المحتوى الرئيسى

الأحد صباحاً

02/04 20:14

الأحد صباحاً، يوم العطلة الأسبوعية، استيقظت في ساعة متأخرة كعادتي، لكنني هذه المرة لم أشأ أن أبرح فراشي، أحسست بأن شيئاً ما يشدني إليه، أخذت هاتفي وجلست أتصفح الفيسبوك ورسائل الواتساب، أتأمل تلك الرسائل، وكأنها مرسلة إلى شخص آخر ليست لي.

- كيف حالك؟ ما جديدك؟ أين اختفيت؟ اشتقت إليك.. كلمات لم تعد تحرك فيَّ الشيء الكبير، لست بهذا فاقدة للإحساس، إنما لأنني أعلم جيدا أنها لا تعني لهم الشيء كذلك، كلمات فقدت معانيها الصادقة في زمن لم يعد له معنى بالأساس.

قمت أخيراً من سريري متجهة إلى المطبخ علَّني بعد ارتشاف قهوتي يتغير مزاجي إلى الأحسن، قمت بتجهيز الفطور (قهوة، خبز محمص، زيتون وجبن) كما أحبه دائماً، أو بالأحرى كما عوَّدتني أمي عليه.

جلست أمام التلفاز وأنا أتناول فطوري، على الشاشة يعرض فيلم "little miss sunshine"، فيلم أميركي كنت قد رأيته أكثر من مرة، يحكي قصة فتاة صغيرة ترشحت لمسابقة ملكة جمال كاليفورنيا؛ ليرافقها أفراد عائلتها إلى هناك، وأثناء الرحلة جرت الكثير من الأحداث التي وطَّدت العلاقة بين أفراد العائلة.

رغم شربي للقهوة الصباحية ومشاهدة فيلم أحبه زاد سوء مزاجي، ما الذي يحل بي؟ ماذا الذي أريده؟

سؤال ظل يتكرر بذهني مرات ومرات، رنَّ هاتفي، إنها أمي التي تتصل، تحدثت معها ككل يوم، حديثنا لم يكن بالشيق، فنحن نعيد نفس العبارات منذ أكثر من 5 أشهر الآن، لكنه وبطريقة ما يريحني، وكأن تلك الكلمات لها مفعول سحري.

بعد مكالمتي مع أمي، عاد إلى ذلك الإحساس المريع الذي أحسسته منذ الصباح، إنها الوحدة.

الإحساس بالوحدة يمكن يصبح قاتلاً في بعض الأحيان فلكم دفع هذا الإحساس المريع الكثير من الناس إلى الانتحار، هذا ما كان يدور في ذهني، فكيف لي يا ترى أن أتخلص منه؟

الخروج من المنزل والذهاب إلى أكثر مكان مزدحم بالناس.

ارتديت ملابسي أخذت سيارة الأجرة وذهبت إلى المركز التجاري؛ حيث المئات من الناس يدورون ويدورون في دوائر مغلقة، أمام المحلات العشرات من الناس يتبضعون.

دخلت إلى محل لأشتري شيئاً علَّ ذلك يفرحني ولو قليلا ألا يقولون إن التبضع يريح نفسية النساء، بعد خمس دقائق من تفحص المعروضات بالمحل اخترت فستاناً جميلاً، أخذته وذهبت به إلى غرفة قياس الملابس، صف طويل أمامها أكثر من عشرين شخصاً يقف أمامي، وقفت لأكثر من نصف ساعة وأنا أنتظر دوري؛ لأقيس هذا الفستان، طفح الكيل رميت به في أقرب سلة وخرجت.

اتجهت إلى أقرب مقهى بالمركز التجاري، جلست بطاولة، كانت الطاولة الفارغة الوحيدة هناك، كان أمامي طاولات عدة يجلس عليها الكثير من الأشخاص، بعد مدة وجيزة جاء إلى النادل ببطاقة الطلبات قبل أن يذهب قلت له أنا أعلم ما الذي أريده بالضبط؟ قال ماذا؟ أجبته أريد فنجان قهوة مرة.

مرت أكثر من 20 دقيقة على طلبي هذا ولم يأتِ النادل أين اختفى؟

قمت لأبحث عنه لأجده وعلى يده عشرات الطلبات وقهوتي ليست ضمنها، سألته فأجابني بأنه سيحضرها على الفور، عند عودتي إلى مكاني وجده قد حجز، جلس ثنائي شاب، فتاة في مثل سني وشاب يكبرها بسنوات، يمسك يدها، وقد ارتسمت على وجهيهما ملامح الحب والوله، فكيف لي أن أقاطع مثل هذا المشهد المعبر الذي يذكرني بوحدتي القاتلة.

نزلت إلى الطابق السفلي؛ حيث الهواء، والرمال والشاطئ، رحت إلى هناك لكي أمشي أملاً في أن يصفي ريح البحر العليل من ذلك التلوث الذي يخنق داخلي.

تمشيت بعض الوقت وجلست بكرسي أمام الشاطئ أراقب الأمواج العاتية التي تلونت بالرمادي إعلاناً عن دخول فصل الخريف، إنها لوحة طبيعية رائعة؛ حيث ترتطم تلك الأمواج بالصخور والرمال لتظهر مدى قوتها، أسمع صوت المد والجزر وأصوات الرياح الخفيفة.. وصوت نباح كلب، أين؟ إنه كلب صغير جميل من النوع المفضل لديَّ، يجري ويلعب رفقة طفلين، بنت وأخيها، ضحكات الأطفال ونباح الكلب زعزعت مشاعري فلقد كنت مثلهما يوماً ما، كان لي كلب وكنت ألعب مع أخي ونضحك، وكانت أمي تأتي لمعانقتي، وكان أبي يحملني على كتفَيه، لم أقوَ على مشاهدة كل هذا، فما زاد الطين إلا بلة وإحساس الوحدة تضاعف بداخلي وانضاف إليه الشوق.

خرجت مسرعة من مركز التسوق إلى الشارع، أمشي بخطى سريعة أحاول أن أبتعد عن هناك قدر الإمكان، إلى أن أحسست بالإرهاق، لم يكن أمامي سوى محطة الحافلات، جلست هناك وحيدة أفكر في كل ما يجري وكل ما جرى لي هذا الصباح، لكن نفس السؤال طرح بذهني: إلى أين سأذهب الآن؟

وقفت حافلة أمامي، آااه حافلات الدار البيضاء..فركبت.

لم يسبق لي أن ركبت حافلة من قبل بالدار البيضاء أسمع عنها الكثير، لكني لم أجربها قط، جلست بالمقعد الأمامي لأراقب وألاحظ كل ما يدور حولي، فهذا كان الهدف من ركوبي، جلست إلى جانبي سيدة مسنة فسألتني: هل هذه الحافلة ستأخذني إلى الحي المحمدي؟ أجبتها لا أعلم، ثم سألتني إلى أين ستذهبين؟ أجبتها لا أعلم.

فعلاً أنا لا أعلم أين ستذهب الحافلة أو إلى أين سأذهب، وهذا ما زاد رحلتي على الحافلة تشويقاً، فأنا سأكتشف كل هذا بعد قليل.

كانت حركة السير بالشوارع البيضاوية خفيفة على غير عادتها تمشي الحافلة ثم تتوقف بالمحطات فينزل أناس ويصعد آخرون، بمحطة درب غلف صعد فتية في مقتبل العمر ترتسم على وجوههم سمات الشر، بعيون حمراء وجاحظة يرمقون الناس بنظرات مرعبة وكأنهم يتوعدون الكل بالعقاب.

جلسوا بالخلف، وفي كل فرصة يصرخ واحد منهم بأبشع العبارات النابية، ما استنتجته هو رصيدهم اللغوي الغني بتلك العبارات.

من درب غلف بدأ مسار الحافلة يبدو مألوفاً بالنسبة لي، اتجهت الحافلة إلى زنقة سمية؛ حيث كان أبي يأخذني معه كل سبت ليشتري اللحوم من صديقه الجزار هناك، ثم عبد المومن حيث كنت أذهب رفقة جدتي -رحمها الله- لزيارة طبيبها هناك، ثم دخلنا إلى شارع 2 مارس أمام مقهى كنت أجلس فيه رفقة أخي لنهرب عن الدرس، ثم وصلت الحافلة إلى زنقة بني مكيل بدرب السلطان، وهنا كانت قصتي أنا وأمي مع أول تجربة لتشذيب حواجبي؛ حيث كنا نأتي يوم الأربعاء من كل أسبوع إلى محل تشذيب الحواجب لتضع رشيدة المختصة سحرها علينا،

من هناك إلى درب سلطان والساحة وقسارية عزيزة؛ حيث كانت دوراتي الروتينية الأسبوعية رفقة أمي منها إلى مخبزه أبو طالب؛ حيث كانت تشتري لي حلوى الشوكولاتة اللذيذة لنزور بعدها خالتها بحي الفرح، بعد كل هذه الأماكن استقرت الحافلة المحطة النهائية "التيرمينوس" حي بورنازيل، سألتني السيدة المسنة: أين نحن؟ قلت لها: بورنازيل، فأجابت: وهل تعرفين هذا الحي يا ابنتي؟

في إجابة لسؤال السيدة المسنة: أجل أعرفه جيداً، فهنا كنت أجري وأنا صغيرة، وهنا كنت أشتري الحلوى مع الأصدقاء، وهنا كنت أركض خلف أخي، فقالت: هل كنت تسكنين هنا؟ قلت لها: لا، ولكن قلبي سكن هنا.

هنا كانت تسكن جدتي زهرة -رحمها الله- يقولون إنني أشبهها كثيراً، أعتقد أنني أخذت الكثير من ملامحها، لكنني لم آخذ شيئاً من حلمها وطيبتها وحنانها فقد كانت حنان العائلة الفائض كانت جدتي.

نزلت من الحافلة لأركب سيارة الأجرة وأعود أدراجي، وفي طريق عودتي وجدتني، في الهروب من الوحدة أتعثر بالذكريات، فتخيلت أن الزمن لم يسلبني تلك الذكريات الجميلة كيف ستكون الحياة؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل