المحتوى الرئيسى

داء الأزبكية والولع باقتناء الكتب

02/02 19:35

ما زلت أذكر بوضوح أول مرة عرفت فيها القراءة، كنت صبياً مريضاً ومحجوزاً في مستشفى حكومي كرهته من أول نظرة، وصممت على عدم البقاء فيه، آنذاك رأتني طبيبة شابة وفهمت أنني أشعر بغربة وخوف فبدأت تتألفني بحنو غير مألوف بالنسبة للأطباء، ثم عرفت أن لديها ابناً صغيراً في مثل سني، وفي اليوم التالي جاءتني بمجلات ابنها القديمة: "تان" و"سوبر ميكي" و"كابتن سمير" ومجلات أخرى كثيرة لا أتذكرها، وقالت لي: "هذه ستسليك ولن تشعر معها بغربة"، وما زلت أذكر وقع الصدمة التي شعرت بها عندما فهمت ما جاءتني به، فقد كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها أنه يوجد شيء يُقرأ عدا القرآن وكتب المدرسة، ولم يكن يوجد في بيتنا غير هذا.

المهم أنني دخلت سريعاً في أول مرحلة من مراحل الإدمان، فكنت أبحث عن هذه الطبيبة في المستشفى كله، وعندما أجدها أسألها إن كانت قد أحضرت مجلات أخرى لي، فتتعجب وتعدني خيراً، وفي اليوم التالي تفي بما وعدت، واستمر هذا لمدة شهر تقريباً، وعندما عدت لبيتي أخيراً عدت بشنطة كبيرة مليئة بمجلات الأطفال القديمة، فيما بعد فقط استوعبت ما حدث، فأنا ذهبت لأستشفي من مرض ما فعدت بآخر أفدح، بل ولا شفاء منه وهو القراءة!

ورغم أنني لم أرَ هذه الطبيبة بعد ذلك فإنها ما زالت تخطر ببالي، ورغم كل هذه السنوات الطويلة ما زلت أذكر أنها تدعى "حكمت"، فرضي الله عنك يا حكمت أينما كنت.

وفيما بعد كنت عندما أذهب إلى "الغيط" للعمل مع والدي تجدني لا أُفلح كما كنت من قبل، بل أجلس بين شجيرات الخضار وأسرح بعيداً وأتخيل تلك الشخصيات الكرتونية الظريفة، صغيرة الحجم، وكأنها تجري أمامي وتلعب بين شجيرات الباذنجان أو تختبئ خلف شجيرات الفلفل، وكان أبي يقول لي: "المستشفى أفسدك"، ولكني كنت قد حددت اتجاهي في الحياة بأن أترك الفلاحة للفلاحين، وأهتم بالتعليم لأجعل هوايتي عملي، بأن أصبح صحفياً في إحدى مجلات الرسوم الكرتونية.

وقد أعدت قراءة المجلات عدة مرات وبدأت أبحث بمفردي عن المزيد، ودلني باعة السوق ببلدتي على بائع الأوراق القديمة الذي يشترون منه، فذهبت إليه بصحبة اثنين من أصدقائي، وعندما دخلت المخزن كان إحساسي ولا شك يشبه إحساس "علي بابا" عندما دخل المغارة للمرة الأولى، وكنت أذهب إلى هذا المخزن مرة في الأسبوع الواحد، وكان صاحب المخزن العجوز يقضي وقته في فرز الأكوام بداية، تبعاً للأحجام ثم إلى كتب ومجلات، ويقول: "هذه لباعة اللب والفول السوداني، وهذه لباعة الفول والفلافل، وهذه لدكاكين البقالة"، أما المجلات الفنية والنسائية فيضعها في مكان خاص، ولكن لا يقول لمن.

وأذكر أن أول كتاب اشتريته في حياتي كان سيذهب لباعة اللب والفول السوداني، وكان كتاباً للشيخ صادق عرجون عن "خالد بن الوليد" رضي الله عنه.

وكان أبي -رحمه الله- معجباً بعكوفي الدائم على المذاكرة، ولم يكن المسكين يعرف أنني أضع المجلات داخل كتب المدرسة، وأقرأ فيها طوال الوقت، وفي أحد الأيام صحبني معه لعيادة أحد الأطباء الجدد في بلدتي، وعندما دخل للكشف رأيت لدى الطبيب أعداداً من مجلة تسمى "الدعوة"، وبداخل كل عدد مجلة أخرى للأطفال، فأخذت عدداً رُسم عليه رجل ضخم الجثة كث اللحية طويلها، كُتب إلى جواره شيء من قبيل "كارل ماركس عدو الإسلام"، فقلت لنفسي: "يا خبر! كيف لشيخ بلحية ضخمة هكذا ويكون عدواً للإسلام؟!".

وبدأت أقرأ لأتبين عداوته تلك، ولكن الكشف انتهى سريعاً وخرج أبي بصحبة الطبيب الذي رآني منهمكاً في القراءة فتبسم وشجعني، فقلت لنفسي: "طالما أنه طبيب ويشجعني سيكون بلا شك مثل الدكتورة حكمت، وسيعطيني المجلة"، فوقفت وقبل أن أفتح فمي أخذها مني ووضعها في مكانها، ودخل حجرة الكشف مرة أخرى، فنظرت إلى أبي وقلت له: "خسارة كنت أريد أن أعرف الرجل عدو الإسلام"، فجذبني من يدي، وقال: "يكفيك المجلات التي تشتريها أسبوعياً ثم تضعها وسط الكتب وتقرأها"، فقلت: "أنت تعرف إذاً؟"، فقال: "وهل تظنني غافلاً أو نائماً على وداني".

وفي مرحلة تالية أصبت بميكروب الأزبكية، ولو عاد بي الزمان أوائله لأخذت حذري، وتحاشيت المواطن التي ينشط فيها، وميكروب الأزبكية لم يثبت وجوده بعد، ولكنني لا أشك في وجوده، ولا في أنه يعيش وسط الكتب القديمة المتربة، ولا في أنه يصيب بعض المصريين تحديداً في مرحلة الصبا، ويسبب لهم حالة نادرة من الإدمان أسميها "الأزبيكومانيا" على نمط "الببليومانيا"، أي الولع باقتناء الكتب.

إذا أصبت بهذا الميكروب -لا قدر الله- فإنك تبدأ أولى مراحل الضياع، أقصد المرض بأن تجد نفسك معجباً بأشكال الكتب القديمة والمستعملة، وما قد يكون عليها من إهداءات، أو مكتوباً على هوامشها من كلمات، وبعد فترة تجد بعض النشوة بروائحها المختلفة، وتفرح بما قد تجده داخلها من ورود وأوراق يابسة، وقد تقضي وقتاً طريفاً في تخمين عمر الوردة وقصة أصحابها، وقد تعجب بالأثر الذي تركته على صفحتي الكتاب، وبأن رائحتها ما زالت فيها.

وفي مرحلة متقدمة من هذا المرض لن يزعجك التراب الذي يهب عليك إذا فتحت كتاباً قديماً، بل وقد تفرح؛ لأنك تعلم أنه لم يُفتح منذ زمن، وعندما لا تبصق التراب الذي دخل فمك وأنت تتصفحه، فاعلم أنه لا أمل في شفائك، وأن الله قد قضى فيك بالذي هو كائن فتم، وضاعت حكمة الحكماء!

هنا بالضبط تكون قد تجاوزت حالة الإدمان ودخلت مرحلة زيادة الجرعة، فلا تصل لدرجة النشوة السابقة إلا بمضاعفة الجرعة، وبعد أن كنت تذهب مرة في الشهر، وتصرف كل ما في الجيب تجد نفسك تذهب مرة في الأسبوع، وقد تستدين وتذهب مرتين أو ثلاثاً، وتتمنى لو كان سكنك قريباً من المكان.

وهنا تحديداً تجد نفسك زاهداً في متع الحياة فتؤجل زواجك، وتقول لنفسك: "هذا الحذاء يمكنه التحمل عاماً آخر، وهذا البنطلون أيضاً، خصوصاً أن معرض الكتاب قد أزف وإخواني في الأزبكية سيعرضون كل ما لديهم من الطيبات".

وكلما وجدت وقتاً تجد قدميك تقودانك للمكان دون أن تدري أو تخطط، فتستهلك هذا الوقت في جرد الرفوف بنظام، ومن مكتبة لأخرى، أملاً في أن "يفط" قلبك من مكانه، وترقص عيناك أمام مفاجأة أو تحفة منزوية على رف مترب لبائع أزبكاوي جشع يركز طوال الوقت على عينيك، ويقدر السعر الذي سيطلبه تبعاً لردود فعلك.

وفي يوم ما، وبعد أن تقلب كل الرفوف ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ستتسرب الخيبة إلى نفسك بالتدريج، وستعرف أن كل شيء أصبح مكرراً، وأن التحف نادرة، ومع الوقت "تبوخ" النشوة، وتخف الحدة، وقد تتوقف لفترة، وتكتفي بتقليب مكتبتك وإعادة تنظيمها.

وهنا قد تظن أنك شفيت وعفيت، ولكن هيهات فما من مدينة ستزورها في جنبات الأرض، إلا وستجد نفسك تهفو إلى شوارع الأزبكية التي فيها، وستجد قدميك يقودانك إلى تلك الشوارع دون خرائط بحثاً عن دواء شافٍ.

في روما عندما كنت أزورها للمرة الأولى قبل عشر سنوات لم أكن أعرف حرفاً من الإيطالية، وما زلت، ومع ذلك ما إن رأيت شارع أزبكيتها وأكشاك كتبه على الجانبين حتى نزلت في المحطة التالية، وعدت إلى المكان سيراً على الأقدام وأنا أقول لنفسي يكفيني المنظر والرائحة! وفي بروكسل وقبل أن أتعلم الفرنسية كنت أعرف كل محلات الأزبكية التي بها، وما من مرة زرت فيها باريس إلا وحججت إلى قطعة الأزبكية التي على نهر السين!

وبفضل كل هذه الأزبكيات تضخمت مكتبتي مع الوقت، وكلما عُدت إلى مصر ونظرت إليها أندم على فتنتي السابقة بفكرة المكتبة الكبيرة، أنا أعرف بالطبع أن أغلب المفكرين المهمين كانوا من جامعي الكتب، وسواء في التراث اليوناني أو التراث الإسلامي توجد حكايات كثيرة عن داء "البيبليومانيا" وتكوين مكتبة كبيرة. ولكن الزمان اختلف ويختلف بسرعة فائقة، وكل مرة أسأل نفسي عن فائدة كل هذه الكتب الورقية بعد الثورة الحادثة في مجال أوعية نقل الثقافة، والتي أسميها "ثورة الكيندل"! وأتذكر أنني ومنذ دراستي الثانوية وأنا أجمع الكتب الورقية بشراهة منقطعة النظير،

وتقريباً في كل مجالات العلوم الإنسانية، وكنت أنقل أسبوعياً كميات كبيرة من أسوار الأزبكية المختلفة لمكتبتي، وما أدراك بما كان يحدث في معرض الكتاب السنوي! وكنت كذلك أتابع كل المجلات الثقافية تقريباً، سواء أكانت مصرية أو عربية، وحتى النادر منها.

وعندما ذهبت إلى ألمانيا لكتابة الدكتوراه شحنت إليها عدداً كبيراً من طرود الكتب التي كلف شحنها الكثير من المال، وفي النهاية بعتها لمكتبة الجامعة هناك مقابل مبلغ كبير اشتريت به ما أحتاجه من المعاجم والقواميس ودوائر المعارف التي وجدت فيها الغناء عن الكتب الكثيرة، كما صورت عدداً كبيراً من كتب المستشرقين ودراساتهم، خاصة النادر والمهم منها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل