المحتوى الرئيسى

حازم حسين يكتب:  سيد حجاب.. وينفلت من بين إدينا الزمان | الفيومية

01/26 12:38

الرئيسيه » رأي » حازم حسين يكتب:  سيد حجاب.. وينفلت من بين إدينا الزمان

لم تكن قاسيا قط في حياتك يا عم سيد، فلماذا لم ترحل كما يليق بك؟ لماذا لم تغادرنا فوق منصة وأنت ترتل روحك معجونة بلعبك الساحر بقاموسنا المستهلك؟ هذا الاحتجاب الواهن خلف ستارة المرض لم يكن يناسب روحك العفية، وهذا الموت الهادئ الخالي من الإيقاع، يختلف تماما عن نبرة حنجرتك ومنطق رصفك للغة والمعنى، كان الأفضل لك ولنا أن تموت بيننا، ليكون الرحيل أصفى وأقسى وأبهى وأوجع، لك رصيد من الحنو والمودة والصفاء يسمح بأن تخمش قلوبنا بجرأة أكبر، ولنا عليك من صلة الروح والشعر والجمال ما يشفع لنا، ويمنعك أن تحرمنا قداسة “الشوفة”.

هل يبدو مؤثرا أن أقول إن شوكة من صبارة عتيقة، مسبوكة في غلاف من فولاذ، اخترقت قلبي اليوم؟ المقام لا يحتمل البلاغة، فقط “رجعت 25 سنة لورا وعرفت معنى اليتم”، والله يا عم سيد لا أعرف سببا لهذا، لست أبي الذي رحل في صيف 92، ولستُ واحدا ممن يقدسون البشر ولو قطفوا نجوم السماء وارتقوا إلى جوار عرش النعمة، ولكن جدارا في الروح انقض اليوم، ولعله لا يُقام، وقد بلغنا من الوهن عتيّا، ولم يعد في مدى الأيام عشم أو بشارة بجميل.

رحمة الله وحده قدّرت أن يأتي خبر ترجلك عن حصان الوعي بهوية هذا البلد، وكان لسانك حصانك، قبل دقائق من انتهاء موعد عملي، كان قاسيا أن أضع يدي في خبر رحيلك، وقد استهلكت في دقائق معدودات طاقة تتجاوز ما بذلته لتخطي محن المرض والفقر والفقد وانخلاع الأهل والأحبة والأصدقاء طوال سنوات، لأكتم زفرة اشتعلت في الصدر وتضخمت سريعا سريعا لتصنع بركانا، جاهدت ورسمت ابتسامة صفراء، ونزلت سريعا، من الأسانسير للشارع للمواصلات، سيارة بعد سيارة، أهرول إلى البيت ولا أعرف لماذا، وما إن وصلت واختليت بنفسي، حتى تفجرت نافورة من الدمع اللزج، وكأنه تخثر من طول كتمان، أو كان مخزونا منذ موت أبي وضياع حبيبتي واغتيال ثورتي وانتهاك بلادي، لماذا فجرت دموعي يا عم سيد؟ بالله عليك تعبت من البكاء يا رجل، هل هانت عليك دموع محبيك؟

قد يبدو الأمر رومانسيا، أنا المتمرد الذي لا يؤمن بالآباء، ويرى جيله مظلوما ومنكرا من سابقيه ولاحقيه، هل يستحق رحيل شاعر أحبه كل هذا الحزن؟ وماذا إن كان الأمر بعيدا عن الشعر أصلا؟ هذا الرجل منذ عرفته لأول مرة قبل ما يقرب من ثماني عشرة سنة، تسلل بخفة وعفرتة تشبهان خفة وعفرتة كتابته، إلى مساحة في صناديق القلب والوعي والروح، لا يمكن اختزالها وتوصيفها بتقدير شاعر لشاعر، ولا إنسان لإنسان، ولا يتيم لأب وافر الأبوة، كان كل هذا وأكثر، رأيت الله والمحبة في عينيه غير مرة، جالست الملائكة والشياطين في حضرته، شممت الورد على تنوعه هفهافا وطيارا من بين شفتيه، ورأيت خريطة مصر في اتساع جبهته وتجاور ملامحه وحسن طبوغرافية وجهه، خداه قربتا حليب صابح وأنا الطفل الماكث على رجاء الإفطار، أنفه دُشمة حصينة تُحلّق على مخازن الكرامة والأنفة، وأذناه هلالان يبشران بمواقيت للسابلة والعابرين ومن يشتاقون حبيبا ومستمعا، وصوته عجينة متماسكة القوام، وضعت أمي موفور خبرتها وساخن دموعها فيها، وتركتها في الندى ألف ليلة وليلة، فمرت عليها روح أبي، وأرواح القديسين والصعاليك والحكماء والفلاسفة والملوك والعبيد، ورشقتها السماء بكنانة سهام ضوئية كاملة، فاختمرت وربت ونضجت من غير نار ولا تنور.

لم يكن سيد حجاب إله العامية، ولكنه أحد قديسيها وأنجب خلصائها، ولعله الأجمل والأصفى والأقدر عليها بعد فؤاد حداد، لا سميّ له ولا نظير، لم يخالطها مخالطة الصانع لأداة صنعته، اقترب منها بروح الشاعر ووعي الحكيم وعمق الفيلسوف، عرف حقيقة أن جلالها في بنيتها وتصاوتها، وأن بلاغتها في اكتنازها ومخاتلتها، وأن سموها وارتقاءها في نزولها ومخالطتها للسان الناس ومطروقهم، فتواضع لها وبها، حتى لامست الأرض، فأنجبت من الطين دراما خضراء وأماثيل ملونة، وفلسفة خالصة، في أطباق من فخار، يعجب الفلاسفة تلبيسها عباءة اليومي والعادي، ويطعم العاديون خلاصتها وجوهرها، لهذا وبهذا تفوق على كل المحيطين به، حتى من يفوقونه موهبة وخيالا، كان الأكثر فراسة وفروسية وافتراسا، وكان حجابا يميز القار من العرضي، والهوياتي من المتحول، وكان سيدا، بينما يتراجع للخلف في كل جملة، مقدما أصحابها الحقيقيين ومستحقيها الأصليين.

هل يستحق سيد حجاب الحزن؟ بالنسبة لي، وأنا في حال انكسار ظهر وانحسار روح وشج عقل وقلب، يستحق ما يعتمل داخلي الآن من سخونة وغليان يذيبان الذاكرة ويقطّرانها صورا ومواقف ودموعا وقصائد وأغنيات، وبالنسبة لمن يعرفون قدره يستحق رثاء احتفائيا وصورة وكلمتين محبوكتي الرصف، وبالنسبة لمن يجهلونه مجرد راحل متأخر في طابور طويل من الراحلين، ولكنني أجزم، ومعي على ذلك دمعي وحرقة قلبي شهود وقضاة، أنه بالنسبة لمصر قطعة من كبد، أو طرف من أطرافها، والبتر قاس على صاحبه، وليس مجرد عكاز كما يراه الرائي، فلماذا يا عم سيد؟ لماذا فعلتها بكل هذا الجبروت الاضطراري والسكينة الاختيارية؟

سيد حجاب.. نم قرير الروح، يليق بك هذا، ولتذهب نفوسنا – على مسلسل النزيف العاصف بكل جميل ونبيل – حسرات.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل