المحتوى الرئيسى

الحريات والأمن القومي: نقطة التماس ودائرة التداخل "1"

02/07 22:31

قامت الدولة القُطرية الحديثة لصيانة المصلحة القومية لرقعة معينة من الجغرافيا يسكنها نفر معين من الشعوب، ولكن قيام الدولة نفسه أو الكيان السياسي الحاكم يرجع في أصله لارتضاء جماعة من الناس لمفهوم المجتمع السياسي، كما يشير إلى ذلك المفكر السياسي كانط في نظريته للعقد الاجتماعي.

ولعل من بنود ذلك العقد أن الأفراد سيقومون بالتضحية ببعض حرياتهم الشخصية في سبيل تكوين المجتمع أو الأمة، فإلى أي مدى إذاً ستكون تلك التضحية؟ وما هو وجه التضاد أو التداخل بين الحريات المدنية والأمن القومي في واقعنا المعاصر؟

ينقسم منظّرو الدولة فيما يخص نقاش الحريات المدنية والأمن إلى قسمين: أحدهما يرى في الحرية أمراً مقدماً على الأمن القومي، والآخر يرى في الأمن أسبقية على الحريات، لكننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نجزم بأهمية أحدهما بمعزل عن عاملَي الزمان والمكان.

في الوقت الذي تتعرض فيه الأمة لخطر داهم، يبرز الأمن كعامل رئيسي قد يستدعي الحَجر على بعض الحريات الأساسية للشعب، كما حصل إبان الحرب العالمية الثانية في دول التحالف، وبالأخص الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين حظرتا حرية التعبير فيما يخص مهددات الأمن القومي، أو كما حصل حديثاً في الولايات المتحدة الأميركية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

أما في أوقات السلم، فإن الحريات المدنية تبلغ أقصى مدى لها لدرجة مناقشة قضايا الأمن القومي على الهواء الطلق، وانتقاد بعض السياسات الحكومية الأمنية، كما أن الوقت عامل مهم في جدلية الحريات في مقابل الأمن، فإن هنالك محددات أخرى تدخل في فهم الجدلية، وفهم كيفية التعامل مع الإشكال إن وُجد.

الدستور هو الحامي الأول للحريات في الديمقراطيات الحديثة أو الجمهوريات (Republics)؛ حيث يحدد سلطات الحكومات ويضبط سياساتها، إذا انتقص قانون ما من أحد الحقوق المكفولة بالدستور، فإن واجب السلطة القضائية هو حماية الحقوق الدستورية في وجه الجهازَين التشريعي والتنفيذي.

إن حماية الحريات هي في حد ذاتها تحكم في طبيعة تلك الحريات، بمعنى آخر أن حالة الحرية لا تعني بشكل من الأشكال رخصة مفتوحة لا تخضع للتنظيم، كما يقول جون لوك، في كتابه الأطروحة الثانية للحكومة: "حالة الطبيعة يحكمها قانون الطبيعة" (The state of nature has a law of nature to govern it)، لكن الحماية الدستورية تخضع بشكل كبير لتقديرات القاضي المختص، وبالتالي فإن الواجب أن يكون القاضي عالماً بديناميكية تغير الحكم، وفقاً للوضع الراهن الذي يراه.

وقبل الدستور علينا أن نشدد على وجودية الأمة نفسها، فالدستور يفقد فاعليته إذا انتفت الأمة أو تهدد وجودها، وإذا كان الدستور هو صيانة لحقوق الأمة، فإن الأمن أيضاً صيانة للأمة والدستور، وهنا يبرز التساؤل عن كيفية تحديد المهدد الذي يستدعي تقديم الأمن على الحريات، ومن يحدد بالضبط تلك الأسبقية؟

من الأخطاء الشائعة أن يتم ربط مفهوم الأمن القومي بالحكومات أو مؤسسة بعينها؛ حيث إن الأمن القومي مفهوم مرتبط بالأمة كلها، كما أن الحفاظ على الأمن القومي مسؤولية مشتركة تقع على كاهل الشعب كما تقع على الحكومة؛ بل إن سياسة الأمن القومي تستدعي مشاركةً ووعياً شعبيَّين؛ إذ إن الشعب هو خط الدفاع الأول عن الأمن القومي، ليس هذا فحسب؛ بل إن تعريف الأمن القومي لأمة معينة هو تعريف خاضع لثقافات تلك الأمة ومميزاتها والبعد الذي تتخذه مكاناً ونظاماً سياسياً.

والأمن القومي بالضرورة مستلزم لأمن داخلي وسلام أهلي بين مكونات المجتمع المختلفة، ولما كان الاختلاف أحد مقتضيات سياسة شؤون الناس، فإن حرية الاختلاف والتحاور والتبادل السلمي للسلطة تعد ركيزة للسلام الأهلي، وبالتالي ركيزة من ركائز الأمن القومي للأمة.

إن الحفاظ على نظام حكم يضمن حرية الممارسة السياسية واتساع التمثيل الشعبي لهو صمام أمان لسلام المجتمع نفسه وسلام الأمة، حينها يتسع مفهوم الأمن القومي خارج إطار الحفاظ على حكومة بعينها؛ ليشمل النظام كله.

من هنا نستنتج أن الحفاظ على سلمية العملية السياسية وحريتها هدف قومي، وتهديد تلك العملية هو تهديد للأمن القومي جملةً.

ولكن يعترض هذا التفسير سؤال مهم عن الجهة المنوط بها تعريف محددات ومهددات الأمن القومي للبلاد، إن مدنية المفهوم التي تطرقنا إليها سابقاً تحتم مشاركة واسعة في تحديد مهددات الأمن القومي للبلاد، كما أن طبيعة الدولة الميكانيكية تحتم أيضاً تغيُّر المهددات مع تغير الظروف، الأمر الذي يستلزم توسيع المشاركة رجاء أن تتسع دائرة المسؤولية.

ومن هنا أعني أن وجود مؤسسات تُعنى بأمر الأمن القومي لا يعني الانفراد بصياغة سياسة الأمن القومي، فالأمة مشاركة بممثليها وحقوقها المدنية مكفولة بدستورها وقضاتها من بعد ذلك إذا حصل الخلاف.

إن جدلية الأمن والحريات تستوجب فهم التعقيد الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة المختلفة، قامت الدولة ابتداءً لصيانة المجتمع ومصلحته العليا، التي تشمل أمن الناس وسلامهم المادي والمعنوي، كما أن التاريخ يخبر دائماً أن أمن الشعوب لا يحفظ بكبتها وتقويض الحريات تحت غطاء الخوف.

إن ما أحدثه هتلر لألمانيا إبان الحرب العالمية يعد مثالاً لاستخدام الخوف كمسوغ لانتهاك حرية الشعوب، لكن ذلك الخوف أنتج قهراً وتركيزاً للسلطات في الحكومة، الأمر الذي أدى إلى تلك النتائج الكارثية في ألمانيا النازية، وكما قال السياسي الفرنسي الشهير إدوارد هيريوت: "إن الخوف في السياسة مستشار سوء، كما هو في الأشياء الأخرى".

تحضرني حادثة ماثلة حصلت في السودان إبان انتفاضة أبريل/نيسان عام 1985، حين انتفض الشعب على نظام النميري العسكري.

اشتهر نظام النميري بقوة وبطش جهازه الأمني والمخابراتي، الأمر الذي جعل من أول أهداف الانتفاضة والحكومة الانتقالية حل جهاز الأمن.

لقد مثل حل جهاز الأمن مهدداً أمنياً كبيراً للسودان؛ إذ عاشت الأمة السودانية بلا جهاز استخباراتي يحميها من أجهزة المخابرات الدولية التي وجدت ثغرة في الخرطوم بعد حل الجهاز.

نعم قام جهاز أمن النميري بكثير من التجاوزات في حق الشعب السوداني، لكنه كان يحمي الأمن القومي أيضاً للبلاد. كان ينبغي أن يتم الحفاظ على المؤسسات والوثائق التي تحمي البلاد وأمنها القومي مع محاسبة المخطئين والمتورطين، لكن حل الجهاز دون وجود بديل كان قراراً غير مدروس العواقب ولم يراعي حساسية المؤسسة المعنية.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل