المحتوى الرئيسى

28 يناير.. الخروج الكبير

01/27 21:59

أغلب المحتفلين بذكرى ثورة يناير يجتاحهم الحنين وتهيجهم الذكريات يوم 25؛ الثلاثاء الفارق ونقطة البداية والانطلاق، اللحظة التي انكسر فيها الخوف وتبدد الترقب وغاب الحذر، أَحتفلُ به مع المحتفلين وأتذكر مثل ما يتذكرون. لكن احتفالي الشخصي، الواضح، يحل يوم 28 يناير من كل عام، يوم الخروج الأعظم، الحدث الأهم في حياتي كلها.

إنه يوم الجمعة 28 يناير 2011، حينما خرجت من مقر عملي بموقع الشروق عقب صلاة الجمعة (الاتصالات مقطوعة؛ لا تليفونات أو إنترنت، لا شيء يصلك بأي شخص آخر خارج المحيط الذي تتحرك فيه بكيانك المادي المحسوس)، الشوارع تغرق في هدوء ما قبل الطوفان، فجأة وبغير ميعاد وعلى غير اتفاق، خرج الناس من كل فج عميق، من المساجد، البيوت، من كل مكان، تصاعدت الهتافات، كانت الشمس حانية بددت البرد وملأت القلب حرارة وحيوية.

لم أكن أتصور أبدًا في يوم من الأيام أن أخرج في مظاهرة حاشدة وضد من؟! طوال عمري أكره السياسة وأتجنبها وأستعيذ بالله من "ساس يسوس سياسة"، وأستعيذ به من آثارها المدمرة على حياتنا، لكني وجدت تفسي أسير مع السائرين، وهتفت الشعب يريد إسقاط النظام، مئات صاروا آلافا فطوفانا هادرا مقدسا.. رأيت بعيني المشهد الذي كتبه العظيم نجيب محفوظ في رائعته المنسية «ليالي ألف ليلة»، يتجسد أمام ناظري، كأن العالم كله طوي في لحظة سحرية ليصير شاشة عرض سينمائي ضخمة تَتَتَابع فيها المشاهد والأحداث وتتحرك فيها الجموع من البشر كأنهم في يوم يُبعثون:

"خرج الفقراء والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير، اندفعوا وراء مشاعرهم القلقة الدفينة، وفي تجمعٍ لا مثيل له وجدوا أنفسهم عملاقا لا حدود له يجأر بالاحتجاج والخوف من المستقبل. تُبودلت أنات الشكوى في هيئة همسات مبحوحة، ثم غلظت واحتدمت بالمرارة، ثم تلاطمت كالصخور، وبسبب من القوة المتجسدة المخلوقة من (عدم) تأجج الغضب، شعروا بأنهم سدّ منيع بتكتلهم وأنهم طوفان إذا اندفع، واندفعت الجموع كأنها سيل ينصب من فوق قمة جبل تبعث في الجو هديرا"..

تداعت على خاطري كل ما قرأته قبل سنوات من مشاهد في روايات وقصص ونصوص أخرى تستشرف "خروجا" كالذي تحقق في 28 يناير، هل من الممكن أن يصل حس رهيف وروح شفافة إلى أن ترى بعين الغيب ما هو كائن أو سيكون؟؟ لا أعلم.. فقط كل ما كان يحدث وقتها أنت تدفق سيل هادر ومختلط وغير منظم (مثل الحدث نفسه) من الاستدعاءات والنصوص، فجأة وجدتني أستعيد ما سبق أن قرأته في الجزء الثالث من ثلاثية محفوظ «السكرية»؛ حين يصف حضور كمال عبد الجواد لمؤتمر جماهيري حاشد لزعيم الأمة مصطفى باشا النحاس:

"ثم ختمه جاهرا في عنف سافر بالدعوة إلى الثورة، وبلغ الحماس من القوم مداه فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماس جنوني. ولم يكن دونهم حماسا وهتافا، نسي أنه مدرس مطالب بالوقار وخيل إليه أنه رجع إلى الأيام المجيدة التي سمع عنها وحال عمره دون الاشتراك فيها. أكانت الخطب تلقى بهذه القوة؟ أكان الناس يتلقونها بمثل هذا الحماس؟ أكان الموت لذلك يهون؟ من مثل هذا الموقف بدأ فهمي دون ريب، ثم اندفع إلى الموت، إلى الخلود أم إلى الفناء؟! أمن الممكن أن يستشهد رجل في مثل حاله من الشك؟ لعل الوطنية - كالحب- من القوى التي نذعن لها وإن لم نؤمن بها! إن فورة الحماس عالية، الهتافات حارة متوعدة، المقاعد ترتج بمن فوقها، فما الخطوة التالية؟ ما يدري إلا والجموع تتجه نحو الخارج".

وكأنه يصف حالي صوتا وصورة، فلم أكن أتصور أنني سأسير على قدمي لما يزيد على أربع أو خمس ساعات متواصلة، أهتف خلالها بعلو الصوت من نقطة الخروج في مدينة نصر حتى قلب ميدان رمسيس الذي غطاه الدخان وسيول قنابل الغاز وطلقات الخرطوش.

في هذا اليوم عقدت العزم على الانتصار حتى النهاية، أن أنتصر على الكآبة والإحباط و"السنين اللي بتسرسب بين إيدينا"، أدركت أني ما زلت قادرا على تذوق الحياة والأشياء الجميلة!

بعد ست سنوات من يوم الخروج الأعظم للمصريين، أيقنت أننا قد لا ندرك كل آثاره وتجلياته التي حلمنا بها وظننا أننا اقتربنا منها نقطفها بأيدينا، لكني أيقنت أيضًا أن أملا قويا كشعاع الشمس يبدد برودة يناير وينعش ذكراها في أن نور هذا اليوم وتضحياته وبطولاته ستصل إلى أولادي وأحفادي.. هذه المرة ليس تفاؤلا بل إيمانا!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل