المحتوى الرئيسى

أشباح الغابة ومَغْسلة الكلمات

01/23 22:23

لستُ أدرى لمَ تذكرتُ كتاب «هزم هتلر» للسياسى الإسرائيلى المخضرم أفراهام بورج. فقد وجدتُ يدى تمتد إلى مكتبتى لأتناول فصولا منه كنتُ قد ترجمتُها منذ زمن، وجعلتُ أقرأ فيها قراءة حركت شجونى. اسمحوا لى أن أشرككم فيها.

كان كل شىء فى حياة أفراهام يوسف بورج يؤهله لأن يكون نموذجا للسياسى الإسرائيلى الأمثل، وهو من تدرج فى كبرى الوظائف حتى تبوأ على التوالى منصبى رئيس المجلس اليهودى العالمى فرئيس الكنيست الإسرائيلى. لكن يبدو أن علَّة مفاجئة ألمت به.

لعل أهم أعراضها صحوة العقل واستيقاظ الضمير.

وفى كتابه «هزم هتلر»، يصف المؤلفُ وطنا يقف على أعتاب الصهيونازية، وطنا استمرأ ذهنية الدولة ضحية المؤامرات، التى أسلمته إلى حالة من البارانويا المجتمعية الصارخة، وسوغت له ارتكاب أسوأ الجرائم بذريعة الدفاع عن الذات. وبكثير من القلق، يقرّ المؤلفُ بأن الهياكل الحكومية والاجتماعية والقومية التى تقوم عليها دولة إسرائيل تتشابه إلى حد التطابق مع مثيلاتها التى سادت عند لحظة قيام ألمانيا النازية!

لا يفوت الكاتب تعداد أوجه الشبه بين النظام الإسرائيلى ونظام بيسمارك الذى أفضى إلى وصول هتلر إلى سدة الحكم فى ألمانيا: من جنوح لإضفاء القدسية على قيم مشبوهة مثل الشوفينية، ولجوء غريزى للقوة، وهاجس «الأمن القومى» المقدس؛ ودولة لا تملك إزاء أزماتها غيرَ سبيل الصرامة والجمود السياسى والاجتماعى، مرتكزة فى ذلك على استعداد الشعب لتقبل الأحكام المسبقة وممارسات التمييز العنصرى الموجهة ضد الآخر أو ضد الخصوم، حقيقيين كانوا أم متخيَّلين، حتى باتت نشوة تمجيد القوة تغطى على أى محاولة جادة لإعادة إحياء مشروع وطنى حقيقى أو لإصلاح مجتمع ونظام أصابهما الفساد والعفن.

أواصل تصفح كتاب بورج، فيتناهى إلى سمعى صوت الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت، حاسما منددا، وهى تصف فى كتابها الشهير «آيخمان فى القدس» كيف أصبح الكذب جزءا لا يتجزأ من الشخصية القومية الألمانية، وكيف قامت شعارات هتلر وجوبلز بالتلاعب بالجماعات والسيطرة على الرأى العام عن طريق إذكاء مشاعر الخوف القومى الهستيرى، بتصوير غابة ظلماء آهلة بالأشباح ومسكونة بالأرواح الشريرة يعربد فيه أعداءٌ مبهمون مترصدون.

تلك الغابة الظلماء أعادت إسرائيل استزراعها فى تربتها لتبرير اغتصاب الحقوق وقمع الحريات فى الأراضى المحتلة، الأمر الذى دعا الأديب عاموس أوز إلى توجيه خطاب مفتوح إلى رئيس الوزراء الأسبق مناحم بيجن، نشرته يديعوت أحرونوت إثر غزو لبنان فى 82، ويورده بورج فى كتابه. يقول أوز فى خطابه: «السيد بيجن.. مرة أخرى ومثلما كان دوما دأبك، ها أنت تكشف لعامة الناس عن نزعة عجيبة فيك، نزعة تجنح إلى إعادة إحياء هتلر لتتمكن من قتله كل يوم. إن تلك النزعة التى تهدف إلى بعث هتلر وتصفيته مرارا وتكرارا فى حروبك، هى نتاج قلق نفسى قد يعبر عنه الشعراء، ولكن تلك النزعة إذا ما راودت رجال الدولة تصبح خطرا مدمرا يورد البلاد موارد الهلاك..».

ولم يكن السجال بين عاموس أوز ومناحم بيجن، محض سجال حول طريقته فى إيقاظ مخاوف الرأى العام بتكرار تشبيه عرفات بهتلر ونعت الفلسطينيين بالإرهابيين، بل كان أيضا سجالا حول نوعية البلاغة الخطابية التى استخدمها بيجن. إذ تعلق الجدال وقتها بإحدى أهم أدوات التدليس والإنكار، ألا وهى الكلمات، أو بتعبير أدق الكلمات «المغسولة»، كما سماها بورج. فبفضلها يصبح الواقعُ القذرُ نظيفا، ويمسى الأسود الحالك أبيضا ناصعا، ويضحى الشرُ المطلق خيرا مبينا.

فعلى سبيل المثال، كانت الآلة الإعلامية النازية تستخدم الوسائل المباشرة وغير المباشرة لغسل دماغ الشعب، وفى مقدمتها الكلمات المغسولة. إذ يشير الكاتب إلى أن ملفات الأرشيف الألمانية لا تكاد تستخدم مفردات مثل «إبادة»، أو«تصفية»، أو«اغتيال»، أو«مجزرة»، وإنما تعمد إلى استعمال كلمات مثل «إخلاء»، و«معاملة خاصة»، و«إعادة إقرار»، و«العمل فى الشرق»، و«تغيير محل الإقامة»، و«الحل النهائى». وكلها مفردات خادعة مبهمة، مفرغة من مضمونها، تعمد إلى التعمية، وتخفى أكثر مما تكشف، مثلها مثل إصرار جيش الاحتلال على أن يسمى نفسه بجيش «الدفاع» الإسرائيلى.

هنا يستحضر أفراهام بورج وجها منيرا من وجوه مقاومة التدليس الاستعمارى، ألا وهو وجه المناضل والفيلسوف فرانز فانون، الذى كتب فى كتابه «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» منددا باستخدام اللغة كأداة للقهر ووسيلة للكذب باسم الحضارة: «يقتضى التكلم بلغة ما التمكن من علم قواعدها، وكذا من علم الصرف والاشتقاق، ولكنه يقتضى قبل ذلك استيعاب ثقافة، وتحمل تبعات حضارة».

وهو ما يقر به بورج فى اعتراف هز مجتمعه يوم نُشر الكتاب إذ قال: «إننا نعيش فى حضارة صنعتها كلماتٌ «مغسولة»، ومفرداتٌ كاذبة، كان نتاجها ثقافةٌ كاذبة، ومجتمعٌ بارد ومغلق، وأسوأ من ذلك كله، مصطلحات مبهمة صكتها الدولة بهدف السماح لمواطنيها ولشركائها بالتنصل من مسئولية الجرائم التى اقترفتها باسمهم، ولكى يقول كل منا: «لم أكن أعلم»، «لم أفهم»، «لم يخبرنى أحد»، «الصحف لم تنشر شيئا عن هذه الجرائم»..فى حين أن الصحف كتبت ونشرت، ولكنها استخدمت عبارات تسمح بتجاهل المعنى الحقيقى للكلمات. نعم، الصحف كتبت، ولكن بالقدر الذى جعل الناس يتعامون عما يفضلون التعامى عنه».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل