المحتوى الرئيسى

Ahmad Shams يكتب: عرق البلح.. لعنة تطارد كاشفي عورات الوطن | ساسة بوست

02/07 15:15

منذ 1 دقيقة، 7 فبراير,2017

«قرية رحل عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات، وانكشف رعب الشمس».

لا يوجد أفضل وأعمق من تلك العبارة التي أوجز فأبلغ بها رضوان الكاشف في نهاية تحفته السينمائية الخالدة للأبد «عرق البلح».

يأتي المنادي من أقصى البلاد ينادي على أهل القرية فيخرج الجميع في ساحة واسعة ليجدوا الأغراب يدعونهم للسفر والعمل في أرض الذهب الأسود «دول الخليج»، في مقابل الحصول على رغد العيش، وسعة الرزق؛ فيذهب جميع الرجال عدا الشاب أحمد «محمد نجاتي» الذي يرفض الرحيل، ويفضل البقاء بالقرية مع جده العاجز عن الحركة والكلام «حمدي أحمد»، لتصبح القرية خالية من الرجال، ويصبح أحمد هو الرجل الوحيد الذي تسخر منه النساء في البداية، فيحاول جاهدًا أن يثبت لهن أنه على قدر مسؤولية حماية القرية بنسائها وأطفالها ونخلاتها، إلّا أنه يتورط في علاقات آثمة كونه الرجل الوحيد بالقرية.

تسليم الأرواح في أيادي المجهول

انصاع الرجال لذلك الصوت المنبعث من الميكروفون، والذي لم يظهر صاحبه في رمزية إلى المجهول الذي ينادي عليهم، ويدعوهم للسفر وترك القرية بحجة العمل وجمع المال مستغلًا حاجتهم وفقرهم المدقع. فمنهم من يرغب في شراء كردان ذهب لزوجته، ومنهم من يريد بقرة حلوب تدر اللبن لمولوده المنتظر، وآخر يمني نفسه بتجهيز ابنته للزواج، فيقرر رجال القرية الانسياق وراء أحلامهم المزعومة، ولم يفكروا في مصيرهم المبهم الذي ألقوا بأرواحهم بين يديه. ترى أي مجهول ينتظرهم؟ وأي آمال يتطلعون إليها دون أن يلتفتوا إلى ما قد خلفوه بالوطن من أطفال صغار في حاجة إلى رعاية واحتواء، ونساء ساذجات ضعيفات لن يحتملن رعب الشمس عندما يرحل الظل، ونخلات عاليات لن تحمي ثمارها من نهب الأغراب؟ لم يدرك الرجال أنهم يهجرون وطنًا ستتشقق جدرانه، وستتغير ملامحه الأصيلة حتى يصبح عبارة عن صورة ضبابية المعالم أشبه ببيت العنكبوت.

فماذا أيضًا بعد الرحيل؟ هل توقفت الحياة بغيابهم؟ بالطبع لا، أخذت الحياة مجراها بالقرية ولم تتوقف، ولكن جرت على نحو مختلف.

رحل الظل.. فانكشف رعب الشمس

حاولت النساء الاعتياد على عدم وجود الرجل بالقرية، وأصبحن يقمن بمهامه بمساعدة الشاب أحمد الذي جاءته الفرصة لوضع حد لسخرية النساء منه بإثبات قدرته على تحمل المسؤولية في حماية القرية بأكملها، فهو مكلف بالذهاب لقرية مجاورة لاستدعاء فرقة الطبل لإحياء سبوع أحد المواليد بالقرية، فتصطف النساء في لقطة بديعة ويقمن بحياكة وتطريز الثوب الجديد الذي سيرتديه أحمد للقيام بمهمته، ثم تبدأ النساء في تزينه ليصبح في أبهى صورة، وفي هذا المشهد إقرار كل نساء القرية برجولة الشاب أحمد الذي يعود مخيبًا للآمال بسبب رفض صاحب الفرقة دق الطبل والمزمار في نجع تسكنه الحريم دون الرجال! فتقرر بعض النساء التنكر في زي الرجال، وينجحن في الإتيان بالفرقة التي تحيي الليلة مع النساء بالاستعراض الفلكلوري على أنغام ياسر عبد الرحمن، وكلمات «بيبا» للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، تلك الأغنية التي لخصت حال القرية من فرحة وسعادة بالمولود تبدو على سلمى «شريهان» وأم الصغير، كما ظهرت علامات الحزن والقهر على النساء اللاتي يتظاهرن بالقوة والصلابة وهن في غاية الضعف والاحتياج، ويبدو ذلك واضحًا في نبرة صوت العمة سليمة «عبلة كامل»، وفي نظرة عينها ووضع يدها وإيمالة رأسها يمينًا ويسارًا وهي تغني نائحة: «بيبا والصعيد مات.. بيبا خلف بنات»، كما عبرت عن نفس الحالة شفا «منال عفيفي» بكلمات الأغنية أيضًا: «يا أحمد علي النخل راح ضله.. بيع النخيل يا أحمد علي بيع النخيل كله.. بيع نخلنا العالي ولبسني خلخالي»، فهي تعتب على زوجها الرحيل وتتمنى لو كان فضّل البقاء يرعى النخيل، ويجني ثماره ليبيعه وهو بجوارها، وتظل شفا ترقص وتتمايل بجانب أحد الطبالين الذي يدرك لوعتها وحرمانها الأمر الذي يلاحظه بعض الحاضرين أيضًا، حتى تنهار شفا على الأرض معلنة عدم تحملها معاناة الكبت الجنسي بعد الآن، فتقع في الرزيلة مع ذلك الطبال، وعندما يعلم أحمد بالأمر يقرر قتل الرجل ولكنه يفشل للمرة الثانية في محاولة إثبات رجولته للجميع، فيعزم على طلوع النخلة العالية أطول نخلة بالقرية، والتي تطرح البلح الأبيض الذي يستخلص منه الشراب السحري الشاف من كل الأمراض، والجالب للبهجة والسعادة المسمى «عرق البلح»، وينجح أحمد في الإتيان به بعد عناء، وتجتمع بعض النسوة ليلًا فوق سطح أحد البيوت، وتبدو عليهن علامات الحسرة واليأس في لقطة لا تقل في إبداعها عن لقطة تطريز الثوب لأحمد، ولكن هذه المرة يتجرعن ذلك المشروب السحري الذي يمررنه فيما بينهن عساه يروي عطشهن، ولكن العطش الحقيقي يكمن في غياب الزوج والاحتياج له. عرق البلح الحقيقي في وجود الرجال حيث الخلاص من كل المتاعب والآلام، وتنوح إحداهن بحسرة: «وصيت عليا مين؟! وسافرت يا محبوبي وصيت عليا مين؟!… خبط الهوا ع الباب قولت الغايب جاني.. أتاريك يا باب كداب تضرب ع الفاضي!».

لم تُهون تلك الكلمات النائحة على العمة سليمة، كما لم يروِ عرق البلح عطشها، فيغلبها احتياجها وتقهرها شهوتها التي طفحت على جسدها؛ فتقرر الذهاب لأحمد، وتشق له جلبابها معلنة عن رغبتها به فتراوده عن نفسه، ولكنه يأبى بسبب حبه لسلمى التي تمثل معه مصدر الأمل، ومبعث الأمان والحياة للقرية بأكملها، فيحاولان معًا التغلب على جميع الصعاب التي خلفها غياب الرجال عن القرية، فيما عدا عشقهما الذي استوى فلم يعد في مقدورهما الصبر حتى يعود الرجال ويتزوجا؛ فتحمل سلمى في أحشائها جنينًا من أحمد في الوقت الذي يفتضح فيه أمر شفا فتدفعها النسوة للانتحار والخلاص من العار قبل عودة الرجال، يحدث كل هذا على مرأى ومسمع الجد الكبير الذي يعي جيدًا ما يدور في حضرته، ولكنه بلا حول ولا قوة ليأمر وينهي أو حتى يبدي النصح والمشورة! فلا يكون أمامه سوى اختيار الانسحاب والرحيل في هدوء وسلام!

ها قد عاد الرجال ولم يجنوا سوى الذل والهوان في الغربة، ولم يلاقوا غير الآثام والعار بالوطن.

اختزل مشهد عودة رجال القرية في فرد منهم «جمال إسماعيل» وهو في منزله يجلس عاريًا بجوار إناء المياه الذي تنضح منه زوجته لتعمم جسده بالماء، وتزيل عنه آثار شقاء الغربة التي أتت عليهم وعلى ذويهم بالوبال، فمنهم من يجد أن زوجته قد عافت معه الفراش، وآخر يعلم سبب انتحار زوجته، وغيره يكتشف علاقة ابنته سلمى بالشاب أحمد؛ فيقرر الرجال الانتقام من أحمد ظنًّا منهم أنه السبب في تبدل أحوال نسائهم، دون التفكير في السبب الحقيقي وهو قرارهم بالرحيل عن القرية، وغياب الظل عنها؛ مما أظهر عوراتها، وأصبحت مطمعًا كبيرًا وفريسة سهلة لكل القرى المجاورة. يكيدون لأحمد بطلوعه النخلة العالية ليلًا وعندما يستقر فوقها يتناوب عليها الرجال بالضرب من الجذور فتخرج النساء في مسيرة مهيبة يحملن شعلات النيران رفضًا لتلك الجريمة الجديدة التي ينفذها الرجال وهم لا يدركون أنها جريمة أخرى تضاف إلى جريمتهم الكبرى بتسليم أرواحهم للمجهول، جريمة التخلي عن الوطن، جريمة تحميل النساء ما لا يطيقن، جريمة القضاء على مبعث الأمل الوحيد بالقرية، تسقط النخلة العالية غير عابئين بأهميتها ولا ببلحاتها النادرات، ويظهر أحمد بلباس أبيض راكبًا فوق ظهر الفرس، ويظهر الجد الكبير من جديد ممسكًا بلجام الفرس، ويأخذ أحمد بعيدًا ويتوارى في الضباب ليعطي هذا المشهد أعظم رمزية جسدت الموت في تاريخ السينما. يموت أحمد، يموت مبعث الأمل والحياة بالقرية.

كيف خلق الكاشف من الفانتازيا وبعض الرموز فيلمًا روائيًّا يعد الأفضل تعبيرًا عن الواقع في تاريخ السينما المصرية؟

استطاع الراحل رضوان الكاشف مؤلف ومخرج الفيلم أن يتناول الواقع برؤية عظيمة غير مألوفة في السينما، إذ جعل من الفانتازيا حياة واقعية تمامًا بقرية بسيطة خالية من الرجال، وجعلك تعيش تلك الحياة بنفسك، لا أن تكتفي بمتابعتها مجرياتها فقط، وساعده على تحقيق ذلك قضية الفيلم التي ارتكزت على محورين هما: هجرة ملايين المصريين إلى دول الخليج العربي بداية من ثمانينات القرن الماضي، ذلك الأمر الذي تحول إلى صداع مزمن في رأس الوطن الذي خشي على ثرواته من الإهمال والتلف، وخشي على عاداته وتقاليده من ثقافات جديدة قد يعود بها الرجال، فلا تتلاحم مع موروثات المجتمع المصري، وتكون النتيجة وطنًا ممسوخًا بلا معالم واضحة. «وقد رسخ الكاشف عادات وتقاليد المجتمع المصري طوال أحداث الفيلم، وستكون موضع مقال آخر مع الحديث عن شخصيات الفيلم فيما بعد بمشيئة الله».

المحور الثاني هو النساء اللاتي يحتجن دائمًا إلى الظل رغم إثبات تماسكهن وقت الصعاب، وصلابتهن عند المحن، وتحملهن الكثير من الأعباء في غياب الزوج.

استخدم الكاشف بعض الشخصيات وأشياء أخرى بالفيلم للترميز والإسقاط على أمور منها:

– شخصية الجد العاجز عن الحركة والكلام يرمز إلى التاريخ والحضارة والثوابت الأصيلة، فظل الجد الكبير طوال الوقت يراقب ويتابع مجريات الحياة في صمت حتى رحل واختفى، في إشارة واضحة إلى اندثار الماضي المجيد!

– شخصية أحمد ترمز إلى البراءة والأمل والمستقبل، فظل أحمد طوال أحداث الفيلم يتطلع لبلوغ قمة النخلة العالية للحصول على بلحها النادر، ومنها يصنع المشروب السحري الذي يشفي المرضى، ويجلب السعادة والفرح.

– النخيل عامة والنخلة العالية خاصة: حيث كان النخيل هنا رمزًا وواقعًا على حد سواء، فهو في الواقع مصدر الرزق بالقرية، ويرمز أيضًا لثروات وخيرات الوطن. وبهذا يعلن رضوان الكاشف رسالته واضحة لهؤلاء الرجال: لديكم كل مقومات الحياة المتكاملة، لديكم التاريخ والحضارة، وعندكم الشباب المفعم بالحيوية، وحولكم الخيرات الكثيرة، فلمَ الهجرة وتسليم أرواحكم للمجهول؟!

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل