ارتبط ألبير قصيري بصداقة قوية مع ألبير كامو

هل ينتجُ الظلم عدميةً ولامبالاة؟ هذه هي النتيجة التي يصلُ إليها ألبير في روايته «شحاذون ونبلاء»، الرواية الأكثر صراخًا في رواياته، ربما هي الأكثر صراخًا وعنفًا وظلمًا ولا مبالاةً في نفس الوقت. إلى أيِّ مدى يذهب ظلم العالم الذي يودي بـ «جوهر» الأستاذ الجامعي، مُعلِّم التاريخ ويهبط من التدريس إلى إدارة حسابات بيت دعارة، ثمّ يقتل المرأة التي راودته عن نفسه، لا لشئٍ ربما إلا أنه أراد أن يكسر القوانين ويتحدَّاها.

ماذا ينتجُ الظلم أيضًا؟ ينتج لا مبالاة حدّ اعتراف أحد الشخصيات بارتكابه جريمة قتل لم يقُم بها!

الصعلوكين «يكن وكردي» صديقي الدكتور جوهر، الرومانسيّ الحالم الذي يعشق فتاةً ارستقراطية لا أمل لهُ معها، المتشرد الذي يعيشُ على الاقتراض، والآخر الذي يحلم بثورة عارمة، تطبِّق العدالة الاجتماعيَّة على الجميع، وتعطي المرأة فرصتها في المجتمع والسياسة. هذه الأحلام التي سرعان ما تتحطَّم وتُنسف مع وطأة «الواقع».

المخرجة أسماء البكري، حولت الرواية إلى فيلم عام 1991:

ماذا ينتجُ الواقع أيضًا؟ في قصته شديدة التعقيد «خطر الفنتازيا» يدور النقاش بين أستاذ مدرسة النشالين، وبين «توفيق جاد» الذي يقترح أن يكون هناك طريقة أخرى للتسوُّل غير الأسمال البالية والجروح العميقة والأشكال المزرية، بأن يستثيروا الأغنياء من خلال التعاطف لا الشفقة، بأن يرتدوا ملابس نظيفة، ويطلبوا الإحسان، لكنّ أبو الشاوالي يقول حكمته الأثيرة، بأنّ الميتافيزيقا خطر.. الفقراء يحتاجون للواقعية.

العنف والسخرية vs حفلة التفاهة

جمعت فرنسا ألبيرقصيري وميلان كونديرا، مع اختلافهما تمامًا واختلاف مسيرة حياتهما وحتى رؤيتهما الأدبيَّة، مع الجنسية الفرنسية لكونديرا والمصرية لقصيري – لم يطلب الجنسية الفرنسية -، وإن كانا اجتمعا في حصيلة إنتاجهما الأدبي القليل، وسوداويتهما المختلطة بسخريةٍ وعبثٍ وعدميةٍ لا مبالية أحيانًا – وإن كانت تخفي داخلها اكتراثًا ما -.

يقول كونديرا في روايته الأخيرة حفلة التفاهة: أدركنا منذ زمنٍ طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد. بينما يعتبرُ ألبير – في روايته العنف والسخرية – أنّ اتخاذ المعارضة/الفقراء السلطة على محمل الجدّ يعطيها نوعًا من الاحترام والأهمية، بينما رجال السلطة أوغاد بطبيعتهم. الصواب هو اعتماد السخرية – لا العنف – معهم، فالهزلية هي السلاح الأقوى الذي يحقق انتصارات الفقراء الكبرى. لا يخففُ من هذا أبدًا الحقيقة التي يبثها ألبير على لسان إحدى شخصياته ما بعد الثورة «النظام الجديد سيكون تمامًا كالقديم».

دارت الرواية في مدينةٍ مجرَّدة، فُهم منها أنها الإسكندريَّة، وكالعادة فإنّ شخصيَّات ألبي متشابهةٌ تمامًا في كلّ رواياته، يجمعها: الكسل، واللامبالاة، والفقر، والتمرُّد، والنساء العاهرات – بشكلٍ مبالغ فيه -. دارت الثورة، وبدأت الرواية في هذا النظام الجديد، واختلف «الثوَّار» في انتهاجهما لطريقين: «العنف» و «السخرية». بالطبع فإنّ ألبير ينضمُّ لفريق السخرية، بينما يسمِّي العنف بـ «العنف المجَّانيّ» الذي سيجعل الديكتاتوريين ضحايا ينظر إليهم بعين الشفقة والتعاطف!

الفجَّالة وحيّ الحسين.. ما الذي يجمع ألبير ومحفوظ؟!

كلاهما كَتَبَ عن القاهرة، والحارة المصريًَّة، والزقاقات، والفقراء والمهمَّشين، وكلاهما كتب عن البون الشاسع بين الطبقات في مصر، حتى ليُعتبر نجيب محفوظ مؤرِّخًا لتطورات الطبقة الوسطى المصريَّة

منذ الملكيَّة وحتَّى الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس السادات. لكنّ الذي يجمع ألبير ونجيب، انتمائهما أولًا لنفس الحقبة التاريخية (محفوظ 1911 – 2006) وكذلك كتابتهما عن الحارة المصرية وحواري القاهرة وزقاقاتها، لكنّ ما يفرِّقُ بينهما كثير.

يمكن اعتبار محفوظ رائدًا فيما يمكن تسميته «الرواية الفلسفيَّة»، حتَّى في مرحلته الواقعيَّة اتسمت شخصياته بالعديد من الأسئلة الوجودية المحيِّرة، وحتى في مرحلته الوصفيَّة – من حيث البناء الداخلي للرواية – نجد شخصيَّة «كمال» الذي نشأ في حيّ الحسين، والمؤرَّق بالأسئلة الوجودية التي لا ترحم. على العكس تمامًا نجد ألبير لا يكترث لأية أسئلة وجوديَّة، يكترث فقط للفقر والمهمشين، والمشاعر البدائيَّة لدى البشر، وإن كانت كلّ أحداثه تدور تقريبا في مصر، والقاهرة تحديدًا.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل