المحتوى الرئيسى

البرلمان والدستور والاتفاقية

01/22 21:59

يثور جدل كبير هذه الأيام حول حق البرلمان فى نظر اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية. وهذا الجدل مرده إلى أن حكماً باتاً ونهائياً صدر من دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا حظر على البرلمان مناقشة الاتفاقية.

والحقيقة أن الدستور قد حدد فى المادة «151» نصاً واضحاً وصريحاً يعطى مجلس النواب حق الاختصاص الأصيل، باعتباره من الاختصاصات المحجوزة التى لا يتوجب تداخل أى سلطة أخرى فى تناول ما هو مختص بنظره والبت فيه بصورة نهائية لا تقبل أى تعديل أو تغيير.

لقد نصت المادة «151» بشكل صريح ولا لبس فيه على أن «يمثل رئيس الجمهورية الدولة فى علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً لأحكام الدستور».

وبالرغم من أن كافة القوانين المنظمة للسلطة القضائية قد أخرجت المعاهدات والاتفاقيات من مجال الولاية الرقابية للسلطة القضائية، باعتبار أن ذلك عمل من أعمال السيادة التى يختص بها البرلمان وحده، فإن القضاء فرض رقابته على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، مستنداً إلى أن الحكومة قد فرطت فى جزء من إقليم الدولة، وهو ما يتعارض مع نص الفقرة الثالثة من المادة «151» من الدستور والتى تنص على أنه «وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة».

وبعيداً عن التعرض للحكم الصادر عن دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا حول ما تضمّنه من تنازل الحكومة عن جزء من إقليم الدولة، فإن تضمين الحكم هذا الأمر هو الذى أعطى لهيئة المحكمة النظر إلى ذلك باعتباره قراراً إدارياً صدر عن السلطة التنفيذية كسلطة «إدارة» وليس كسلطة «حكم»، وجاء مخالفاً للدستور كما قالت حيثيات الحكم.

إن مضمون الفقرة الأولى من المادة «151» من الدستور يكشف عن أن المعاهدة الدولية هى من اختصاص رئيس الجمهورية، الذى يبرم المعاهدات، ثم يحيلها إلى السلطة التشريعية للموافقة عليها أو رفضها، ثم يصدق عليها رئيس الجمهورية بصفته رئيساً للدولة.

وقد فوض رئيس الجمهورية رئيس الوزراء باعتباره شريكاً فى السلطة التنفيذية حسب المادة «150» من الدستور فى التوقيع على المعاهدات والاتفاقات الدولية، ومنحه تفويضاً مكتوباً بذلك، وتم نشره فى الجريدة الرسمية، فإن توقيعه على هذه الاتفاقية، توقيع صحيح، جرى فى حضور رئيس الجمهورية.

ووفقاً لنص المادة «197» من القانون «1» لسنة 2016 بشأن اللائحة الداخلية للمجلس، فإن السلطة التشريعية تختص وحدها بمرحلة الموافقة أو عدمها على هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقات، حيث تنص المادة «يبلغ رئيس الجمهورية المعاهدات التى يبرمها إلى رئيس المجلس ويحيلها الرئيس إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، لإعداد تقرير فى شأن طريقة إقرارها وفقاً لنص المادة «151» من الدستور.. إلخ، ثم إذا أسفر الرأى النهائى عن موافقة المجلس على المعاهدة، أُرسلت لرئيس الجمهورية ليصدق عليها، ولا تكون نافذة إلا بعد نشرها فى الجريدة الرسمية.. إلخ».

وتتولى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية حال إحالة الاتفاقية إليها، بحثها من حيث الشكل (الصياغة الشكلية وصحة تمثيل الدولة فى مراحل التفاوض)، ومن حيث الموضوع (ما احتوته الاتفاقية من التزامات وعدم مخالفة الدستور أو التنازل عن جزء من إقليم الدولة).

وفى هذه الحالة ترفع اللجنة تقريرها إلى المجلس، لمناقشة الاتفاقية والتصويت عليها، فإذا ما تمت الموافقة أحيلت الاتفاقية إلى رئيس الجمهورية للتصديق عليها.

وقد تواترت قوانين السلطة القضائية المتعاقبة على استثناء أعمال السيادة من الرقابة القضائية، وهو ما تضمّنته المادة «17» من قانون السلطة القضائية رقم «46 لسنة 1972» وكذلك المادة «11» من قانون مجلس الدولة رقم «47 لسنة 1972» والتى نصت على «لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر فى الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة».

وقد أكد الحكم الصادر فى الدعوى رقم 39 لسنة 17 ق دستورية جلسة 6/6/1998: «وحيث إن المادة «17» من قانون السلطة القضائية تحول بنصها دون النظر قضائياً فى أعمال السيادة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، وحيث إن ما ينعاه المدعى من مخالفة هذا الحظر للدستور مردود، بأن أعمال السلطة التنفيذية التى تُعتبر بطبيعتها -وبالنظر إلى خصائصها- مستعصية على موازين التقدير القضائى التى يقتضيها الفصل فى صحتها أو بطلانها، ينبغى ألا تباشر السلطة القضائية رقابتها عليها، لا لأنها فوق الدستور أو القانون بما يحول دون خضوع الجهة التى أصدرتها لكل أشكال مسئوليتها عنها، وإنما لأن ضوابط ومعايير الفصل فى مشروعيتها لا تتهيأ للسلطة القضائية بكل أفرعها، وفيما وراء دائرة هذه الأعمال التى تستقل هذه السلطة بتجديد ما يندرج تحتها، فإن رقابتها التى تدخل فى عموم ولايتها، لا يجوز إجهاضها».

وإذا كان الدستور وقانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم (48 لسنة 1979) قد اختص هذه المحكمة الدستورية دون غيرها بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح فإن الخيار المطروح حال صدور حكم قضائى آخر من القضاء العادى يكون معارضاً للحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا، يكون فى هذه الحالة اللجوء إلى المحكمة الدستورية لحسم الأمر وتبيان جهة الاختصاص وفقاً لما نص عليه الدستور فى المادة «151».

وهكذا ووفقاً للدستور فإن الحكم الصادر لا يعوق ممارسة مجلس النواب لاختصاصه المنفرد والذى أوكل إليه، باعتبار أن الرقابة على الاتفاقيات والمعاهدات والتى تُعتبر عملاً من أعمال السيادة هى من اختصاص مجلس النواب دون سواه.

ولا يعوق البرلمان من ممارسة سلطته ما تضمّنه الحكم الصادر من تنازل الحكومة عن جزء من إقليم الدولة، ذلك أن القانون الدولى رسم فى قواعده تدابير وشروط التنازل والجهة الوحيدة القادرة على الحكم بذلك هى الرقابة البرلمانية التى يمتلكها مجلس النواب، والثابت حتى الآن وطبقاً للثوابت الدولية التاريخية والقضائية أنه ليس هناك تنازل عن جزء من إقليم الدولة المصرية، حتى تتصدى المحكمة لعمل من أعمال السيادة، استناداً إلى الفقرة الأخيرة من المادة «151» من الدستور.

إن مبدأ الفصل بين السلطات، الذى نصت عليه المادة الخامسة من الدستور، يهدف إلى عدم تغول سلطة على سلطة أخرى، فكل له اختصاصاته، وإذا كانت المواد «101، 151، 159» من الدستور قد أناطت بمجلس النواب سن القوانين ومراقبة كافة ما يصدر عن السلطة التنفيذية من أعمال وتصرفات، فهو وحده المنوط به التحقق من اتفاق المعاهدات التى تبرمها الدولة مع نصوص الدستور من عدمه، كما أنه هو المنوط به وحده أيضاً التحقق مما إذا كانت الاتفاقية يترتب عليها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة من عدمه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل