المحتوى الرئيسى

الحقيقة والسراب

02/09 21:29

كثير منا يذكر صورة البطة المبللة بالنفط التى تاجرت بها الفضائيات الغربية فى عام ١٩٩١ للدلالة على وحشية نظام صدام حسين فى العراق، وذلك على أساس أن هذا النظام لم يستبد فقط بالبشر بل إنه استبد أيضا بالطبيعة وتهدد الحياة البحرية بالنفط الذى أهدره فى مياه الخليج. فى كل مرة كانت ترتعش فيها هذه البطة المسكينة لتنفض عن ريشها آثار بقع الزيت العالقة به كان السخط يزيد على النظام العراقى فليس أكثر قسوة من استهداف طير لا يملك رد الأذى عن نفسه. لكن لم يمض وقت طويل حتى عرفنا أن صورة البطة الشهيرة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بسواحل الخليج. النقطة هنا أن هذه الصورة لم تكن مجرد تزييف لوعى المشاهد بخصوص واقعة معينة تحقيقا لهدف سياسى محدد، لكنها فى الحقيقة كانت عنوانا لمرحلة جديدة ومتطورة من مراحل التلاعب بالعقول وطمس الحقيقة عن طريق إعادة نشر صور قديمة فى سياق بعيد كل البعد عن السياق الأصلى.

عندما كنا فى مرحلة التلمذة كنا نحصل على المعلومة بشق الأنفس فقد كان الإعلام الرسمى هو الذى يحتكر المعلومة ويمرر لنا ما يريد تمريره وبالصورة التى تناسبه. الآن اختلف الأمر بالكلية ولم تعد مشكلتنا مع المعلومة ترتبط بندرتها إطلاقا، بل إنها باتت ترتبط بوفرتها وبصعوبة التثبت من صحتها. عندما أتيح لآحاد الناس أن يصنعوا بأنفسهم المادة العلمية التى يتضمنها موقع موسوعى كموقع «ويكيبيديا» وأن يطور هذه المادة آخرون من بعدهم وأن يسقط أولئك وهؤلاء مواقفهم واتجاهاتهم السياسية على المضمون انعدمت الثقة فى تجرد المعلومة وصحتها. ذكرت مثال ويكيبيديا بالتحديد لسببين أساسيين، السبب الأول أن هذه الموسوعة واسعة الانتشار بدرجة كبيرة لاسيما بين الباحثين المبتدئين، وعلى الرغم من التحذير المستمر لهؤلاء الباحثين من عدم مصداقية الكثير من المعلومات الموجودة فى الويكيبيديا، بل إن منها ما لا يتم إسناده بمصادر أصلا إلا أنهم لا يتورعون عن الاستعانة بها فلغتها سهلة والبحث فيها ميسور. أما السبب الثانى فهو أن شهرة ويكيبيديا كموسوعة غير مدققة تهز بعنف الشهرة الذائعة للموسوعات العلمية الرصينة كمصدر رفيع وموثوق للمعلومات، فمن ذَا الذى يستطيع أن يجادل فى قيمة الموسوعة البريطانية التى تربينا على حروفها الصغيرة وأسطرها المتلاصقة وصفحاتها نصف البيضاء؟ من ذَا الذى اشتغل بالبحث العلمى ولم يحرص على أن يذيل تحليله بإحالات لتلك الموسوعة القيمة فى إشارة إلى أنه تقصى الأمر من جذوره ورده للأصل؟. لاحقا تطور الأمر من الكتابة الذاتية للمواد الموسوعية إلى الصناعة الذاتية للأخبار، وأصبح المواطن هو نفسه مصدر المعلومة كما يراها لا كما هى بالضرورة، وواكبت هذه الظاهرة ــ أى ظاهرة المواطن الصحفى ــ معظم الأحداث الكبرى والكوارث الطبيعية.

ومع ذلك فالقضية أكبر بكثير من بطة عاصفة الصحراء أو موسوعة ويكيبيديا أو المواطن الصحفى، القضية أن حجم التلاعب بالصور والمعلومات والأحداث فاق كل حد حتى لم نعد نصدق شيئا ولا نثق فى شىء، وساعد على ذلك التطور المذهل فى الثورة الاتصالية وصناعة الفوتوشوب. صحيح أن تزييف الوعى عن طريق الإعلام ليس بالظاهرة الجديدة بل هو حاضر دائما فى الصراعات السياسية ونموذج جوبلز مهندس الدعاية لهتلر غنى عن البيان، لكن المثير أن التلاعب بالوقائع أصبح مطروقا فى الحياة اليومية دون ما حاجة حتى لتحقيق أهداف كبرى كبلبلة الخصم أو النيل من حالته النفسية فى خضم معركة حربية أو صراع سياسى. خذ مثلا تلك الصورة الساذجة التى نشرتها صحيفة مصرية قبل سنوات للرئيس السابق حسنى مبارك وهو يتقدم عددا من رؤساء العالم للإيحاء بأنه أعلى منهم شأنا وكانت الصورة الأصلية غير ذلك بالمرة، ما أهمية مثل هذه الصورة وما الداعى لإعادة تركيبها؟ ما دلالة خطوة للأمام أو خطوة للخلف فى تحديد مواقع الدول وأقدار الحكام؟ إن ما هو أكثر إثارة للدهشة من نشر مثل هذه الصورة كان موقف أعلى مسئول فى الصحيفة الذى بدا وكأنه فوجئ بدهشتنا إن لم يكن استنكرها!.

أذكر حين دخل التلفزيون بيتنا لأول مرة فى عام ١٩٦٠ لم يكن مسموحا لى بمتابعة هذا الوافد الجديد إلا بقدر، وعندما كنت أذهب إلى المدرسة وتمطرنى صديقاتى بحكايات مسلية من برنامجى المفضل «حدوتة قبل النوم» وأنا ليس لدى ما أحكيه فى المقابل كان يتمكن منى الشعور بالمظلومية وأيضا بالغيظ إلى أن جاء اليوم الذى قررت فيه أن أتصرف معهن بندية تامة. قصصت على صديقاتى قصة خيالية من بنات أفكارى وادعيت أننى رأيتها بالأمس فى برنامج«حدوتة قبل النوم»، حتى إذا ما تبادلت الصديقات النظر فى دهشة لأنهن لم يرين شيئا من ذلك على شاشاتهن رددت عليهن فى ثقة مزعومة «إن كل التليفزيونات لا يشبه بعضها البعض بالضرورة وما أراه أنا ربما لا ترونه أنتن»!!. ولم أتصور أبدا أن ما كنت أجارى به صديقاتى وأنا طفلة أصبح حقيقة واضحة وضوح الشمس فى عصرنا حتى لكأن لكل واحد منا شاشته الخاصة وتلفزيونه الذى لا يشبه ما عداه. يكون الحدث واحدا فى الزمان والمكان والتفاصيل لكن تُنسج له ألف رواية تختلف باختلاف القناة أو الصحيفة أو الموقع الإلكترونى يلونها صوت المذيع والصور المصاحبة وأيضا الصور المحذوفة والكلمات المنتقاة بعناية وفى أحيان كثيرة بخبث.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل