المحتوى الرئيسى

في المقهى!

01/22 23:39

جلسنا نحتسي القهوة على طاولة بُنّية مكسورة الجانب الأيسر، في مقهىً بحيِّنا المليء بالوحل بسبب المطر، كان الجو حزيناً جداً، أخذ صديقي كأس الشاي ليخطف شربة، ثم تنهد وقال: "الحمد لله على هذه النعمة...". وإذا بصوت من بعيد ينهال قصفاً في طاولة من داخل المقهى: "وشمن نعمة رحمة على والديك؟ على الطابلة اللي راك فيها ولّا الغرقة إلى حاصلين في جدها؟ وشمن نعمة ياو الشعب مات صح ما عندكم لا نخوة لا نيف وأنتم أصلاً مشــ... إلخ".

لم أتذكر تفاصيل وجهه حينما التفت إليه، لكن كل من في المقهى كان يرفع رأسه وينزع وكأنهم يوافقون على كل ما يقول. لكن ما يبدو عليه، هو أنه يحمل جريدة "الوطن" الفرنسية Elwatan، يلوح بها وهو يصرخ ويتكلم...

شيخ إلى حد ما، ربما كان من الحركى مثلاً أو المجاهدين، فكلهم يحب ذلك النوع من الصحف وكلهم يحلِق لحيته ويترك شاربه ويرتمي في شعر شاربه بعض من الشيب، يلبسون الجاكيت والسروال الشبابي، كلهم نوع واحد في الذوق رغم اختلاف مبادئهم قديماً!

ضحك صديقي ضحكاً ممزوجاً بالصراخ رداً عليه، وأخبره بأن الحياة بالوحل بكأس شاي على طاولة منهوشة خير من حمله تلك الصحيفة الخرقاء التي تملي عليه أفكاراً منهوشة ومشوهة المبادئ هي الأخرى، وأن نموت ونحن بطاولة منهوشة خير من أن نموت غضباً أو دفاعاً عن مبادئ محتل.

أتعلمون؟ هناك أمر عجيب في بلدي...

الكثيرون يصرخون في هذا البلد يحملون سجائرهم وكأس القهوة الأدهم وينادون بأن الشعب ميت، والكثيرون في هذا البلد من جهة أخرى أيضاً يحملون حقائب وأقلاماً فاخرة ويرتدون أقمصة الإطارات ويصرخون وينادون بأن الشعب حي، كلاهما عمله الصراخ فقط، قليلون هم من يتحركون في صمت!

الذين يصنعون الأمل في حياة الشعوب مثل أصحاب الكوستيم الذين يبدأون باسم الله في كل كلامهم، يريدون للحياة أن تبقى على ما هي عليه لا أن تتغير، وكأن الشعوب كلها مثلهم يستطيعون فعل أي شيء، والمستحيل لا يوجد حتى في قرارات أنفسهم الغارقة في وحل أنانيتهم.. يعدّون أنفسهم شعب الله المختار وأنهم الفرقة الناجية ويدْعون للتحلي بالأمل وليس العمل هكذا هم.

لا شك في أن الكثير يترك بصماته في كل حديث مع جماعة ما "إن الشعب غبي وأحمق ولقد ذُلّ ومات!"، دون أن يتساءل: ما محله هو من هذا المجتمع؟ وكيف لمجتمع ميت يعرف أنه ميت!... وكيف هو موت الشعوب أصلاً: أهو بربيعها الدموي أم ربيعها المعرفي؟

يأتي آخر: "ما زال الخير في المجتمع والصبر يا جماعة الصبر، وبعد العسر يسر"، دون أن يتساءل هو الآخر: إلى متى؟ لأن هذه الكلمة قد مضى عليها أكثر من عقد من الزمن، وهل يأتي الأمل في الوقوف مكتوفي الأيدي أم بالعمل والمساعدة وليس الوقوف على المنصات وأخذ الميكرفون والتكلم بكل حماقة على أشياء لم تكن إلا في الأوراق والكتب والأساطير؟ يبدأ باسم الله وينتهي بحمده ويده بيضاء ناصعة من كثرة الوضوء للصلوات الخمس أو الوضوء للأكلات والولائم!

إن كليهما يصب في مجرى واحد؛ الكلام لا غير، كما أن الذين يتحركون بأعمالهم وينصبون كل الحيل ويأتون على الأبواب المغلقة ليفتحوها قليلون في هذا الوطن التعيس وهذا البلد الذي تألم فيه المجتمع كثيراً حتى سئم كل شيء.

لقد تعب الجميع، حتى الحروف التي سفكت الكثير من الحبر تعبت هي الأخرى، لقد هرم الشباب وشبّ الصغار، حتى إنك حينما تجلس في أي مكان وتتحدث سيوافقونك مهما قلت؛ لأنهم أصلاً ما عاد يحتوي ألمَهم شيء، المجاهدون والحركى في بلدي في خط واحد، والمجتمع والأرض والحيوانات والأغصان المتساقطة وعرف النعناع والقطط والكلاب التائهة، كلها هي الأخرى خط واحد.

أعتذر؛ لقد نسيت نفسي وبرَد الشاي في هذا المقهى المعتوه..

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل