المحتوى الرئيسى

طارق القزيري يكتب: لماذا اختلفت الثورة في تونس عن ليبيا | ساسة بوست

01/24 05:33

منذ 3 أيام، 21 يناير,2017

مع مرور الذكرى السادسة للثورة التونسية عام 2011 واقتراب نفس الذكرى للثورة الليبية، ينصرف النظر بشكل تلقائي للمناظرة بين الحدثين ومفاعيلهما، داخليًا وخارجيًا، ليس فقط بسبب التعاقب التاريخي أو علاقة السببية (بنظر البعض)، ولا حتى لعلاقة الجوار الجغرافي، وما تبعه من ارتباط اقتصادي (أهلي عفوي، ولو ممنهج أكثر منه رسمي مؤسسي)، ولا أيضًا للعلاقات الوثيقة بين حكام الدولتين سابقًا، فهذه كل ربما تكون مقدمة لجعل المقارنة مغرية، بل مطلوبة.

فهاتان الثورتان إضافة لما تقدم هما ضمن موجة ما عرف بـ«الربيع العربي»، لكنهما اختلفتا في سياقهما الداخلي، ما بين هبة شعبية وتغيير مؤسساتي، أفضى لمسار دستوري مختلف ومشابه لسابقه في تونس، ومن جهة ليبيا كانت هبة شعبية أيضًا، لكنها أفضت لتأجيج صراع محلي عنيف مسلح لشهور عدة، رافقه تدخل غربي أثار جدلًا واسعا، وأنتج نظامًا سياسيًا على غير سابقة تاريخية راسخة، في البلاد.

هنا نحاول رصد ما اختلف في البلدين تاريخيًا وبنيويًا، وهي معطيات، وإن امتنع ادعاء حصرها وشمولها لكل مبررات الاختلاف، لكنها تفتح الباب أمام توسيع وتعميق النظر، في طبيعة مجتمعاتنا، وهو شأن مستمر بحثيًا بشكل أو بآخر.

يذهب «رودجر أوين» في مؤلفه «الحكام العرب: مراحل الصعود والسقوط» في تقسيمه لطبائع الأنظمة الحاكمة عربيًا، إلى شكل أول منه «تونس» يسميه بالمركزي، حيث استقت الأنظمة شرعيتها من الكفاح لأجل الاستقلال، وأسست نظامًا مؤسساتيًا حزبيًا، ولو شكلي، سمح لها بإدارة البلاد عبر منظومة أمنية وعسكرية، بالرغم من وجود نمط تعددي ونقابي بدرجة أو بأخرى.

في حين يجعل نفس الكاتب «ليبيا» في الشكل الثاني حين يكون النظام أو الحاكم «رئيسًا – مديرًا» للتوازنات القبلية والاجتماعية، دون محالة إيقافها، أو إلغائها، ليتحول النظام إلى ضامن للمصالح، عبر دخوله في صميم النسيج الصراعي كمدير ومنشط، أكثر منه طرف، فيصبح استقرار النظام ومصالح المتصارعين مرتهنًا به مباشرة، وهذا الأمر من الطبيعي أن يشوه ولادة المؤسسات، ويجعل لها قيمة سياسية وأجتماعية مختلفة تمامًا عن المطلوب نظريًا.

وبناء على هذا، فمع زوال حكم العقيد «القذافي» في ليبيا، لم يعد يمكن للمؤسسات في ليبيا أداء أي دور في غياب «المدير» بينما تولى النظام الأمني والعسكري، وحتى بقايا النظام السياسي الذي انفصل عن رأس السلطة في تونس، تولى إدارة البلاد ضمنيًا لتحقيق نقلة ملائمة، ولو نسبيا لطموحات النخب المجتمعية.

وفي حين بدأت محاولات ترتيب «لعله خلق» نسق مؤسساتي جديد في ليبيا، استؤنفت في تونس أشغال المؤسسات القائمة، يكفي معرفة من تولى رئاسة البلاد عقب الإطاحة بزين العابدين بن علي، لنعلم كيف ساهمت المؤسسة القائمة في تحقيق مرحلة ما بعد الثورة، بشكل مناقض للجار الشرقي تمامًا.

اختلاف بنية وتكوين المؤسسات، كما ورد آنفا، لم يكن كافيًا لإحداث هذا الفارق والأثر؛ لولا ما ماحدث في أعقاب إزاحة الحكام من البلدين، ففي تونس، ولأن المؤسسة العسكرية (والأمنية) والسياسية، كانت السبب الحاسم في تغيير الموقف لصالح المنتفضين، فقد تدعم موقف هذه المؤسسة بشكل أساسي، حتى وإن اختلف الأشخاص.

بينما في ليبيا، ولأسباب منها الصدام المسلح الذي كان منطقيا أن يعمد المنتصرون فيه إلى تصفية حسابهم الشرس مع بقايا المؤسسات، بشكل غير معقول – كما يتضح الآن على الأقل – يكفي مثلًا أنه لم يتم استنئاف عمل أية صحيفة كانت تصدر قبل 20 اغسطس (آب)2011 (تاريخ دخول قوات الثوار للعاصمة طرابلس)، ليس من حيث المسميات فقط، بل أيضًا اعتبر الفنيين والصحافيين المحررين جزء من المنظومة سابقًا في غالب الأحيان.

حاولت عدة أطراف – منها الأمم المتحدة – لجم النزعة المتوثبة، لاستئصال بقايا عناصر إدارة الدولة، وتقليل مترتبات ذلك، ولكن دون جدوى، بالنظر لهذا يمكن للمرء أن يتفهم المرء كيف كان «قانون العزل السياسي» قد روج له باعتباره استراتيجية تصفية لمن اعتبروا من بقايا النظام، لكن الأمر لم يتوقف حتى عند الفئة البيروقراطية في مفاصل الدولة في مركزها، بل تجاوزه حتى للأطراف والقرى. مع عدم الاعتراف بحقيقة كيف كان هذا القانون يستهدف ضمنيًا لا عناصر النظام السابق المعادين لثورة فبراير (شباط) فحسب، بل في الغالب، من احتسب بشكل أو بآخر على النظام السابق، وساهم في قيادة الثورة الليبية، وقيل إنه عقبة أمامها حين جاء موسم توزيع التركة، لقد كان انقلابًا قانونيًا داخل الثورة.

من الممكن القول إن «هستيريا» العزل السياسي في ليبيا، بقدر ما كانت محاولة راديكالية لتصفية وصيانة «دولة الثورة» فقد كانت سببًا مباشرًا في ترهل وتفسخ هذه الدولة بشكل قياسي بفعل غياب الخبرة، وكذلك انتجت معارضة صميمية ونقمة عريضة، خاصة وأن العزل احتسب على فريق بعينه هم الإسلاميون؛ ما ضاعف محنة هذه المؤسسات، وهي لازالت طافية على سطح هو ذاته متحرك، فكانت الصراعات بسبب هذا التعامل مع الدولة وإداراتها منتجة لحالة مختلفة عن تونس، التي تجاوزت هذه الصراع الجنيني، لتحصد نموًا أكثر سلاسة، وإن شابه توتر سياسي لا مؤسسي.

لا يمر بسهولة عند محاولة النظر في هذا السياق، عدم ملاحظة أن الزعيم التاريخي لاستقلال تونس الحبيب بورقيبة – الشائع جدا أنه من أصول ليبية – أسس نضاله ضمن تسمية «حزب – دستوري» وهو ما يعكس، بعد قرابة 55 عامًا على الاستقلال، إحساسًا بمعنى العمل الجماعي السياسي، وبالنظر أيضًا لوجود عمل نقابي تاريخي – اتحاد الشغل مثلًا – فقد كانت الرهانات الوطنية، في حقية الكفاح لنيل الاستقلال وكذا الرهانات السياسية، منتظمة في إطار جماعي، ولم يتواجد قادة وشخصيات مبرزة غالبًا خارج إطار مؤسسة حزبية أو نقابية.

في ليبيا – التي أعلن استقلالها قبل تونس بـ 5 سنوات – كان الإطار الفردي هو الغالب، فالمحاولات الحزبية التي ساهمت في الاستقلال، توقفت تمامًا في العهد الملكي، الذي لم يشرعن الحزبية، واعتمد التمثيل الفردي في برلمان ما بعد الاستقلال، وبات الفضاء السياسي فردي الطابع، أو سريًا من حيث أي عمل جماعي. ولم يواصل نظام سبتمبر عقب اطاحته بالملكية منع الحزبية، بل حرّك، وركز آلته الدعائية ضدها بالذات، وكان مشهورًا في أيدولوجية ما قبل فبراير (شباط) مقولة «من تحزب خان»، بل ينص «الكتاب الأخضر» حرفيًا على أن «الحزبية إجهاض للديمقراطية»، وهذا المضمون تعمق مع آليات الترسيب والتراكم في نظام شمولي وقمعي.

فمن السهل إذن استنتاج أن المخيلة السياسية والوعي بالممارسة السياسية ظل فرديًا، يقاوم بيئة عمل لم يعتد عليها، فاجتمع طبيعة الدولة التي يديرها الرئيس، ومؤسساتها المهددة بالاجتثاث، وثقافة عمل وخبرة مؤسساتية مفقودة، ليسهل تبين لماذا فشلت إدارة الدولة في ليبيا، واستطاعت الدولة في تونس أن تخطو بسلامة نحو مرحلة جديدة!

الدولة الريعية وطبيعة القطاع الخاص

خلال الأزمة السياسية في تونس بين حركة النهضة وخصومها العلمانيين، كان ملخص أو جوهر «دفاع – هجوم» كل الفرقاء، بل مبرر التوافق، هو مقولة «البلاد لا تحتمل» أو «الاقتصاد لا يحتمل» كان لطبيعة الاقتصاد التونسي تأثير مباشر على الجميع هناك؛ لتجنيب البلاد حالة عطالة أكثر مما تعانيه بالفعل، لم يكن هناك أي طرف يجرؤ على تحمل استدامة الركود، كما لا يتخيل أحد أن هذا الركود سيمكن إدارته لو استفحل أكثر، فكان الجنوح لتسوية «سياسية تاريخية» منقذًا للنخب السياسية، مثلما هو ملائم لتجنيب البلاد ما ذكر.

في ليبيا كان الأمر مختلفًا، فثروات البلد النفطية واقتصاد الريع باعتماد غالب المواطنين على الدولة مالم يكن بالمرتبات (ثلث الميزانية على الأقل = قرابة 25 مليار عام 2013)، فعبر الدعم للتجار، سواء بالقروض أو بتسهيل سعر صرف للعملات الاجنبية، يختلف عن السوق الموازي، فالدولة الريعية، كانت تدعم رجال الأعمال أيضًا، وليس عموم المواطنين فقط.

وهذا الأمر في ليبيا هو نتيجة لما تعرض له القطاع التجاري، فقد اعتمدت أجندة النظام السابق  –  نظام القذافي – الاقتصادية، على منع التجارة، بل وصل الأمر ببعض مريدي النظام إلى تحريم التجارة الخاصة، في فتاوى وتأصيلات فقهية، لتأييد التوجه الإشتراكي آنذاك، ولم ينته الأمر، إلا بتعرض النظام إلى ضغوط هددت استقراره بعد اخفاقات في الخارج مثل «حرب تشاد»، ثم بداية عصر انفتاح، أطلق العنان فيه، لغايات التربح، والنماذج الطفيلية الاقتصادية، فلم يكن هناك رأس مال وطني حقيقي، بمفهوم إنتاجي، ولا ضمن منافسة بقوانين لعبة تجارية حقيقية.

ومع بدء «دولة الثورة» التي حاولت كسب الثوار السابقين – حملة السلاح لاحقًا – ساد نفس المنطق، وبات التاجر ورجل الأعمال، هو من يمكنه الحصول على تسهيلات من الدولة وبنكها المركزي أو بنوكها عمومًا، ولم يكن هناك أجراس تنبيه مسموعة، عن أزمة اقتصادية أو كارثة معيشية قادمة، تجعل الفرقاء السياسيين، يحجمون عن توظيف الميليشيات في صراعاتهم السياسية – والمسلحة لاحقًا.

عاش الجميع على خزانة الدولة، كل المتصارعين كان لديهم معينا لا ينضب، لتمويل أغراضه، فكانت مرتبات الميلشيات لا تقف عند أحد دون سواه، ولم يكن ثمة حاجة محسوسة، تدفع للتوافق السياسي والتنازلات، فغاب تبين عواقب مالم يكن في الحسبان وهو : نفاد بيت مال المواطنين.

لم تختلف تونس عن ليبيا في تدهور الأوضاع الأمنية، وسيادة التحذيرات من الإرهاب، لكن النظر بتمعن قليلًا يشرح عدم فوارق جلية بين البلدين ساهمت، في خلق وضع أمني مختلف، نتج عنه استتاب الأمن في بلاد الياسمين، ولو نسبيا، واطراد تدهوره في أرض ثوار فبراير.

سببت مساحة ليبيا الضخمة عدم قدرة السلطة المركزية على بسط نفوذها بشكل حقيقي، ومع وجود صحراء مترامية، جوار ليبي لست دولة، لم يكن أي منها معافىً أمنيا بحال، بل كانت المنطقة مكانًا لأحد أكبر شبكات التهريب والجريمة والمنظمة والإرهاب، بلا جدال.

النيجر خلفها مالي، ثم نيجيريا، وجنوب الجزائر، شمال تشاد، متمردي السودان، ومصر (قبل حكم الإسلاميين أو خلال الصراع معهم) كانت بيئة خصبة لتغذية حالة الانفلات الموجودة فعلًا في ليبيا، والمنتشية بانتشار للسلاح، وكما ذكرنا دعم شبه رسمي للعنف الداخلي من قبل الدولة، كل هذا جعل المآل عن الحالتين التونسية والليبية ونتائجهما غير ممكن الاتفاق أو التشابه.

فيما لم تعان تونس سوى من جهة واحدة، هي الجزائر، وعلى العكس شكلت ليبيا منفذًا للتخفيف بمحاولة إنشاء تمركز «داعشي» في ليبيا، ومن شأن التحذيرات من عودة دواعش تونس لبلادهم حابيًا من ليبيا وغيرها، أن يشرح ذلك بوضوح!

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل