المحتوى الرئيسى

«على هامش الرحلة».. «الوطن البطل» فى مسيرة حياة مواطن

02/03 09:32

• أبو الغار يرصد 6 عقود من التحولات الاجتماعية والسياسية فى مصر

• رفض منحة لدراسة الهندسة النووية فى روسيا واختار «طب النساء» فى القاهرة

«وأعتقد اعتقادا جازما بأن الكثير من كبار الأغنياء المصريين الذين جمعوا ثرواتهم عن طريق المساعدات الحكومية القانونية وغير القانونية، يعلمون ان البلد على كف عفريت ولذا فإن أموالهم فى الخارج وطائراتهم جاهزة للإقلاع وانهم لن يتركوا أراضى وأملاكا واسعة وأكبر إسطبل للخيول فى الشرق الاوسط كما فعل سلطان باشا فكل أملاكهم عبارة عن قروض من البنوك، وتسوف تأخذها البنوك مقابل القروض، أما رأسمالهم الحقيقى فيرقد فى الخارج فى انتظارهم»،

«أما سلطان باشا فهو أحد الأعيان وكانت له أملاك واسعة تقدر بعشرة آلاف فدان فى محافظة المنيا التى كان محافظا لها فى النصف الأول من القرن العشرين والذى ترجع اصول اسرته إلى عهد محمد على الذى منح جده نصيبا كبيرا من الاراضى ضمن ما منح بعض الاعيان».

أما الكاتب الذى يقارن حال بحال فهو محمد ابوالغار الطبيب الشهير وأول من أدخل علم أطفال الانابيب إلى مصر والسياسى الذى كان له دور كبير فى حركة استقلال الجامعة والذى كان متقدما لصفوف المظاهرات فى ثورة يناير ثم كان ايضا فى مقدمة من دعوا للمظاهرات الضخمة فى 30 يونيو قبل ان يكون ضمن أعضاء لجنة الخمسين التى صاغت الدستور الذى تم التصويت عليه فى يناير 2014 ليأتى يناير 2016 وابو الغار يؤسس مع بعض من اعضاء اللجنة مؤسسة حماية الدستور الذى بدا ومازال يبدو عرضة لتجاوزات متتالية.

وما كتبه ابوالغار هو مقطع من كتاب عنوانه «على هامش الرحلة»، صدر عن دار الشروق فى عام 2011 كان الطبيب ــ السياسى يشير فيه إلى اوضاع مصر قبل عام واحد من ثورة يناير التى مازال الرجل يذكر انها غيرت مصر إلى الابد.

كتاب ابو الغار، كما يقول فى مقدمته وكما يقر ذلك الأديب الطيب الصالح فى تقديم للكتاب، ليس من نوع المذكرات التقليدى ــ فهو ليس استلهاما أو نقلا عن حوليات ــ كما انه ليس مما يوصف مباشرة بـ«السيرة الذاتية»، وإنما كما قال ابو الغار نفسه «سيرة، الوطن فيها هو البطل» أو كما قال الصالح هو 3 قصص متقاطعة: الاولى لحال مصر منذ نهاية الاربعينيات عندما كان ابو الغار، الذى ولد فى دلتا مصر بينما الجيوش الاوروبية تستعد لغزو روسيا وبينما الجيش الايطالى يجول فى ليبيا، قد بدا يتفتح وعيه على الحياة من حوله، ليس فقط فى منزل والد ووالدة من قلب الطبقة المتوسطة اسسا اسرة تنقلت ما بين الدلتا والصعيد فالدلتا ثانية ثم القاهرة والثانية هى لبلد عاش وتفاعل مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتعقيدات نهاية حكم الملك الأخير ثم ثورة يوليو وحروب متتالية وتحولات سياسية هائلة تصاعدت مع ارتفاع موجات الحنق المتتابعة فى نهاية حكم مبارك جراء ما يصفه ابوالغار من اسباب ونتائج لتداعى الأداء فى الحكم والانهيار فى الخدمات العامة وعلى رأسها التعليم والثقافة ــ وكلاهما كان أساسا لرفعة مصر فى سنوات الاربعينيات وحتى النصف الاول من الستينيات قبل الهزيمة التى حلت بالوطن وبالمواطنين فى يونيو 1967. أما القصة الثالثة فهى للفتى الذى تلقى وهو فى ختام دراسته الثانوية ترشيحا للذهاب إلى موسكو لدراسة العلوم النووية كونه من المتفوقين، فامتنع وبقى ليلتحق بكلية الطب، رغم رغبة كامنة فى الالتحاق بكلية الهندسة، ثم يكون من المتخصصين فى النساء والتوليد، الموصوف من ألمع التخصصات، وهو الذى أراد فى الأساس أن يكون تخصصه فى الأمراض الجلدية بحيث لا يكون عنده من العمل الا ساعات محددة لا تستدعى حالات طارئة أو ذهاب مفاجئ فى أصعب التوقيتات لغرفة العمليات.

كتاب ابوالغار الواقع فى اكثر من 300 صفحة يبدأ مع المجتمع الذى جاء اليه، بحسب ما سمع عن افراد اسرته، وهو المجتمع الذى يميل للتعليم والانفتاح سواء كان ذلك فى منزل الجد للأب، التاجر الذى اتفق مع زوجته فى العشرينيات من القرن الماضى على دعم مسيرة الفتيات فى التعلم رغم ما كانت الاسرة عليه من تقاليد محافظة، أو فى منزل الجد للأم الذى كان يعيش فى السويس، الكوزموبوليتانية فى حينه، حتى لو لم تكن الاسكندرية، والتى تنفتح فيها الاسرة على ثقافات متوازية، وخاصة ثقافات الجالية الاوروبية التى كانت تعيش فى هذه المدينة حتى تأميم القناة، حيث تقرر الاسرة تعليم بناتها العزف على البيانو ضمن طقوس اجتماعية اوروبية اخرى.

وعبر الصفحات يتابع القارئ مع السياقات السهلة والودودة، حكايات ليست بالأساس عن مسار حياة ابوالغار وكيف تطورت اهتماماته بالقراءة والثقافة وكيف التقى كتابات توفيق الحكيم فوقع فى حبها وهو بعد فى الثالثة عشرة من عمره وكيف كانت اولى زيارته لمكتبة المدينة فى الدلتا والتى كانت جزءا أنيقا راقيا من مبنى البلدية ولا حتى قصة قيام جده بإخفاء الفلاحين المصريين المطاردين من قبل جيش الاحتلال البريطانى فى اثناء حادثة دنشواى ولا قيامه بالتجول فى شوارع وسط المدينة بعد حريق القاهرة، الذى يقول عنه إن أحدا أبدا لم يعرف من كان وراءه، أو ما يصفه بسعى الإخوان المسلمين لاستقطابه اثناء دراسته الثانوية.

ما يجده قارئ «على هامش الرحلة» هو بالأحرى حكايات عن وطن كانت الطبقة المتوسطة تعيش فيه فى بحبوحة دون أى احتياج للإنفاق من مدخرات اسرية وكيف كان المجتمع متجانس يعيش فيه المصريون الاقباط والمسلمون فى ود حقيقى لا يهدف لادعاء مفرط حول وحدة عنصرى الامة ويتجاور فيه فى السكن وفى صفوف الدرس اليهودى والمسيحى والمسلم كما المصرى وأبناء الاصول الشامية وابناء السودان وكذا الارمن واليونانيين وغيرهم من العرب القادمين إلى مصر من فلسطين التى شهدت موجات خروج متتالية تبدأ فى عام 1947 ومن العراق اثناء مراحل التحولات السياسية الكبرى.

قصة على «هامش الرحلة» هى قصة التحول الذى عاشته السياسة فى مصر، من ممارسة واقعية ويومية، مهما كانت مناحى التكلف والفساد فى أروقتها وحولها، إلى تأميم للسياسة بعد حرب 1956 التى «جعلت عبدالناصر البطل الحقيقى والاسطورة المصرية» فكان ما كان بعدها من عمليات توقيف واسعة للمعارضين ، بالاساس من الإخوان الذين تعرضوا لـ«آله التعذيب الجهنمية» وكذلك اليساريون والماركسيون «الذين بقوا فى السجون المصرية نحو خمس سنوات لاقوا خلالها الأهوال، فكانت هذه المعتقلات التى ذهب إلى غياهبها الآلاف، عاد بعضهم ولم يعد بعضهم الآخر، الكارثة التى «أصابت الروح المصرية فى مقتل» وأداة الإفزاع التى ساعدت النظام فى القضاء على السياسة، حيث «اختفت جميع ألوان المعارضة» فتم تأميم العمل السياسى وجاء الشباب الذى كان يتخرج من الجامعة فى نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات، ومن بينهم أبوالغار نفسه، ليجد أبواب العمل العام قد أغلقت تماما ولم يعد متبقيا إلا كيان يجمع بين الهزل والنفاق هو الاتحاد الاشتراكى والذى أنهار بسرعة امام أنور السادات فى مايو 1971 بينما خليفة ناصر يعيش بعد فى أولى شهور حكمه بعد الاسطورة وهو بعد لم يتمكن من توطيد أقدامه فى الحكم.

على «هامش الرحلة» لا يفرد كثيرا فيما كتب للتفاصيل الخاصة بحياة الطبيب والسياسى، ولكنه يمر عليها اتصالا بالمحطات الاهم فى تاريخ الوطن، فزواجه بشريكة الحياة الطبيية السويدية التى كانت تزور مصر جاء متزامنا مع حرب وكذلك محاولة الهجرة عن مصر والانتقال للحياة فى شمال اوروبا دون فائدة ثم الاحتفاء بعبور اكتوبر ثم السعى لتدارك تراجع التعليم الجامعى والحياة الاكاديمية فى بلد تراجعت فيه بالأساس قيمة العلم وسيطرت عليه قيم الانفتاح العشوائى وغاب فيه التميز الاكاديمى وسيطر عوضا عنه الترقيات القائمة على التواصل مع الاجهزة الامنية والتى تعضدت قوتها تحت حكم مبارك مع غياب أكبر وأوسع للسياسة وانتشار اكبر واسرع لقيم التراخى «حيث اصحب تزوير الانتخابات روتينا» والطائفية الذى جعلته يلاحظ «شخصيا المرارة الشديدة عند الاقباط عندما يتم ظلمهم فى الامتحانات الشفوية بسبب دينهم» وشعوره بـ«الخجل حين لا يكون فى قسم امراض النساء والتوليد استاذ قبطى واحد».

كتاب ابو الغار هو كما قال فى مقدمته سعيا لأن يقدم رواية الوطن من منظور لم يدون كثيرا ضمن ما تم تدوينه عن مصر ما بين نهاية الاربعينيات من القرن العشرين ونهاية العقد الاول من الألفية الثالثة، لرجل من جيله، جيل ثورة يوليو وابنائها الحقيقيين الذين تربوا على مبادئها وهو لم ينتم إلى الحكم كما لم ينتم إلى تنظيم سياسى بعينه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل