المحتوى الرئيسى

محمد الباز يكتب: أيامها الأولى كانت لجس النبض واختبار القوة.. اسمها ثورة 28 يناير

01/27 20:19

كم من السنوات تحتاجها ثورة 25 يناير، لنعرف ما الذى جرى فيها ومنها على الأرض؟

كم من الكتب سُتملأ لنفصل فيها، ونعرف هل كانت ثورة؟ أم مؤامرة؟ وهى الثنائية البغيضة التى تحاصر الحدث الأكبر فى تاريخنا المعاصر.

كم من الشهود سيستهلكون، ليقولوا كلمة يرضى بها التاريخ - فى ثورة لا يرضى عنها حتى من قاموا بها - دون أن تكون منحازة أو مراوغة، أو محتالة؟

سأقول لكم، ستظل هذه الثورة بلا ظل، لأن من قاموا بها خانوها، تركوها فى الميدان، وذهبوا إلى فراشهم ليستمتعوا بدفئه، بعد أن اعتقدوا أنهم نجحوا وحققوا كل شىء، لمجرد أن نائب رئيس الجمهورية السيد عمر سليمان خرج ليقول فى كلمة لم تستغرق أكثر من 60 ثانية: إن مبارك أعلن تخليه عن سلطته، وكلَّف المجلس العسكرى بإدارة أمور البلاد.

إذا كانت هذه هى الصورة، فلماذا نكتب إذن؟

هل يمكن أن نضيف شيئًا إلى ملامح الثورة غير المكتملة؟

هل يمكن أن نضع الحقيقة بين قوسين، ونقول هذا ما حدث ولا شىء غيره؟

بالطبع لن نستطيع ولن يستطيع غيرنا.

لكننا سنحاول فقط أن نعيد تركيب الصورة من جديد، اعتبروها مراجعات، من صحفى شهد على الثورة، نزل الميادين وتجوَّل فى الشوارع، واستمع إلى الثوار، ولديه ما يقوله.

من حقك أن تسمع لىّ، ومن حقك أن ترفض تمامًا ما ستقرأه، فقط تأمله، فقد يكون فيه ما يجعلك تعيد التفكير من جديد فى كل ما جرى.

يقولون إن أحدًا لم يكتب ما جرى فى ثورة 25 يناير.

لكن الحقيقة أن كل من شارك فيها تقريبًا كتب عنها، للدرجة التى ضاعت حقيقتها بين ركام الكتب، وتناقض الروايات، وتهافت محاولات البحث عن دور.

الملاحظة التى يمكن أن تتوقف أمامها طويلًا، هى أن طرفًا واحدًا هو الذى كتب ما جرى، وبالطبع كان ما كتبه من وجهة نظره وحده، لم يفكر أحد أن يسمع ولو طرفًا من رواية الطرف الآخر الذى قامت عليه الثورة.

ستقول: ليس من حق هؤلاء أن يتحدثوا، فقد انفردوا بالساحة كلها لأكثر من ثلاثين عامًا، لا يسمعون إلا صوتهم، وكان عليهم أن يصمتوا إلى الأبد.

هذا كلام سياسى لا قيمة له عندى على الإطلاق.

يهمنى فقط أن نكتب طرفًا من التاريخ.

هنا أثبت ما سمعته بنفسى من أحد ضباط أمن الدولة، قدم لى شهادة كاملة عمَّا حدث فى اقتحام مبنى الجهاز الرئيسى فى مارس 2011.

لا أثبت كلامه هنا للدفاع عنه، ولا لتبرير موقفه مما حدث، ولكن حتى أمسك خيطًا مهمًا فى التعامل مع الحدث الكبير.

طبقًا لما قاله، وكان يتحدث عن ثورة 25 يناير، يمكن أن نرى زاوية أخرى من زوايا الصورة.

تجاهل الأيام الأولى للثورة، لم يلتفت إلى 25 أو 26 أو 27، وتوقف عند يوم 28، فى هذا اليوم، وفى الساعة الثانية وعشرين دقيقة بالضبط، ورد إلى غرفة العمليات بمبنى أمن الدولة الرئيسى بمدينة نصر أول إخطار بالاعتداء على كمين بمنطقة المرازيق، وبعدها وكل عشر دقائق، كان يرد إخطار باعتداء على مكان تابع للشرطة، وهو ما يؤكد أن مهاجمة أماكن الشرطة كان سابقًا على الانهيار الأمنى لجهاز الشرطة ككل، وهو ما حدث فى الساعة الخامسة من اليوم نفسه.

فى الساعة الثالثة وخمس وخمسين دقيقة ورد إخطار بأن محافظة حلوان انهارت أمنيًا وبشكل كامل، قد تكون هناك محافظات أخرى انهارت فى الوقت نفسه الذى انهارت فيه حلوان، أو حتى سبقتها، لكنها كانت أول محافظة يأتى إخطار بأنها انتهت تمامًا.

تم رفع تقرير مفصل بالمعلومات المتاحة عما جرى لرئيس الجهاز وقتها اللواء حسن عبدالرحمن، فحمل التقرير وانتقل إلى وزير الداخلية، حبيب العادلى، الذى كان لا يزال فى مكتبه بلاظوغلى، وتمت المقابلة بينهما على وجه التحديد فى الساعة الرابعة و25 دقيقة.

وضع حسن عبدالرحمن المعلومات المتاحة لديه عما جرى أمام حبيب العادلى، وحذره من تزايد الاعتداءات على الأماكن التابعة للشرطة، وأن هذا يمكن أن يقود إلى حالة انهيار تامة وكاملة لجهاز الشرطة كله.

حدث هذا قبل أن يحدث ما يعرفه كثيرون ونشر أكثر من مرة، فعلى الفور أجرى حبيب العادلى اتصالًا بالرئيس مبارك ـ حسن عبدالرحمن قال بعد ذلك فى تحقيقات النيابة إن العادلى تحدث مع أحدهم وكان يناديه يا ريس ـ وبطبيعة الحال لم يكن هناك ريس آخر لدى حبيب العادلى إلا مبارك.

شرح العادلى الوضع الأمنى لمبارك كاملًا، وسأله سؤالًا كان غريبًا، قال له: هل قرأت التقرير الذى أرسلته لسيادتك يوم 17 يناير؟ ويبدو أن الإجابة كانت بـ«لا»، وهو ما جعل العادلى يركز فى الواقع الحالى.

كان رد مبارك أنه سيجرى اتصالًا بالمشير طنطاوى، وأن الاتصالات بعد ذلك ستكون بين العادلى والمشير، ولم ينه مبارك المكالمة مع العادلى إلا بالتأكيد على تعليماته الصارمة بأن هذه المظاهرات لابد أن تنتهى بأى ثمن، وشدد مبارك على «أى ثمن» هذه.

كان هذا المدخل مهمًا جدًا، لأقول ما أرى أنه صحيح تاريخيًا، فهذه الثورة من الخطأ الشديد أن نطلق عليها ثورة 25 يناير، بل هى ثورة 28 يناير، ولهذا سببه الواضح.

فى 25 يناير، لم تخرج مطالبات الثوار الذين خرجوا عن إقالة وزير الداخلية حبيب العادلى وحل مجلس الشعب الذى شابت انتخاباته صور متعددة من التزوير الفاجر، بما أدى إلى استبعاد المعارضين تمامًا، والاحتجاج على سيناريو التوريث الذى كان يسير على الأرض بخطى ثابتة، رغم أن أركان نظام مبارك كانوا ينكرونه تمامًا.

خرجت التنظيمات السياسية المختلفة مدفوعة بما حدث فى تونس، ففى 14 يناير 2011 كانت ثورة تونس، حيث أنهت أسطورة زين العابدين بن على، بكلمة واحدة نطقها مواطن تونسى عابر أمام الفضائيات هى: بن على هرب.

قبل هذا اليوم، لم تكن هناك فى مصر نية للثورة، ولم يكن هناك موعد محدد لها، لكن صفحة «كلنا خالد سعيد» التى تم تدشينها بعد مقتل الشاب السكندرى خالد سعيد، حددت موعدًا للنزول هو 25 يناير، واختار المسئولون عنها الذين اتضح بعد ذلك أنهم وائل غنيم وعبدالرحمن منصورو عيد الشرطة ليكون رمزًا لرفض ممارسات الداخلية.

كانت هناك بداية للثورة لكنها لم تكتمل، ففى ديسمبر 2010، اقترح عبدالرحمن منصور على وائل غنيم أن تتبنى الصفحة فعالية فى عيد الشرطة على غرار ما فعلته حركة 6 أبريل فى العام 2008، عندما نظمت مظاهرات عديدة فى عدة محافظات كانت أعنفها فى مدينة المحلة بمحافظة الغربية، وهى المظاهرات التى كسر فيها الثوار صورة مبارك، وداسوا عليها بأقدامهم.

ظلت هذه الفكرة محلًا للبحث والدراسة، لم يستقروا على شكل معين لهذه الفعالية، وعندما هرب بن على، استقروا على أن يجعلوا من 25 يناير يومًا للثورة وللتنديد بالتعذيب والبطالة والفساد والظلم، لتكون هذه أول دعوة لفعالية ثورية، وكانت لتحقيق مطالب وليس لتغيير نظام.

كان أعضاء صفحة «كلنا خالد سعيد» فى هذا الوقت 350 ألف عضو، وهو ما أسهم فى نشر الدعوة لفعالية 25 يناير، تبنتها حركات ومجموعات سياسية وحقوقية عديدة، وتواصل وائل غنيم مع عدد من النشطاء الميدانيين كان على رأسهم أحمد ماهر مؤسس 6 أبريل دون أن يكشف عن هويته، فقد كان يتعامل معهم على أنه أدمن صفحة «كلنا خالد سعيد».

حددت صفحة «كلنا خالد سعيد» فى منشور على صفحاتها شكل التحرك، وحددته بالساعة الثانية ظهرًا، وأماكن الانطلاق كالتالى: دوران المطرية، دوران شبرا، شارع جامعة الدول العربية بمنطقة المهندسين، أمام جامعة القاهرة، وحددت هذا المكان للمهنيين من أطباء ومحامين وأساتذة جامعة.

ووضعت فى منشورها هذا ملاحظة اعتبرتها مهمة وجاءت بالنص: «يرجى زيارة صفحة كلنا خالد سعيد يوم الثلاثاء صباحًا للتأكد من الخطة النهائية فى كل مكان، نرجو من كل سكان هذه المناطق نشر الدعوة بين الأهالى وتوعيتهم باليوم وأهمية المشاركة فيه، وفى حالة عدم قدرتك على الذهاب لأى من هذه الأماكن اتفق مع مجموعة من أصدقائك ونظم مسيرة بمنطقتك».

أشعلت أسماء محفوظ شبكات التواصل الاجتماعى - التى لم يكن لها كل هذا الانتشار - بفيديو قصير سجلته بغرفتها، تدعو فيه إلى النزول يوم 25 يناير، وحظيت بإعجاب شديد، فلم يكن كثيرون يعرفونها، ولا يعرفون خلفيتها، وتعامل معها كثيرون على أنها فتاة شجاعة لا تخاف من نظام مبارك، ولا تخشى من بطش أمن الدولة، بل تتحدى الجميع وتدعو للثورة على الداخلية.

لم يعتقد النظام بكل أجهزته أن تتحول الدعوة التى خرجت من رحم الفيسبوك إلى ثورة، ولذلك تهاونوا فى التعامل معها.

كانت هناك إشارة يوم 25 يناير إلى أن هناك شيئًا مختلفًا، لكن النظام تعامل بثقة لم يكن لها مبرر على الإطلاق.

فى هذا اليوم لم تكن هناك مطالبات برحيل النظام، لكن كان هناك إصرار على الوصول إلى ميدان التحرير والاعتصام فيه، حتى تتحقق مطالب الثوار.

طبقًا للرؤية الأمنية للحدث كانت هناك خطة مكتملة على ثلاث مراحل..

المرحلة الأولى: هى الخطة «أ»، وكانت تهدف إلى عدم خروج المظاهرات من الأساس، حتى لو خرجت فيتم حصارها فى مناطقها، خاصة أن نقاط الانطلاق كانت محددة ومعلنة، لكن الذين نظموا المظاهرات أربكوا قوات الأمن، وخرجوا من مناطق كثيرة غير معلن عنها، ولذلك خرجت المظاهرات دون أن يعترضها أحد.

المرحلة الثانية: هى الخطة «ب»، وكان هدفها منع المتظاهرين من دخول ميدان التحرير، حتى لا تتحول فكرة التظاهر إلى اعتصام، ويكون على قوات الأمن التصدى له ولو بالقوة، وساعتها ستتوالى النتائج التى لا يستطيع أحد أن يحسم نهاياتها، لكن هذه الخطة انهارت تمامًا، بعد إصرار المتظاهرين على دخول الميدان.

المرحلة الثالثة: فى الحادية عشرة من مساء الثلاثاء 25 يناير، حيث قررت الداخلية تفعيل الخطة «ج» وهى فض اعتصام التحرير بالقوة، وهو ما تم تنفيذه على وجه التحديد فى الساعة الثانية عشرة تمامًا.

كنت هناك على بُعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، عندما اقتربت كانت أصوات الرصاص تسيطر على ما عداها، نزلت من كوبرى أكتوبر متجهًا إلى التحرير، على يمينى كان مبنى الحزب الوطنى، وكانت هناك محاولة لاقتحامه، لكن قوات الأمن حالت دون ذلك، كانت رائحة الغاز المسيل للدموع تطارد الجميع، فتراجعت بعد أن عرفت أن الاعتصام تم فضه تمامًا، وتفرَّق المتظاهرون فى الشوارع الجانبية المحيطة بالميدان.

ما جرى كان مهولًا بالفعل..

فقبل أن يحل منتصف ليل الثلاثاء وصلت المواجهة بين المتظاهرين وقوات الأمن إلى ذروتها، أعلن المتظاهرون أنهم مستمرون فى اعتصامهم حتى الصباح، وتواصل تظاهرهم حتى تحقيق مطالبهم التى حددوها وهم فى الميدان بـ«العدالة الاجتماعية ورفع الحد الأدنى للأجور، وإسقاط الحكومة وحل البرلمان».

أنذرت قوات الأمن المتظاهرين، وأخبرتهم بشكل علنى أنها ستبدأ عملية تفريقهم بالقوة.

استعانت أجهزة الأمن بنحو 200 سيارة مصفحة، وما يقرب من 50 أتوبيس نقل عام، وأكثر من 3 آلاف من قوات مكافحة الشغب، و10 آلاف جندى أمن مركزى.

بعد نصف ساعة فقط من التحذيرات، أطلقت السيارات المدرعة الموجودة بجوار مسجد عمر مكرم، ومدخل شارع قصر العينى 50 قنبلة مسيلة للدموع، لتبدأ عمليات الكر والفر بين قوات الأمن والمتظاهرين، انتهت بإخلاء الميدان تمامًا وهروب المتظاهرين إلى الشوارع الجانبية.

هل أقول إن فض الاعتصام بهذه الطريقة المنفعلة والمتوترة والقلقة كان سببًا فى دفع المتظاهرين إلى إكمال مسيرتهم فى تحدى النظام؟

أعتقد أن الإجابة الكاملة هى «نعم».

لقد أدرك المتظاهرون أن النظام لا يثق فى نفسه ثقة كاملة، وأن غروره الذى يتعامل به مع خروجهم ليس إلا ضعفًا كاملًا، ولذلك يمكن أن نعتبر ما حدث فى 25 يناير أول اختبارات «جس النبض» بين المتظاهرين والنظام، ولم تكن النتيجة فى صف النظام على الإطلاق.

اختبار القوة انتقل من القاهرة إلى السويس.

مساء 25 يناير 2011 وفى السابعة والنصف، سقط مصطفى رجب كأول شهيد فى أحداث يناير، تلقى 3 رصاصات أثناء مشاركته فى مظاهرة، كان يمكن علاج الأمر، لكن فى اليوم التالى 26 يناير وأثناء جنازته سقط آخرون، وهو ما كان بداية للغضب، الذى لم يتسامح أصحابه فى الدم، وكانت هذه هى بداية النهاية، فقد تواصل الغضب ليوم 27 يناير، بعد القبض على عدد من المشاركين فى جنازة مصطفى رجب، توجه الأهالى إلى قسم شرطة الأربعين للمطالبة بالإفراج عنهم، فحدثت اشتباكات عنيفة، تم فيها تحطيم قسم الشرطة وإشعال النار فيه، وأعتقد أن هذه كانت البروفة الأولى لحرق أقسام الشرطة التى كانت السمة الأساسية ليوم 28 يناير.

المفارقة أنه على هامش أحداث السويس انتشرت - ما قيل وقتها - أنها نبوءة على نهاية عصر مبارك.

فعندما كان مبارك نائبًا للرئيس السادات قابل عرَّافًا، ولأنه كان شغوفًا بمعرفة مستقبله، طلب منه أن يقرأ له طالعه، يومها قال له العرَّاف: ستدخل حكم مصر بالدم، وستخرج منه بالدم، وقد تحققت النبوءة، فقد حكم مصر بعد أن سال دم الرئيس السادات فى المنصة، وخرج منه بعد أن سال دم مواطن فى السويس.

ولأن النبوءة لم يكن لها أب شرعى، فقد زاد البعض عليها، أن العراف قال لمبارك: عندما يسيل الدم فى السويس ينتهى حكمك، وحاول من روجوا هذه النبوءة أن يسندوها، فقالوا: إن مبارك كان يعانى من شبحها، لذلك لم يزر السويس خلال سنوات حكمه الطويلة، حتى عندما زار بعض المحافظات فى 2005 خلال حملته الانتخابية لم يقترب منها، لأنه كان يعرف أن نهايته مرتبطة بها.

فى المحافظات المختلفة، حاولت القوى السياسية والحقوقية والحزبية أن تحتك بالشرطة، نزلوا فرادى وجماعات إلى الميادين والشوارع، وشارك فى اليومين بعض ممن فاتهم المشاركة فى مظاهرات 25 يناير.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل