المحتوى الرئيسى

مواطن.. ووزير.. ومحافظ

02/08 20:51

بيوت مصر كأوراق الشجر.. بعضها أخضر مملوء بالحياة، وبعضها أصفر يعانى سكرات الموت، وبعضها بنى داكن، حرقته الأيام، وقذفته رياح الفقر إلى بحار الجوع والحرمان والعدم والندم..

بين 3 بيوت مصرية تنقلت.. بيت وزير وبيت محافظ وبيت بائع مناديل.. للوهلة الأولى تصورت أن الفارق بين الثلاثة سيكون كالفارق بين السماء والأرض، وبين نعيم الجنة ولهيب النار.

ولكن وجدت شيئاً آخر تماماً.. فلم أجد جنة فى بيت الوزير والمحافظ ولم أجد ناراً فى منزل بائع المناديل.. وإنما وجدت خيطاً رفيعاً يربط البيوت الثلاثة، وهو الشكوى والألم!

البداية كانت مع اللواء محمد أبو شادى، وزير التموين فى حكومة الدكتور حازم الببلاوى عام 2013، والذى ظل وزيراً حتى تغيرت وزارة الببلاوى عام 2014 وخلفتها حكومة إبراهيم محلب.

وبادرت الوزير السابق «أبو شادى» واصفًا الصورة الذهنية لدى عامة المصريين عن حياة الحكومة، وكيف أن أغلب المصريين يتصورون أن الوزراء يعيشون فى الجنة، حيث النعيم الذى لا ينقطع، فلا تعب ولا هم ولا حزن ولا نصب.. وحيث كل الأحلام تتحقق فى لمح البصر، وكل المطالب تنفذ فورًا.. وحيث لا توجد منغصات للحياة، وحيث لا ألم ولا دموع، ولا شىء غير السعادة.

وقبل أن استكمل كلامى قاطعنى الرجل ضاحكاً وقال «ليه دا كله».. ثم عاد للضحك لثوان وقال: «الوزير فى مصر مجرد موظف، ويخضع لقانون المرتبات والمعاشات، ومرتب الوزير يكفل له مستوى جيد من المعيشة، ولكنه لا يجعله متميزاً».

وأضاف: «أعرف وزراء كثيرين خسروا مادياً بسبب قبولهم المنصب الوزارى، وفى اجتماعات مجلس الوزراء كان البعض يتندر على رواتب الوزراء مقارنة برواتب بعض مقدمى البرامج فى الفضائيات، وعندهم حق، فراتب بعض هؤلاء فى الحلقة الواحدة يعادل راتب الوزير فى شهر كامل.

- فقال: عندما كنت وزيرًا، كان راتبى 30 ألف جنيه، ولكنى لم أكن أحصل على هذا المبلغ، فكان يخصم منه 4 آلاف جنيه ضرائب وخصومات مختلفة أخرى، وكل ما كنت أحصل عليه هو 26 ألف جنيه شهرياً، وعندما تركت الوزارة بعد عام كامل، كان معاشى الشهرى 3 آلاف جنيه.

- فقال بغضب ممزوج بالحزن: نعم.. رغم أن مدة خدمتى فى الوظيفة العامة تصل إلى 40 عامًا كاملاً، تدرجت خلالها من ملازم شرطة حتى لواء، ثم مساعد لوزير الداخلية، ووكيل أول لوزارة الداخلية، وبعدها قضيت 3 سنوات رئيسًا لقطاع التجارة الداخلية فى وزارة التموين، ثم مستشار لوزير التموين لمدة 18 شهرًا، ووزير لمدة عام.. وبعد هذا المشوار الوظيفى الطويل، لم يتجاوز راتبى 3 آلاف جنيه.

- فأجاب: الوزير له أوجه نفقات عديدة يفرضها عليه منصبه، منها المجاملات والهدايا وغيرها، ولهذا كما قلت من قبل، الراتب يكفل حياة كريمة ولكنها ليست متميزة، ولكن عندما صار دخلى 3 آلاف جنيه معاش، أنفقته كله على بند واحد فقط وهو تعليم ابنتى الطالبة بإحدى الجامعات الخاصة، والحمد لله أن ابنى الاثنين انتهيا من تعليمهما.

- ضاحكاً: أسحب على المكشوف من مدخرات السنين الماضية.

- يعاود الضحك: زيادة معاشات الجميع، لأنه هذا سيؤدى لزيادة معاشى، أما زيادة رواتب الوزراء فمينفعش أبداً فى الظروف الحالية، التى يوجد فيها ملايين المصريين تحت خط الفقر.. وعمومًا رواتب الوزراء أفضل كثير جدًا من غيرهم، وعلى الوزراء أن يجعلوا معركتهم الأساسية هى النهوض بالاقتصاد الوطنى وليس زيادة رواتبهم.

- المشكلة فى مصر، أن المصرى أصبح مستهلكًا عالميًا.. فمصر تستورد 100% من الآلات والمعدات الاستثمارية، و60% من الغذاء، و50% من مستلزمات الإنتاج، وهذا كله يتم شراؤه بالعملات الصعبة، وهكذا يشترى المصرى بالأسعار العالمية كل ما يستهلكه، فى حين أن رواتب المصريين بعيدة كل البعد عن الرواتب العالمية، ومن هنا جاءت الأزمة التى يعانى منها كل المصريين حالياً.

- أن نهتم فورًا بالزراعة، من أجل أن نخفف الضغط على الاستيراد ونوقف استنزاف العملات الصعبة.

- لأن إقامة صناعة قوية يحتاج إلى استيراد معدات من الخارج، والخارج لن يعطينا معدات حديثة، ولهذا يجب أن نبدأ بالزراعة، ونتخصص فى صناعة أو اثنين يكون لنا فيهما ميزة نسبية، ونسعى فورًا بقوة لتحقيق اكتفاء ذاتى من المنتجات الزراعية والإنتاج الحيوانى وبعد ذلك نتوسع صناعيًا، وأنا أقول هذا الكلام مستندًا لخبرتى الاقتصادية التى أزعم أنها غير قليلة، خاصة وأنا رئيس قسم الاقتصاد بكلية الشرطة.

- ليس معنى ذلك أننا سنظل محلك سر حتى نحقق هذه القفزة، ولكن يجب أن نتخلص من عيوب إدارة الأزمات التى تحدث فى مصر حاليًا.

- يجب على الجهات المسئولة عن السلع أن تحافظ على مخزون استراتيجى من كل السلع لمدة لا تقل عن 3 شهور، على أن يكون المخزون الاستراتيجى من القمح يكفى لـ 6 شهور.. أما الآن فلا شىء من هذا يحدث، وأتعجب من سر عدم تدخل الحكومة فى التصدى لارتفاعات الأسعار، فلماذا لا يلتقى وزير التموين أو وزير الصناعة أو حتى رئيس الحكومة مع الصناع والتجار، ومع مسئولى الغرف التجارية واتحاد الصناعة والمنتجين لكى يضعوا حدًا لاشتعال الأسعار الذى لا يتوقف والدليل ما يحدث فى أزمة الأرز حالياً.

- لا أعرف.. وهذا أمر يثير العجب.. وأيضًا ما يحدث مع أزمة الأرز مصيبة تانية.

- وزارة التموين تمتلك 7 شركات مضارب، كل شركة منها تضم أعضاء مجلس إدارة ومديرين وموظفين والجميع يحصلون على رواتبهم شهريًا، والغريب أن المضارب السبعة بلا تمويل منذ سنتين وبالتالى لم يشتروا حبة أرز واحدة، فكيف تنفق الوزارة عليهم مبالغ كبيرة كرواتب ثم تتركهم بلا عمل يؤدونه، ولهذا تركوا السوق خاليًا للتجار ليعملوا فيه ما يحلو لهم، ولهذا قفزت الأسعار بشكل كبير.

تركت وزير التموين السابق محمد أبو شادى والتقيت الدكتور أسامة حمدى محافظ كفر الشيخ السابق.. وهو أحد سكان التجمع الخامس، وكان أول أسئلتى له: هل وصل الغلاء لطبقة الوزراء والمحافظين؟.. فقال: الغلاء أثر على المستوى المعيشى لكل المصريين من قمة الهرم الاجتماعى حتى قاعه.. الفارق أن أهل القمة تضرروا ولكنهم قادرون على تحمل الضرر الذى أصابهم، غير أن هناك الكثيرين من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة لا يمكنهم تحمل الضرر الذى لحق بهم بسبب الزيادات فى الأسعار.

- د. أسامة حمدى: ما كنت أنفقه قبل الغلاء الأخير، زاد الآن بنسبة تصل إلى 70%.. وعندما كنت محافظًا كنت أحصل من المحافظة على 1500 جنيه شهريًا، وكنت أحصل من مجلس الوزراء على مكافأة شهرية، ترفع ما كنت أتقاضاه شهريًا إلى حوالى 30 ألف جنيه.

والآن بعد الزيادة فى الأسعار تغيرت بنود الصرف بشكل كبير.. فقبل أن أكون محافظًا كنت أستاذًا بكلية الهندسة جامعة عين شمس، وكان لدى مكتب استشارى هندسى، وهو ما أتاح لى دخلاً ماديًا، مكننى من تعليم أبنائى تعليمًا متميزًا فى جامعات أجنبية.

وطوال عمرى لم أحمل الدولة أية أعباء، فلم أحصل على سلع تموينية قط، ولم أحمل الدولة مصروفات تعليم أبنائى فى مدارس الحكومة لأننى ألحقتهم بمدارس خاصة ثم جامعات خاصة، وطبعًا الجامعات الأجنبية، مصروفاتها بالدولار، وبعد تعويم الجنيه، قفز ما كنت أدفعه فى التيرم الدراسى الواحد بالجامعة لأحد أبنائى من 46 ألف جنيه إلى 200 ألف جنيه، بل إن حفيدى الصغير التلميذ فى مدرسة خاصة أجنبية كان يسدد 5 آلاف جنيه استرلينى، وهو ما كان يوازى 50 ألف جنيه، الآن زادت قيمته إلى أكثر من 150 ألف جنيه.

- مصروفات الأكل والشرب والملبس زادت بما يتراوح بين 60% و70% وتحملت هذه الزيادة، ولكن كنا من قبل زيادة الأسعار، نقوم برحلات خارج مصر وداخلها.. كنت فى العام أزور 6 أو 7 دول أوربية، وكانت السفرية الواحدة تكلفنى حوالى 10 آلاف دولار، الآن هذا المبلغ صار يعادل 200 ألف جنيه، وطبعاً تم إلغاء بند السفر للخارج تماماً، وكانت ابنتى تسافر أسبوعًا أو أكثر للعين السخنة، وهو ما كان بتكلف حوالى 35 ألف جنيه، فى الفترة الأخيرة، قالت ابنتى من نفسها «مش طالعة العين السخنة»..

ومن جانبى أحرص على أن أقول لأسرتى رشدوا فى كل شىء.. رشدوا فى الكهرباء والمياه واستخدام الإنترنت، وهكذا..

- من مدخرات السنوات الماضية.

- هذه المواجهة ليس فى استطاعتهم، ولهذا فهى دور كل القادرين فى مصر، فعلى كل قادر أن يزيد من تبرعاته ومن زكاته إلى الضعف ليساند فقراء مصر، لأن هؤلاء بالفعل يعيشون مأساة، فدخولهم قليلة ومحدودة، والدولة عاجزة عن توفير حياة كريمة لهم، ومعنى الحياة الكريمة أن يجدوا طعامًا يقيهم شر التسول، وعندما يمرضون يجدون مستشفيات توفر لهم خدمة طبية معقولة.. وللأسف هذا كله غير موجود حاليًا، بسب تراجع الدخل القومى بشكل كبير، مقارنة بعدد السكان.

- الأرقام مفزعة.. وقبل أن أتولى محافظة كفر الشيخ، كنت أقيم فى التجمع الخامس ومكتبى فى منطقة شيراتون، وعملى فى جامعة عين شمس بالعباسية، وكانت تنقلاتى محصورة بين الجهات الثلاث، حتى الخادمة التى كانت تعمل فى المنزل كانت تتقاضى 150 جنيهاً يومياً، لهذا لم أكن أعتبرها فقيرة، ولكن عندما توليت محافظًا لكفر الشيخ رأيت بعينى كيف يطحن الفقر كثيرًا من الناس.

- مصر ليست دولة فقيرة.. الدولة التى يوجد فيها ثلث آثار العالم، وفيها 7 بحيرات صناعية، وتطل على بحرين، وفيها مساحات صحراوية شاسعة، وتمتلك 90 مليون مواطن أغلبهم من الشباب.. الدولة التى تمتلك كل هذا ليست دولة فقيرة.

وأيضًا الدولة التى يوجد فيها لاعب كرة يحصل على 10 ملايين جنيه سنويًا، وممثل يحصل على50 مليون جنيه فى فيلم أو مسلسل واحد.. دولة يحدث فيها ذلك لا يمكن أن تكون فقيرة.

- الفساد المال العام.. ولو تم تقليل حجمهما فستنطلق مصر بسرعة كبيرة، وإذا كان هذا يحدث لمجرد تقليل الفساد وإهدار المال العام، فلك أن تتخيل حالنا لو تم القضاء على الفساد تماما، ولو توقف إهدار المال العام.. عندها سيكون الطريق ممهد لمصر لتكون فى مصاف الدولة العظمى.

وبداية انطلاق مصر ستتحقق عندما يتم زراعة الأمل فى نفوس الشباب ومنحهم فرصة المشاركة الكبيرة فى إدارة شئون البلاد، وعندما كنت محافظًا عينت رئيس قرية عمرة 28 سنه ورئيس مدينة عمره 35 سنة، وحتى الآن يقدم الشابان نموذجًا رائعًا فى العمل والعطاء.

- بالعكس أرفضها بشدة.. وكنت أتمنى لو تعلن الحكومة تخفيض رواتب الوزراء والمحافظين فعدد كبير من الوزراء الحاليين ليسوا فى حاجة لرواتبهم أساساً، ولن يفرق معهم زيادة رواتبهم أو بقاءها على حالها، مثلاً الدكتور محمد شاكر وزير الكهرباء يمتلك أكبر مكتب استشارى، وكذلك الدكتور مصطفى مدبولى وزير الإسكان.. أما المحافظون فنصفهم تقريباً لواءات يحصلون على رواتبهم من الشرطة أو الجيش.

ثم كيف نرفع رواتب الوزراء والمحافظين بينما يعيش بيننا مصريون لا يستطيعون شراء دواء البرد أو السخونة، وهى أقل الأدوية سعراً.. فما بالنا بالأدوية الأعلى سعراً.

انتقلت من عالم الوزراء والمحافظين إلى دنيا المواطنين.. والتقيت «السيد أحمد» مواطن مصرى يقيم مع أسرته فى محافظة الفيوم..

ملامح الرجل توحى بأنه عرّك الحياة وعركته، وعركت معه أسرته التى تضم الزوجة و3 أبناء..

الرجل السبعينى أصيب منذ 18 عاماً بكسر فى العمود الفقرى أقعده طريح الفراش وحرمه من ممارسة أى عمل.

الأسرة كلها لا تملك من حطام الدنيا سوى 80 جنيهًا هى كل دخلها.. هذه الجنيهات تنفقها لا تكفى سوى لشراء الخبز، ومع ذلك لا تأكل «العيش حاف»، وإنما طعامهم الرئيسى والدائم والذى يتناولونه مع الخبز صباحًا ومساء هو الملح و«الدقة»!

وبعد مرض الزوج صارت الزوجة «أم أحمد» هى عائل الأسرة، وراحت تفكر فى كيفية الحياة بـ 80 جنيهاً، وهداها تفكيرها إلى شراء اللفت وتخليله، لكى تنوع فى طعام الأسرة بين «الدقة» واللفت المخلل.

ولأن المصريين «جدعان» إلى أقصى درجة رق قلب الجيران لحال أسرة «أم أحمد» وكان أحد هؤلاء الجيران سيدة ميسورة الحال، سارعت بتقديم ما تيسر من بطاطس وأرز، وهكذا عرفت الأسرة طعم أكلات أخرى غير الملح والدقة واللفت المخلل.

ولكن من قال إن الطعام هو الهم الوحيد لأسرة «أم أحمد» فمصروفات المدرسة وشراء الكتب لأطفال الأسرة الثلاثة أمراً صار فوق قدرة الأسرة، فكان القرار منع اثنين منهم من استكمال تعليمهما، والاكتفاء بتعليم الابن الأكبر فقط الذى أوشك على الحصول على دبلوم الصناعة.

وبدون مناقشة تم التنفيذ وترك الطفلان مدرستهما رغم أنهما كانا من بين التلاميذ المتفوقة دراسيا بشهادة معلمى مدرستهما، بل إن أحد الطفلين كان يحفظ القرآن كله رغم أنه لم يكن قد وصل بعد إلى الثانية عشرة من عمره.. ولكن ما باليد حيلة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل