المحتوى الرئيسى

Erguig Rachida يكتب: الأحاسيس وعالم المعاني | ساسة بوست

02/06 20:44

منذ 1 دقيقة، 6 فبراير,2017

لكل شيء معنى لا علاقة له إلا بذاتي أنا كإنسان، فأنا الحامل للمعنى وأنا المصدّر له، ما يجعلني أفهم الأشياء بلغتي وقاموسي الخاص. تتعدد الموجودات والمواضيع لكن لا تحمل في ذاتها معنى غير ذلك الذي أعطيته لها أنا كذات يسكنها الماضي وما تركه الألم من آهات أنين، والحقيقة أن كل واحد منا حامل لكل المعاني هو وحده من يمتلك شفرة حلها.

علاقتنا بالأشياء تبدو واحدة، لكن كل واحد يمتلك مبدأ القبول والنفور للأحداث انطلاقـًا من ذاته. فهل العقل من يحدد السلوك ويعطي دلالة للمعاني، أم أن الذات حاملة لأسرار أخرى؟ ألا يمكن القول إن التسليم بالعقل يحجب عنا أسرار الإنسان وحقيقة وجوده وتفرده؟

يبدو أنها حقائق لا يمكن أن تخرج عن ما هو ذاتي، وتاريخ فردي خاص بكل واحد منا.

بين الوجود وحقيقة الوجود معانٍ تجد لها رموزًا في ذاكرة كل واحد منا، هي لغة الذات مع نفسها، هي قاموسها الذاتي، بل سر من أسرارها. فتأخذ المعاني صفة السلوك وتعبر عن نفسها في صيغة الفعل وتكسب للذات صفات أخلاقية معينة، هي معاني خطت في مخيلة الفرد من خلال معاناة مضت وتركت أثرها على مستوى الفكر في شكل دلالات تكون سر كل قبول أو رفض.

كل واحد منا يتكلم عن صندوقه الغامض من خلال عقله بلغة واضحة ليبدو بطلاً في تأليف الأفكار والمنطق. وكأنه لا يمكن أن يبرر وجودها سوى المنطق الزائف في ربط العلاقات فيما بينها. ألا يمكن الحديث عن ربط الأحداث والدلالات، عوض استنباط الأفكار من بعضها بعضًا من أجل الفهم؟

تتكلم الذات عن نفسها في شكل سلوك قد لا يكون له علاقة سوى بما حدث، فما هو ذاتي يستعمل العقل ليصبح موضوعيًا يفرض الاتفاق والإجماع. فلا تستطيع الذات إذن الخروج عن أحاسيسها الماضية ويضللنا العقل ليخفي كل نشاط سواه، وكأنها خدعة من خدع الذات المصدومة في نفسها.

وبهذا المعنى، أكيد ليس هناك من هو شرير والآخر طيب بل هناك من تختار له المعاناة لغة خاصة في فهم الأحداث وسيرورتها. إنها ما يشكل نقطة الاختلاف بين الناس، فهي ما يجعلهم يتكلمون لغة واحدة ولكن بأحاسيس مختلفة.

أكيد إذن كيفما أرى الأحداث وكيفما أفهمها هو الذي يحدد سلوكي، والفهم له قاموس واحد هو التجربة الذاتية وليس العقل والمنطق كما قد نعتقد، غير أن الناس يحاولون إقناع بعضهم بعضًا باستعمال مختلف آليات الحجاج كي نوحد هويتنا الإنسانية باعتبار أن الإنسان كائن عاقل بامتياز كما يقال. ومع أننا في كثير من الأحيان نعرف الخطأ لكننا نقوم به وكأننا نعانده أو نرغب فيه. وما دام الأمر كذلك فما موقع الخطأ من الإعراب؟ هل يمكن أن يكون سوء استعمال للعقل؟ أم أن تفردنا في معاناتنا يفرض علينا البحث عما يوحدنا للتكلم عن إمكانية التواصل فنستعمل العقل كلغة مشتركة؟

أليس كل واحد منا سجين معاناته ولا يتواصل أو يتفاوض إلا معها حتى يظهر أو يخفي ما يريد إلى حينه؟

يتمظهر الإنسان إذن في تصويره الداخلي حتى الآن كأنه الكأس المكسور والذي انتهى صوته مع الزمن لكن أشلاءه ما زالت تمزق أحشاءه بدون رحمة، ومن كثرة الألم يتعلم الإنسان كيف يكون قويًا مستدعيًا قدراته العقلية المذهلة محافظـًا على وجوده في صورة كائن عاقل كما أريد له أن يكون.

عمومًا تعلم الطفل فينا كيف يداوي جروحه بالنسيان أو التناسي رغم قلة حيلته وبساطة فكره. فكبر فينا الطفل المكسور في أحشائنا وعبر عن نفسه في شكل مواقف وسلوكيات، تهجو الزمن والظروف بطريقتها وتفرض حماية نفسها، فكل ذات اختارت لغة العقل لتحسن تواجدها بشكل اجتماعي راق متسامح مع الأحداث، والحقيقة أنها لغة الألم ما يؤدي إلى بزوغ الدلالات والمعاني.

لغة الألم لها ما يبررها، ظروف قاسية استطاعت الخروج في شكل معنى أو موقف استحساني أو استهجاني، فكيف يخرج الإنسان من سجن آلامه وعذابه الأبدي متجاوزًا جدار الأحاسيس السلبية؟ ما السبيل لتحرر الذات من هذه القيود ليتحرر معها العقل؟

إن كل ما هو مفكر فيه أو غير مفكر فيه ليس سوى تعبير عن مجموعة أحاسيس سببتها المعاناة والألم ما زال صداها مدويًا داخل الذات، وكل محاولة لتجاهلها يجعل منه إنسانًا غريبًا عن نفسه وعن غيره، لذلك فالتصالح مع الذات لن يكون إلا بلغتها الخاصة وبفك شفرتها الصعبة.

إنها الذات الغامضة حتى بالنسبة لنفسها، إنه الماضي الذي يتكلم بدون حدود مع أنه داخل قفص المعاناة المطوية عبر السنين في شكل تراكمات، تجعلنا نفهم الأشياء بمرجعتيها. إنها السياق العام لحسن التواصل مع الذات السجينة.

ويشيب ذلك الطفل فينا ويتكلم بلغة السنين ومعاناة السنين ولكن بخبرة أعمق، خبرة أتقن فيها لغة المعاني وبنوع من التمركز حول الأحاسيس الخاصة، يخرج منها بلغة الواقع ليصبغ ذاته بلون أحبه الجميع وبذوق الواقع الاجتماعي، غير أنه في الحقيقة يحمل تفردًا وبصمة خاصة. وهكذا قد خدعتنا من جديد حنكة التجربة الفردية في تقييمنا للأحداث.

من ثم لا وجود لمعنى خارج الذات ولا يمكن القول إن العقل أو الواقع من يصنع المعاني، بل هو الفرد وما صنعته الأحداث من مواقف واتجاهات شخصية، إنه العالم المظلم في كل واحد منا هو الحامل لكل المعاني. لا مجال إذن للحديث عن مفارقات: هذا شرير أو طيب، متخلق أو غير متخلق. لكن كل واحد تصنعه الظروف لتنتج معاني صلبة عنيدة تقهر كل عقل وكل منطق قد يتصارع معها الإنسان لكنها لا تفرض إلا ما أنتجته المعاناة وأنينها، إما كرفض للأوضاع أو كدعوة لأخرى مناقضة تتلاءم بطريقة ما مع الأحداث وستدمجها في هويتها بطابع خاص. ورغم تدخل العقل تطغى عليه الأحاسيس السلبية الماضية والتي كلما لامسناها أعطتنا بسخاء وأقنعتنا بأحاسيس صاخبة ودالة تفرض نوعًا من التفكير دون غيره، فتصبح لغة الأحاسيس لغة الإقناع عوضًا عن العقل.

ولهذا لم يستطع العقل التحكم في الحقد والبغض، بل كان في خدمتها دليلاً على أن لغة الأحاسيس المتوحدة مع الذات هي ما يعبر عن حقيقة هويتها وما يفسر منطقها وسلوكها وجبروتها أو ضعفها. يعمل العقل دائمًا على إخفاء كل منطق خارج عن منطقه.

هكذا تحرك الأحاسيس الإنسان بشكل جنوني وبطاقة رهيبة لا تعرف من أين تتدفق وكيف تعمل وفي أي اتجاه تسير ووفق أي منطق تشتغل. كيف نفهم الأحاسيس المتذبذبة والزئبقية والمستهترة بكل شيء سواها، لا تتقن إلا لغتها الأصلية المستنبطة من كل معاناة معاشة، إنها العالم المعيش والتجربة الذاتية مع الأحداث ما يعطي كل الدلالات والمعاني الفردية. فكيف تخرج الذات المفكرة من سجن الأحاسيس السلبية المدمرة؟

لا بد أن نحسن التواصل مع الذات، لا بد من معرفة معتقداتها التي تحركها والقادرة على رفع مقياس حرارتها الطبيعية، ولفك شفرتها كان لا بد من القراءة الجيدة للأحداث من جديد لنغسل قلوبنا مما علق بها من جراء السنين وآلامها ثم السماح للغة الأحاسيس الخروج من معقلها حتى لا تخدع نفسها وغيرها .

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل