المحتوى الرئيسى

إسماعيل عبد الحافظ .. أبو الدراما الشرعي

02/08 09:26

في أحد أحياء مدينة دمنهور كان المذياع يعيد ذلك البيان الذي ألقاه أنور السادات ظهيرة يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 52، بينما كان الصبية الذين طرقوا أبواب الشباب يحتفلون بحركة الجيش، ومعهم صاحبنا إسماعيل عبد الحافظ ذو ال11 عاماً ، ربما يكون هذا الإحتفال الصغير قد جمع شاباً أخر بنفس العمر اسمه أسامة أنور عكاشة، ربما هتفا سوياً، وصافحا بعضهما مهنئين دون سابق معرفة ثم انصرفا ليعود كلاً منهما إلى قريته دون أن يعلما أنهما على موعد بلقاء لن ينتهي طيلة عمر بأكمله.

يجيد ما يفعل أياً كان، وحتى إن لم يحبه، هذا هو المبدأ الذي اعتنقه إسماعيل عبدالحافظ منذ نعومة أظافره، لذلك تصدر ترتيب دفعته في كلية الأداب قسم اللغات الشرقية، ولكنه رفض التعيين في الجامعة، والتحق بالتلفزيون الوليد وقتئذ ليعمل مساعداً للإخراج.

أجبرته ذاكرته في خطواته الأولى داخل المبنى على العودة إلى شجرة توت عتيقة على ضفاف ترعة مجاورة لبيته، حدثها لمدة 20 عاماً سبق عن أحلامه، كتب على أعلى فروعها قصصاً ومواقف أراد أن يحفظها من النسيان، عشق تسلقها ومتابعة جريان الماء في ممره من أماكن مختلفة، وها هو الأن على عتبات الحلم الأكبر في عام 63، بينما أتم عامه الثاني والعشرين.

لم يرتبك نهائياً أمام نجومية إسماعيل يس بطل أول المسلسلات التي عمل فيها تحت إدارة المخرج عمر بدر الدين، في مسلسل “إسماعيل يس دكتور”، ولكنه داخل الأستديو أدرك أنه وجد نفسه، وأن الدراما لابد أن تتغير، لم يعرف ساعتها كيف، لكن الحلم قد انطلق ولن يتوقف إلا بتحقيقه

ألتقى إسماعيل عبد الحافظ وأسامة أنور عكاشة مرة أخرى عام 76، بالتأكيد لم يتذكرا اللقاء الأول، لكنهما صنعا سوياً أول مسلسلاتهما وهو “أسوار الحب”، صافحا بعضهما مهنئين ولكنهما لم ينصرفا تلك المرة بل عكفا على المسلسل، ليعطيا فرصة للروحين أن تمتزجا، ولحلم التغيير أن يختمر، تعددت لقائتهما في مقاهي القاهرة الشعبية، صار الشاي بالنعناع رفيقهما الثالث، وصار ضجيج المقاهي شريط الصوت الذي يفضلان سماعه، غضبا سوياً بزيارة السادات للقدس، وخرجا يهتفا ضده هذه المرة، ثم عادا ليقدمان أول ملاحمهما سوياً في “الشهد والدموع”، فضحا ما يسمى بالإنفتاح الإقتصادي، واشارا إلى شرف تكاد الظروف الإجتماعية أن تقتله، وحصدا نجاحاً كبيراً في الجزئين، قبل أن يقررا تغيير وجه الدراما التليفزيونية للابد.

لم يكن مسلسل “ليالي الحلمية” مجرد “تمثيلية” لطيفة، بل ثورة تلفزيونية غيرت مفهوم المشاهد عن الدراما، وأعطى لها قيمة فنية كانت تفتقدها، وقدما من خلاله عشرات الوجوه التي أعادا تشكيلها،ولد صلاح السعدني من جديد، وعرف يحيى الفخراني طريقه الجديد، وتألقت صفية العمري كما لم تتألق من قبل، وعرف الجمهور نجوما مثل سيد عزمي وفتوح أحمد وسيد عبدالكريم، وارتبط المشاهد بتلك الملحمة التي استمرت خمسة أجزاء وعرضت ما بين عامي 87 و95، وصارت شخصياتها جزء من ثقافة المجتمع لدرجة أن يربط الناس الشهامة و”الجدعنة” بزينهم السماحي، والرقي الأرستقراطية ب”سليم باشا”، ولا يزعجهم تغير الممثل الذي يؤدي الدور كما تركت أثار الحكيم دورها لتؤديه إلهام شاهين، فقط بقيت الشخصية بمهارة مخرج وعظمة كاتب، وخسر كل من ترك، وربح من أتى.

استمر إسماعيل عبد الحافظ في تحقيق حلمه بمسلسلات أخرى مثل “الوسية”، و”خالتي صفية والدير”، و”كناريا وشركاه”، و”الأصدقاء”، وكأنه آلة لضخ النجوم فبعدما قدم ممدوح عبدالعليم، قدم لنا أحمد عبدالعزيز ثم صابرين في “أهالينا”، ثم فاروق الفيشاوي ثم سميرة أحمد، ومحمد وفيق، وكأن المشاهد يلتقي بهم للمرة الأولى، يقدمون معه ما لايقدمونه مع غيره، وكأنه تلقى السحر على جذوع شجرة التوت في قريته، حتى وصل أخر محطاته مع ملحمة “المصراوية” بصحبة رفيق الطريق أسامة، عانيا كما لم يعانيا من قبل، هوجما وحوربا بكل ما يملك الحاقدون من إمكانيات، ليحققا نجاحاً أقل، أصابها بالإحباط، مع التحول الرهيب في الدراما والذي قادا خطواته الأولى ليجدا نفسهما خارجه، أعطيا الدراما قيمتها، ليلتقطها أصحاب راس المال وتتحول إلى مسخ يسعى صانعوه خلف الربح والمال، بغض النظر عن اي قيمة، قادا الثورة وخرجا خاسرين مثل كل من ثاروا في يناير

وفي الثامن والعشرون من مايو 2010 فقد إسماعيل عبدالحافظ رفيق الطريق وشريك الروح، رحل اسامة أنور عكاشة، وبكاه صديقه في مأتمه، بكاه كما لم يبكي من قبل، وعاد إلى قريته ليخبر شجرة التوت بسره الأخير، أن جزء من الروح قد مات، وأن الجسد لن يحتمل كثيرا هو الأخر، كان أكثر حظاً من شريكه فحضر الثورة  في يناير والتي بشرا بها سوياً، لم يحتمل ما تبقى من الروح فشل هذه الثورة أيضاً، فسقط الجسد منذ أيام، بعد رحلة معاناة مع المرض والتجاهل التام من الدولة لقيمة الرجل الذي باع ابنائه جزء من أثاث بيته ليسافر إلى الخارج للعلاج، وصباح الخميس 13 سبتمبر عادت الروح إلى بارئها، ليلتقي بنصفه الأخر، من جديد، لينالا حقهما للمرة الأولى كما يستحقاه، رحلا ولكنهما باقيين للابد ….ولتسعدا سوياً في السماء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل