المحتوى الرئيسى

وَهْما المساواة والعدالة

02/09 21:53

يعيش الأفراد في مجتمعنا وهمَي المساواة والعدالة، ويتشدقون وينطقون بالشعارات التي تؤكد أن الناس سواسية، أو أنه لا فرق بين الغني والفقير، أو أن الحب لا يعرف الطبقات.

يدافعون عن الحرية واحترام الآراء، وتجدهم أبعد ما يكونون عنها، ينادون بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتجدهم أول من ينتهكها، يتحدثون عن التضحية والوطن وتجدهم أحرص الناس على حياة، يكتبون أن البشر سواسية، ثم يحددون معاييرهم للمساواة؛ لتصبح أنت غير سوي إن لم تلتزم بها.

لقد سمحت لي ملاحظاتي للواقع من حولي بتطويع عدة فرضيات، وإن شئت فقُل حقائق عن المجتمع الذي نعيش فيه، أضعها اليوم بين يدي القراء، على أمل أن تكون ملاحظاتي موضوعية ومقولاتي مقنعة، ولمَ لا تكون مقنعة؟! وقد أصبحت سمة تسم الحياة من حولنا، يراها كل من يريد أن يرى الحقيقة، ويتجاهلها كل من يريد التجاهل.

أولاً: أن المجتمع الذي نعيشه مجتمع طبقي يمارس طبقية متجذرة فيه على أعضائه بطريقة قهرية، (وأعود في هذه النقطة إلى إشكالية أرقتني كثيراً عن إشكالية العلاقة بين الفرد والمجتمع، ومن يشكل الآخر، وأحسب أن المجتمع هو من يشكل أفراده على سجيته وكما أراد لهم إن طوعاً أو كرهاً).

لقد أصبح كل شيء لدينا طبقياً، التعليم (التعليم الحكومي، والتعليم الخاص الذي ينقسم بدوره إلى خاص في متناول بعض أفراد الطبقة المتوسطة وخاص لأبناء الطبقات العليا)، وكذلك الصحة والعلاج (المستشفيات الحكومية والخاصة وشتان بينهما)، وصولاً للمقاهي والمطاعم... وهلم جرّا.

ولا أنكر أن يكون المجتمع طبقياً، فهذا قانون طبيعي لا جدال فيه، يقول تعالى: "ورفع بعضكم فوق بعض درجات"، فأن يكون الناس سواسية في حياتهم فهذا محال، ولكن لماذا خُلق الناس طبقات؛ "ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً".

يقول الطبري في ذلك: "ليستخدم بعضهم بعضاً في خدمته، ويعود هذا على هذا بما في يديه، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط"، إذاً لا فرق بين الناس إلا بالكفاءة والعمل، ولست منظراً إسلامياً ولا أتحدث في فقه الدين، ولكن ما أعنيه هنا بصورة أساسية هو عدم سواد العدل أو المساواة في المجتمع، وعدم تكافؤ الفرص، فالعدالة في أحد مفاهيمها الفلسفية هي أن يوضع الجميع على خط واحد؛ لينطلقوا من نقطة واحدة، على أن تتاح لكل منهم نفس الفرص المتكافئة، ثم يتسارعوا بناء على قدراتهم الشخصية.

ثانياً: أنك ما دمت تنتمي لطبقة ظللت منتمياً إليها إلا من رحم ربي فيحدثون هذا الحراك، وأنك إذا كنت تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، وأحدثت حراكاً، فإن هذا الحراك سيبقى بطيئاً مهما كنت تمتلك من القدرات والمهارات والذكاء التي تؤهلك، مقارنة بنظرائك من الطبقة العليا الذين يمتلكون قدرات أقل منك. فاختلاف النجاح من فرد لآخر لا يرجع مكمنه إلى امتلاك أحدهما مهارات وقدرات تعلو الآخر، ولكن يرجع بصورة أساسية إلى اختلاف الإطار الذي وضع فيه كل منهما، واختلاف الفرص المتاحة أمامها.

فكم تجد من أمثلة لا تقتنع بها أنت أو غيرك - لاحظ أنها ليست وجهة نظر فردية ولكنها جمعية - ثم هي تتبوأ أفضل المناصب، لكونها تنتمي إلى طبقة بعينها وعائلة بعينها أو تمتلك دائرة علاقات على نطاق واسع، وعلى النقيض كم تجد من الأمثلة من يقنعك أنت وغيرك، ويمتلك بالفعل للقدرات والمهارات التي تؤهله، ولكن يبقى حراكه بطيئاً ومرتبطاً بالطبقة المنتمي إليها.

ويقول الدكتور زويل رأياً يقارب هذا؛ حيث يقول: "إن الغرب ليسوا أذكياء، ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل"، فالذي ينشأ لديه كم كبير من الذكاء والمهارات ثم لا يجد من ينميها، فإنها ولا بد تتناقص إلى أن تموت، وعلى النقيض تماماً، فالذي لديه قدر بسيط من الذكاء والمهارات ثم يتم تنميتها - لتوافر الموارد - فإنه ينجح.

قد لا يكون بنفس كفاءة الفرد الذي يمتلك ذلك بالفطرة، ولكنه يمهد له الطريق، وصعوبة الأمر تكمن في بدايته، فإنك إن وضعت "أعمى" على أولى درجات السلم، وطلبت منه الصعود لنهايته فعل.

خلاصة القول: إن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للفرد تشكل العامل الأساسي في صياغة الحراك الاجتماعي للفرد إن سريعاً أو بطيئاً، فالمنتمون للطبقة الفقيرة حين يحدثون حراكاً، يبقى حراكهم بطيئاً مقارنة بالحراك الذي يحققه أمثالهم من الطبقة العليا الذين يمتلكون قدراً أقل من المهارات والقدرات والذكاء، ويبذلون قدراً قل من الجهد، فالعلاقة بين الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للفرد وحراكه كمثل العلاقة القائمة بين الجاذبية الأرضية والأشياء التي فوقها، مهما بعدت عنها فإنها تبقى في إطار الجاذبية، وأكثر من ذلك حيث تلعب الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للفرد دوراً كبيراً في البنية الثقافية، والجسدية، والصحية لذلك الفرد (وفي كل الحالات، لكل قاعدة شواذ).

وسأحاول جاهداً أن أسوق بعض الأمثلة التي توضح وتبرهن ما ذكرته سابقاً حتى يكون الأمر أكثر وضوحاً.

إذا افترضنا أن هناك طالبين التحقا بكلية الحقوق؛ أحدهما من الطبقة الفقيرة، والآخر لوالدين لديهما مؤهلات عليا، وأبوه يعمل مستشاراً في السلك القضائي.

في هذه الحالة، فإن الطالب الثاني سيجد الكتب والمراجع وأمهات الكتب القانونية متوفرة أيما توافر، وسيجد من يرشده ويعلمه كيف يحصل على الدرجات في الامتحان، ثم من يذاكر ويشرح له ما لا يفهمه، ولا أنكر عليه ذلك، فمن وضعه في هذا الموضع هو الله، ولا غبار على ذلك ولا حُرمانية ولا أية وجه من أوجه عدم العدالة (فهذا ما يمُكن أن نطلق عليه طبقاً لراولز - اللاعدالة المقبولة اجتماعياً Inequality socially accepted فهي متغيرات لا دخل للمجتمع ولا للأفراد فيها، ولا يمكن التحكم فيها أو تغييرها، ولكن الطامة الكبرى،

وكل أوجه عدم اللاعدالة أن يحصل هذا الطالب على مقبول بعد كل ذلك، ثم يتم تعيينه في السلك القضائي على حساب غيره من أبناء الطبقة الفقيرة الحاصلين على مجموع أعلى منه، أو أن يحصل هذا الطالب على درجات لا لتفوقه، ولكن تحسباً لوالده ولعلاقاته القوية، وهذا ما يندرج تحت مسمى "اللاعدالة المجتمعية"، وهي المتغيرات التي يمكننا التحكم فيها وعلاجها.

ثم دعنا نتطرق إلى صلب الفرضية السابقة، ونفترض أن الطالبين (ابن المستشار القضائي، وابن الفقير) تم تعيينهما في نفس السلك القضائي، فإن هذا الأول بعلاقات والده القوية يتدرج في المناصب بصورة تفوق ذلك الفرد الفقير، وقد يرتبط بزيجة لأحد الوزراء أو أحد السفراء من معارف والده، على عكس هذا الفقير الذي تظل حالته الاجتماعية والاقتصادية تلاحقه في حياته وبعد مماته، ولدي مئات الحالات الواقعية على ذلك.

دعني أكتفي بهذا المثال على أن أسوق أمثلة أخرى في مقال آخر تبرر أو تحاجج هذه الفرضيات، ودعني أؤكد بكلمات أخرى أنني لا أنكر على هذا الفرد ما رُزق به من عائلة كبيرة أو أب وأم متعلمين وفي مناصب راقية (اللاعدالة المقبولة اجتماعياً)، ولكن ما أنكره بل أرفضه أنا وغيري، أن يحتل هذا الفرد منصباً ما دون وجه حق، ودون جدارة واستحقاق به (اللاعدالة المجتمعية).

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل