المحتوى الرئيسى

عمر قاسم يكتب: هل حقًّا الحب الأول يدوم؟ | ساسة بوست

02/10 19:43

منذ 10 دقائق، 10 فبراير,2017

ذهب ستيفن تايتوس -صاحب الواحد والثلاثين عامًا والمدير لأحد المطاعم- في عشاء ليلي مع خطيبته «غريتشن»، وبينما هما عائدان إلى المنزل قبضت الشرطة على تايتوس كمشتبه به. كانت سيارة ستيفن تايتوس تشبه سيارة شخص استقلت معه سيدة سيارته كي يوصلها على طريق سفر فاختطفها واغتصبها.

عرضت صورة تايتوس على الضحية فقالت «هذا هو الأقرب». اقتيد تايتوس إلى المحكمة وفي هذا الحين وقفت الضحية في المحكمة وقالت «أنا متأكدة أنه هو». صار تايتوس الآن مُدانًا فأخذ في ذهول يصيح أنه برئ بينما تصرخ عائلته في القاعة وتسقط خطيبته على الأرض في انتحابٍ شديد.

راسل «تايتوس» الصحافة ليخبرهم بقصته فاهتم بها صحفي استقصاء، فوجد هذا الصحفي الخاطف الحقيقي وقبضت الشرطة عليه واعترف بالجريمة، فأطلقت المحكمة سراح تايتوس بعد هذا.

فيما بعد، فقد تايتوس وظيفته وخطيبته التي لم تتحمل غضبه الدائم وفقد كل مدخراته، فأقام دعوى قضائية ضد الشرطة بسبب كل هذه المعاناة التي تسببوا فيها.

في حساب للكاتبة حنان لاشين يعنى بحل المشكلات الاجتماعية على موقع آسك كانت الأسئلة التي يطلب فيها أصحابها الحل لمشكلة «الحب الأول» ملفتة جدًا، أعني هنا الحب الأول الذي أعقبه فراق وليس العلاقات الناجحة بحب أول، إحداهن ذكرت أنها لم تستطع الارتباط بأي شخص آخر بعد فشل أول حب لها، وأخرى تتذكر خطيبها السابق وتدعي أن الأمر ليس ملكها، وآخر يشكو الأمر نفسه ويقول إن الحزن يأكل من قلبه بعد انقطاع السبيل. هذا الأمر شائع بكثرة وخطورته كبيرة على المجتمع وإن كانت لا تظهر على السطح كون أصحابها يكتمونها في الغالب، كنت أعرف حقيقة الأمر لكن كان يلزمني شيء من الدلائل التي يثق بها الناس غير الرأي الشخصي، دلائل كالدلائل العلمية تأتي بها دراسات موثوقة، فكان هذا المقال.

كان تايتوس شخصًا ناجحًا، ومقدمًا على زواج وحياة هانئة فإذا بحياته تُقلب رأسًا على عقب ويفقد كل شيء، ظل تايتوس يفكر بالأمر في كل لحظة حتى جاء اليوم السابق لقضيته، استيقظ يشعر بألم شديد جراء الضغط النفسي مما أدى إلى إصابته بأزمة قلبية مات على إثرها وكان في الخامسة والثلاثين من عمره، مات كمدًا، ثلاث سنوات من المعاناة.

السؤال هنا: كيف تحولت أقوال الضحية من «هذا هو الأقرب» إلى «أنا متأكدة أنه هو»؟

ستيفن تايتوس لم يكن الوحيد الذي يتهم بجريمة بناء على ذاكرة مزيفة لشخص آخر. عُمل مشروع في الولايات المتحدة تم فيه جمع البيانات عن ثلاثمائة شخص تمت تبرئتهم بعد الاتهام والإدانة ثم العقوبة من 10 إلى 30 سنة، وبعد تحليل هذه القضايا وجد أن ثلاثة أرباع هؤلاء المتهمين هم ضحايا ذاكرة مزيفة لأحد الشهود العيان، فالذاكرة المزيفة لها الدعائم نفسها التي للذاكرة الحقيقية من وثوق صاحبها بها وإمكانية سرد تفاصيلها، لا يمكنك تحديدها إن كانت مزيفة أم لا.

ربما يعتقد معظم الناس أن الذاكرة تعمل كشريط فيديو يمكنك استرجاع معلومات أو صور أو أحداث معينة كما هي وقتما أردت، وبعد عقود من الدراسات النفسية وجد أن هذا الأمر غير صحيح بالمرة، إذ إن الذاكرة في حقيقتها ذاكرة استنتاجية ما يشكلها هو التجارب المتراكمة، خلاصتها وما يدخل عليها من معلومات خارجية.

الذاكرة مثل صفحة الويكيبيديا، يمكنك الذهاب إليها وتغيير ما بها؛ بل ويستطيع آخرون التعديل فيها.       *إليزابث لوفتس- عالمة نفس

إن عقل الإنسان مبني على السببية وشيء من اللاوعي، الأول ندركه تمامًا والآخر لا ندركه، وهنا يحدث ما لا يمكن السيطرة عليه في كثير من الأحيان لحكمٍ بالغة أرادها الله تعالى.

إذن ما الذي يساهم في إنتاج الذاكرة المزيفة؟

يشكل الضغط النفسي أهم العوامل التي تساعد على نشوء مثل هذه الذاكرات، شخص ما يريد الهروب من ضغوطه فيصنع توهمًا خاصًا إما أن يلاقي فيه شيئًا من الخلاص النفسي- كما في حالة الضحية الأولى في قضية تايتوس- أو على النقيض يجد شيئًا من الهلاك النفسي كما في حالة تايتوس نفسه.

عملت تجربة لجنود في الجيش الأمريكي لتعليم الجنود كيف سيكون الوضع عندما يؤسرون في الحرب، كجزء من التدريب تم استجواب الجنود بطريقة عنيفة ومؤذية نفسيًا وجسديًا مدة ثلاثين دقيقة. فيما بعد طُلب من الجنود التعرف على المحقق الذي باشر معهم كل هذا وأوحوا إلى عقولهم بمعلومات مزيفة وبعض التلميحات الخاطئة كلها تشير إلى الشخص الخطأ، فكان أن الكثير منهم اختاروا الشخص الخطأ!

ما تظهره هذه التجربة هي أنك حينما توحي إلى الناس بمعلومات خاطئة عن بعض التجارب فإنه بإمكانك أن تشوه ذاكرتهم أو تغير ذاكرتهم، خاصة عندما تكون هذه التجارب سببت ضغطـًا نفسيًا أو كان لهم معها مشاعر خاصة، ويفعل هذا المرء مع نفسه لمحاولة تطويعها في اتجاه شيء ما أو لعيش حالة يريدها ويحتاج إليها.

هل حقًّا -وبشكلٍ حصري- لن تكون الحياة أجمل إلا بوجود هذا الشخص؟ كإجابة منطقية يدركها الجميع «لا».

لكن ما يحدث بعقل الإنسان أعقد من هذا، تفتقد هذه الإجابة أبعادًا أخرى، الضغوط النفسية التي لا يسلم منها أي شخص فى مرحلة ما -على امتداد عمره – فتدفعه للهروب إلى الحلم الجميل الذي لم يكتمل، أو حتى لم يبدأ، ورسم صورة مكبرة جدًّا له، و ما يطرأ على الذاكرة تبعًا لذلك من تأثير بالغ.

في كل القصص التي ذكرنا يلعب الضغط النفسي الدور الأهم في تزييف المشاعر والذاكرة، ويدعم هذا العامل الرئيسي عوامل عدة أخرى تثريه، فلو تتبعنا كيفية الترسيخ لفكرة «الحب الأول» منذ القدم فسنجد أن الأمر تطورت عوامله بتطور البشر كالتالي:

1- الأشعار وما يرتبط بها كقصص كثير عزة وقيس والرافعي، وكلها قصص يبرز فيها مدى توهم أصحابها الشديد، ووهن ما وضعوا من ثوابت. يوجد الكثير جدًّا من القصص تستطيع تحطيمها لولا أن المجال لا يسمح لاستطرادنا في هذا الأمر كثيرًا لكنه جلي للتقصي.

2- الأغاني: تلعب الأغاني دورًا كبيرًا جدًا في ترسيخ العديد من التوهمات، لما كانت فكرة «الحب الأول يدوم» تشغل كثيرًا من الناس، أضحت الأغاني التي تلبي رغبة الجماهير لا حصر لها، وهنا أفردنا موضوعًا كاملاً في هذا الأمر لا ينفصل عما نناقشه هنا، كيف تتلاعب الموسيقى بعقلك؟

3- الأفلام: القصة التي رأيتها في أحد الأفلام كتبها رجل على مكتبة، ومثّلها مجموعة من الناس ليس لهم علاقة ببعض إلا أنهم يمثلون معًا، هذا ما تعرفه تمامًا، لكن عقلك لا يتشبث إلا بالفكرة التي عرضت، فالسينما تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي عند الناس بما يكفي لجعلهم يعتنقون فكرة، وينبذون أخرى، ولعلنا نتناول موضوعًا كاملاً في هذا الأمر فيما بعد.

4- مواقع التواصل الاجتماعي: اليوم، فيسبوك صار منصة عامة لأي فكرة مما يمكنه للترويج بما يكفي لكل ما فات من الدعائم بشكر أكبر بكثير؛ فقد يلاقي أحدهم مقولة مؤثرة، أو مقطعًا من أغنية، أو فقرة من تلك القصص فتُستجاش مشاعره ويزداد في توهمه، وفيما يلي مقال من جريدة (الجارديان) يتحدث عن دراسة نفسية أجراها فيسبوك على بعض المستخدمين دون علمهم، توضح الدراسة مدى تأثر مستخدمي الفيس بوك بما يعرض في صفحتهم الرئيسية.

Facebook reveals news feed experiment to control emotions

وضع عالم النفس (تيم ويلسون) مصطلح يعرف بـ«inside the information داخل المعلومات»، وهو باختصار يشرح كيف أن المعلومات التي تصلك أولاً هي المعلومات التي تساهم بشكل كبير جدًّا فى تكوين انطباعاتك، وبالتالي قرارتك.

ضرب دكتور (جيسون تانجن) –المحاضر فى علم الإدراك بجامعة كوينزلاند بأستراليا- مثالاً على هذا وهو: عندما تريد أن تستثمر مالك فى مخبز مثلاً، فقررت الاختيار بين المخبز أ، ب، ج في البداية ذهبت إلى المخبز (أ) و تحدثت إلى العاملين، وتذوقت السلع وتحدثت مع المدير عن طريقة العمل فى المخبز ، فى المقابل أنت لم تذهب لباقي المخابز واكتفيت بالقراءة عنهم فى الصحف أو ما شابه. الآن، و قد عزمت على الاستثمار فإنك تشعر بثقة أكبر تجاه المخبز (أ) وتختاره وتعزف عن (ب) و (ج)، فى حين أنه من الممكن جدًّا أن يكون المخبز (ب) و(ج) أفضل كثيرًا!

تزوجت السيدة خديجة أم المؤمنين – رضى الله عنها- بالنبي – صلى الله عليه وسلم- وقد تزوجت قبل النبي مرتين، في المرتين مات عنها زوجها، وفي آخر مرة قررت ألا تتزوج حتى عرفت النبي- صلى الله عليه وسلم- تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم- في قصة تظهر كيف يبدأ الحب النقي في صورته المثالية الطاهرة بعيدًا عن كل عبث نعرفه. توفيت عنه وهي في الخامسة والستين من عمرها بعد أن قضت معه ما يزيد عن أربعة وعشرون عامًا وكانت أول من آمن به من البشر جميعًا. حكي أن السيدة عائشة-رضى الله عنها- أرادت أن تهون على النبي- صلى الله عليه وسلم- فراقها عندما كان يبدو عليه ألم الفراق، فقالت له: لقد عوضت خيرًا منها. فكان رده – صلى الله عليه وسلم- النفي متبعًا بذكر ما لقيه منها، فكان يقول عنها: «آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس».

هل فهمت المعنى؟ إنه العطاء، لم يذكر أي شيء آخر سوى عطاءها وبذلها له، فكل حب غير معللٍ بأسباب هو وهمٌ في حقيقته، فلا تقل لنفسك إني أحبه/ أحبها بلا سبب. وقد قيل إنه عندما فتح الله-عز وجل- لنبيه –صلى الله عليه وسلم- مكة، رفع راية المسلمين عند قبرها – رضي الله عنها- في إشارة عظيمة تطيح بألف بيت من الشعر وألف سطر من رسائل الحب، فإن أردت معنى واضحًا وقابلاً للإدراك من الحب فسيكون «العطاء»، العطاء في كل صوره هو التجلي الحقيقي للحب بعمومه.

العين ترى غير المقدور عليه على ما غير هو عليه.

يمكنك أن تحب شخصًا ما لمواصفات تحبها، ترجمة هذا أنك تريد العيش معه ليمنحك العطاء المعنوي الذي تريد وتبذل له أنت العطاء نفسه، حينها يكون البذل في حد ذاته هو عطاء للذي بذل وهنا مكمن الحب الذي لا بأس به أبدًا فيما لا يورد المهالك ويستعبد الشخص، بينما لا يمكنك أن تحب شخصًا – حتى وإن كان يبدو لك شخصًا جيدًا- كل هذا الحب الذي نسجته أنت بعد الفراق – أيًا ما كان سبب الفراق- فما عطاؤك حينها إلا الوهم وما يدعمه من الذي ذكرناه آنفًا، فلا يظهر العطاء والصدق في العلاقة إلا بزواج تتكشف فيه حقيقة الأمر، وليس علاقة دفعك إليها الاحتياج العاطفي ولا خطبة بنيت على إعجاب ظاهر لم يختبره الزواج والجلوس بين أربع جدران مع شخص آخر تراه كل يوم، وبالتأكيد لا يمكنك أن تبقي على من تركك بعد زواج، فإرادته في الترك هنا لا تترك أي مدعاة للإبقاء عليه، وإن توجست نفسك بأنك ربما لن تتحصل في يوم ما على شخص يعطيك ما ترسمه في خيالك فاعلم دائمًا أن المخبز «أ» لم يكن بالضرورة استثمارًا ناجحًا، ربما كان يتملق لك صاحب الحب الأول ليظهر بأحسن ما يريدك أن تراه عليه؛ فأنت لم تختبره إلا في إطار يتيح من التملق لكل منكما أكثر مما يتيح من صدق الحب الذي تختبره مشاكل الحياة فربما وقعت في وحل حينها، وحل علمنا دائمًا أن الخروج منه صعب، وربما لا تحصل على الحب في صورته المثالية التي رسمت، الأكثر من هذا ربما لا تحصل على شخص ترتبط به، كل هذا لا يعني أن الحب الذي وقفت عنده هو المنتهى وغاية الأمل كما يوهمك عقلك، وإن كنت في حالة من الضغط النفسي أعلم أنك في أضعف الحالات وأكثرها عرضه لذلك، وما يعتريك حينها إلا الوهم الذي يجب أن تتجاوزه.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل