المحتوى الرئيسى

ولاء الشامي تكتب: اكتشاف دوستويفسكي المشابه لاكتشاف الحب | ساسة بوست

02/02 18:09

منذ 1 دقيقة، 2 فبراير,2017

يقول بورخيس:  اكتشاف دوستويفسكي يشبه اكتشاف الحب للمرة الأولى، أو مثل اكتشاف البحر فهو علامة على لحظة هامة في رحلة الحياة.

وتمامًا كما تكتشف الحب لأول مرة، تعتريك رعشة خفيفة ولكنها محببة، تنتابك لهفة لمعرفة كل ما يجب أن تعرفه عن من تحب – هذا الذي خطف قلبك منذ اللحظة الأولى – دقات قلبك تتسارع كأنه سيغادر جسدك – قوة طاغية لا تدري كنهها تسيطر عليك، تصبح مسئولة عن قلب حياتها كلها رأسًا على عقب، تصبح خائفًا من كل شيء.

كذلك كان اكتشاف دوستويفسكي تمامًا، فبقدر ما كنت خائفة من القراءة له، وفشلت كل محاولاتي الأولى للدخول إلى عالمه بقدر ما كنت متحمسة لقراءته؛ ذلك أن خوفي منه كان غامضًا له ذات سحرية لها تلك السلطة التي تنبعث فيّ وتحركني؛ كأنه ينبئني أنني سأتورط في حب هذا الكاتب وكل ما كتب، تمامًا كذلك من سطوة الحب الذي يغيرك بطبيعة الحال، ولكنه يحيلك بالوقت ذاته لروح أكثر خفة تلامس القمم العالية، كان هذا ما أخاف وأحاذر.

ذات تسكب في أعمال إنسانية

يقول فريدريك نيتشه: «دوستويفسكي هو الوحيد الذي أفادني في علم النفس، كان اكتشافي له يفوق أهمية اكتشاف ستاندال».

في كل عمل تقرؤه لدوستويفسكي، ستجد شيئًا من نفسه، شيئًا من ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر في كل نفس، يسبر في رواياته غور النفس البشرية ببراعة؛ ذلك أنه يكتب نفسه بمنتهى الدقة، يكتب عن مواقف تعرض لها خلال حياته كرواية المقامر التي كتبها عن تجربة ذاتية له في نوادي المقامرة، كل رواياته تنبض بالحياة وتشعر بأنها تحوي طرفًا من حياته، حتى توشك أن تكون رواياته اعترافات أو مذكرات شخصية.

ومن خلال العلاقات التي تجمع شخوصه الروائية يأخذنا في رحلة لعمق النفس البشرية في بُعديها الطيب والشرير، وعبر تفسيره لتصرفاتها الغريبة تنتقل من التعاطف معها إلى مقارنتها بما أنت عليه، وما يدور في أعماقك من صراع وعواطف وانفعالات، وتفتش في منظومتك الأخلاقية عن معنى الخير والشر في كل ما تفعل.

ينطبق على رواياته ما قاله أحد أبطال رواية «مذلون مهانون»: «قصتك لا تتناول موضوعًا عظيمًا، فمتى قرأ المرء السطر الأول من تلك القصص شعر أنه يحلق في الفضاوات العلى، ولكن الأمر في قصتك يا عزيزي أبسط من ذلك وأقرب إلى الأفهام؛ ولهذا السبب نفسه إنما تعجبني قصتك، إن المرء يفهمها في يسر، إنها أقرب إلى النفس إن صح التعبير، كأن كل ما تتحدث عنه قد وقع لي أنا نفسي».

تقرأ لدوستويفسكي جملًا عادية جدًا، ولكن يميزها بشكل خاص أنها تتماهى معك، مع حالتك النفسية حال قراءتك أيًا كان ما تشعر به، فرحًا كنت أم حزينًا، مهمومًا، قلقًا، مشغولًا بأمر ما، ستجد تلك الجملة التي تصف نفسك أنت تحديدًا، بهذا القرب الغامض المثير.

صداقة روحية تنشأ مع كل رواية

«الكتاب الجيد هو الذي حين تنهيه تشعر بأنك فقدت صديقًا عزيزًا عليك»، يقولون في وصف الكتاب الجيد، وكذلك لنا أن نصنف الكُتاب إلى «معارف وأصدقاء»، فالكُتاب حين يكونون أصدقاء لا يتكلف القارئ أن يتجمل ليقرأ كتبهم، تمامًا كما قد تقابل صديقًا أشعث الشعر مغبر الثياب، لا يطلب منك أن تتصرف بلباقة، أو أن تنتبه لكلماتك أو أفكارك المشتتة. لا تكترث كونك تلهث أو تصرخ أو حتى أن تكتم تلك الضحكة المجنونة التي تفتضح طفولتك.

«إنه مِنَّا» هذا ما تنطق به – رغمًا عنك – بعد كل قراءة لدوستويفسكي؛ كاتب عفوي ولا يدّعي الكمال ولا يتفلسف، ولكنه يُضيء نفسك ويساعدك أن تستكشفها وتفهم دواخلها.

كتب «غيوم مسيو» في مقدمة روايته لأنني أحبك «لكي توفر لهم الدهشة، لا تخبر أصدقاءك بما حدث في نهاية الرواية».

وهذا بالضبط ما يفعله دوستويفسكي، يوفر لنا الدهشة كاملة في نهاية كل رواياته. لتأخذ أنت هيئة «جاحظ العينين، فاغر فاك»،ثم ترجع رأسك للوراء مستسلمًا لكل تلك المتعة.

متاهة دوستويفسكي وشخصياته التي تصور عالمنا الداخلي

شخصياته دومًا مختلفة، ولكنه ما كان يصورها بهذه الدقة إلا لأن بها صورة من نفوسنا جميعًا، نحن قارئيه، نجد شخصياته مألوفة لنا نحبها ونتفاعل معها؛ لأنها ببساطة تشبهنا نحن، تقول شخصياته دومًا ما لا نجرُؤ أن نقوله تكون ما لا نعترف أننا نكونه، ثلاث روايات فقط هي حصيلة ما قرأت لدوستويفسكي إلى الآن، سأستعرضها على عجل؛ أرشحها لكم لتدخلوا عبرها عالم الحلم، عالم دوستويفسكي المثير.

«إنها قصة رهيبة: قصة امرأة هجرها صاحبها ولا يزال يعيش على أنقاض سعادتها، قصة امرأة مريضة هدها الألم، وانصرف عنها جميع الناس، وأنكرها الإنسان الذي كانت تعقد عليه آخر رجاء، أبوها الذي أساءت إليه في الماضي، وفقد عقله هو الآخر تحت وطأة أنواع العذاب والذل التي لا يمكن أن يحتملها البشر، قصة امرأة استبدّ بها اليأس فأخذت تطوف في شوارع بطرسبرغ، الباردة القذرة، تطلب الصدقات من الناس، مع ابنتها التي ترى أنها لا تزال طفلة صغيرة؛ قصة امرأة فنيت بعد ذلك خلال شهور في قبو ٍ رطب، ورفض أبوها أن يمن عليها بغفرانه إلى آخر لحظة من حياتها؛ حتى إذا ثاب إليه صوابه، فهرع إليها ليغفر لها، لم يجد في مكان ابنته التي أحبها أكثر مما أحبّ أيّ شيءٍ في حياته إلا جثة باردة.

إنها قصة غريبة، قصة علاقات عجيبة لا يكاد يفهمها المرء، بين رجلٍ عجوز ارتدّ إلى الطفولة وبين حفيدةٍ له كانت تفهمه، على صغر سنها، وكان لها من نفاذ الفكر ما لا يصل إليه كثير من الناس خلال حياتهم الهادئة الرخيّة. إنها قصة مظلمة، قصة من تلك القصص السوداء الأليمة التي كثيرًا ما تجري دون أن يلمحها أحد، كأنها أسرار خفية، تحت سماء بطرسبرغ الثقيلة والأنانية الضارية والمصالح المتصارعة، والفجور الكالح، والجرائم الخبيثة في كل هذا الجحيم من الحياة المجنونة الشاذة.

هذه الفقرة من الرواية لخصت معاناة شخوصها وهذا الذل والهوان الذي عاينوه، في روايات دوستويفسكي نلاحظ أنه يصور ذلك الحب المعذب الذي يمتزج دومًا بشفقة حانية، يختلط به ازدراء واحتقار في بعض الأحيان.

فالحب الذي تحمله كاتيا وناتاشا كلتاهما لأليوشا ذلك الشاب الأحمق حب يمتزج بشفقة حانية كما تحب أم ابنها رغم تفاهته وفراغه إلا من خياناته الصغيرة التي تجعل ناتاشا تشعر بأنه رجل يستحق مغفرتها، وبالتضحية التي قامت بها ناتاشا أخيرًا يرينا أن وراء إخفاق الحب انتصارًا للإنسانية إن كان هذا الحب يحمل معنى الإحسان.

«لا يبقى ها هنا دلالة لقولك إن اثنين واثنين تساوي أربعًا إن القمار هو التجربة الأولى للحرية في العالم المادي» دوستويفسكي.

«هي وصف لنوع من الجحيم يشبه جحيم المعتقل» عبر تجربة ذاتية للكاتب، تدور هذه الرواية حول شاب روسي، يستنفد الروليت كل ميزاته الشخصية التي يتمتع بها من الجرأة والاندفاع والرغبة في المغامرة، تصف بدقة موائد الروليت التي تشبه الجحيم إذ تسجن المقامرين في فلكها، يدورون حولها ما بين مكسب قليل وخسارة كبيرة.

يتنازعه حبان حب «باولين»، وحب «الروليت» وكلاهما قاسٍ صلف، «استفيدي من عبوديتي استفيدي منها.. هل ستعلمين أنني سأقتلك في يوم من الأيام؟!» ما بين الحب والبغض يتعلق بهما، حبيبته والروليت، ولكن يمنحه الروليت ما تمنحه حبيبته، يمنحه السحر والوله والهذيان بالمغامرة.

«وأنني أخذت أكره هذه القصة الرديئة منذ البداية»؟ – يعبر دوستويفسكي، الذي يعتبر هذه القصة رديئة وهي تبلغ من العمق درجة كبيرة جعلته يسبر أغوار النفس البشرية ويتحدث بلسانها كما لم يفعل فرويد.

تدور أحداث الرواية عن أسرة تتألف من زوج وزوجة وعشيق، تموت المرأة ولا يبقى إلا الزوج والعشيق ومن هنا يتأزم الموقف، يكتشف الزوج، وتتم المواجهة بينهما لكن على مهل وبشكل غير مباشر، زوج أبدي وعشيق أبدي، العشيق معتزل والزوج مصاحب ولكنه مُهان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل