المحتوى الرئيسى

حرمة الحياة الخاصة فى الدين والقانون والمواثيق الدولية

01/24 21:37

عشنا مساء يوم 7 يناير الحالى ليلة شاهدنا فيها السقوط المدوى للقانون فى إحدى القنوات الفضائية، والإهدار الصارخ لحقوق الإنسان بالتعدى على حرمة الحياة الخاصة للدكتور محمد البرادعى بإذاعة مكالمته الشخصية مع أفراد أسرته وأصدقائه على الملأ، وسأعرض فيما يلى بعض جوانب حرمة الحياة الخاصة من وجهة نظر الدين والقانون والمواثيق الدولية..

فالإسلام جعل فى حياة كل منا منطقة خاصة لا يجوز للناس أن يقتحموها، والقرآن حرم التجسس نصا «ولا تجسسوا»، وأمرنا باجتناب الكثير من الظن: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا» ( الآية 12 ــ سورة الحجرات).

كما أمرنا بالتثبت من الأنباء إذا جاء بها فاسق: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » ( الآية 6 ــ سورة الحجرات ). ويحضرنى فى هذا السياق واقعة عميقة المغزى حدثت فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حيث فاجأ فى إحدى الليالى أحد رعاياه وهو يحتسى الخمر فى بيته والتى انتهت بشبه محاكمة أدان فيه العاصى أمير المؤمنين حيث قال له إن كنت عصيت الله فى واحدة فقد عصيته أنت يا أمير المؤمنين فى ثلاثة: فقد تجسست علىّ، ولم تدخل البيوت من أبوابها، ثم دخلت بغير استئذان، وجميعها ينهانا الله عنها فى كتابه الكريم.

وانتهت هذه القصة الجميلة بأمير المؤمنين يطلب العفو من المذنب، ونلاحظ هنا أن المسلمين كانوا لا يهابون السلطة ويجادلون الحكام مهما علا قدرهم.

وقد نصت الشريعة الإسلامية – استنادا إلى القرآن والكثير من الأحاديث النبوية – على تحريم التلصص واستراق السمع، وكذلك فى المسيحية، وإن لم يوجد نص صريح إلا أن التجسس يناهض كل المبادئ المسيحية مثل مبدأ «عامل الناس بمثل ما تحب أن تتعامل به»، ولا أحد يحب أن تقتحم خصوصياته وتذاع على الملأ، كما أن المسيحية، شأنها شأن الإسلام، تنهى عن الغيبة والنميمة وإفشاء الأسرار: «إذا أذنب أخاك فأذهب إليه وأصلحه فى السر» ( ماثيو Matthew 18.15).

تزخر المواثيق الدولية بالمواد التى تصون حرمة الحياة الخاصة وتحرم اختراقها وتجرم هذا العمل، فالمادة 12 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان تنص على عدم المساس بخصوصيات الإنسان وعائلته وبيته ومراسلاته وعدم المساس بشرفه وكرامته وسمعته، والجميع لهم الحق فى الحصول على حماية القانون ضد هذه الجرائم، وهناك نص مشابه بالعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية (المادة 17).

ويعرف الأستاذ الدكتور حسام الدين الأهوانى أستاذ القانون الدولى الحق فى الحياة الخاصة بأنه «حق الإنسان فى أن يكون بعيدا عن تجسس الغير وأعينهم، ولا يجوز نشر ما يتم العلم به دون إذن صاحب الشأن، وحمايتها من أن تلوكها الألسن عن طرق النشر» ( الكتاب الصادر عن الندوة التى نظمتها وزارة الخارجية بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP حول ضمانات حماية حقوق الإنسان فى الدستور والتشريعات المصرية فى يوليو 2000 ).

يضيف «إن كل ما يدور فى مكان خاص (البيت أو المكتب الخاص مثلا) يعتبر بالضرورة خصوصيا، فالمادة 309 مكررا من قانون العقوبات «تجرم المساس بحرمة الحياة الخاصة من خلال التنصت أو التسجيل، ويضاف إلى ذلك أن الخصوصية تتوفر دائما فى المحادثة التليفونية، فالتليفون يعتبر من مستودعات الحياة الخاصة شأنه شأن المنزل ومجرد الإطلاع على ما يدور من خلاله يعتبر مساسا بالحق فى الخصوصية، فالاعتداء على الحياة الخاصة يتحقق منذ بدء التنصت وليس بعد نهايته وتفريغ ما جاء فى التسجيل، أما إذاعته على الملأ فهى جريمة أخرى، حتى لو تم العلم بالوقائع بطريقة مشروعة».

يشير الدكتور الأهوانى إلى وجوب عدم الخلط بين الحق فى الحياة الخاصة والحق فى السرية، فوقائع الحياة الخاصة قد لا تكون سرية ومع هذا فلا يجوز إذاعتها أو نشرها إلا بعد الحصول على إذن صاحب الشأن.

المساس بالحياة الخاصة قد يتحقق دون أن يتوافر القذف، فمجرد الكشف عنها يعتبر اعتداء حتى لو كانت تلك الوقائع لا تشين صاحبها.

وضع القانون ضوابط صارمة للحفاظ على حرمة الحياة الخاصة فقرر تجريم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطن بارتكاب عدد من الأفعال فى غير الأحوال المصرح بها قانونا أو بغير رضا المجنى عليه – من بينها استراق السمع أو تسجيل أو نقل عن طريق جهاز من الأجهزة أيا كان نوعه محادثات جرت فى مكان خاص أو عن طريق التليفون، وتجريم إذاعته تسجيلا أو مستندا متحصلا عليه بإحدى الطرق المبينة فى المادة السابقة إذا كان بغير رضاء صاحب الشأن، ويعاقب الموظف العام الذى يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتمادا على سلطة وظيفته ( المادة 309 مكرر أ/3 ).

قد بدأ مروجو «التسريبات» يروجون لدفوع ظاهرها صحيح وباطنها باطل، فهم يدافعون عن أنفسهم بأن ضرورات المصلحة العامة تعد سببا لإباحة الكشف عن الخصوصية، ولكن السؤال هو من الذى يحدد المقصود بالمصلحة العامة، ويجيب رجال القانون بأن تحديد المقصود بالمصلحة العامة يخضع لتقدير القاضى فى ضوء الأوضاع السائدة فى البلاد وفى ضوء الأفكار السائدة فى المجتمع وما تجرى عليه التقاليد والأخلاقيات.

ويضيف الدكتور الأهوانى «بأنه إذا كانت المصلحة العامة تبرر نشر ما يتعلق بالشخصيات العامة، إلا أن ذلك لا يبرر التجسس والتحرى عن الحياة الخاصة، فلا يجوز ذلك إلا وفقا للضوابط التى يضعها القانون مثل إذن قاضى التحقيق».

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل