المحتوى الرئيسى

في حيفا.. مع محمود درويش وسميح القاسم "1"

01/20 22:12

في أوائل صيف عام 1968, استصدر لي والدي تصريحاً لزيارة طولكرم. وعلى الرغم من نشاطي التنظيمي السياسي مع "فتح" وتحذيرات بعض الأصدقاء, جازفت بالزيارة التي كانت الأولى للضفة وطولكرم بعد الاحتلال. ولم ألق شراً غير شر الإجراءات المذلة على الجسر ورؤية جنود الاحتلال يصولون ويجولون في الوطن.

في ذلك الحين لم تكن السلطات الاسرائيلية لتسمح لأهل الضفة بعبور خط الهدنة أو ما يسمى بالخط الأخضر لزيارة فلسطين المحتلة عام 1948, بينما كان بوسع العرب الفلسطينيين وراء الخط الأخضر أن يزوروا الضفة، فأقبلوا على ذلك زرافات ووحدانا بلهفة الباحث عن أصوله وامتداداته وشقه المغيب قسراً منذ عام 1948. وكان أن ألتقيت شاباً من بلدة أم الفحم جاء لزيارة بعض أقاربه المقيمين في مخيم طولكرم في جوار بيتنا .

أقبل أحدنا على الآخر إقبال الجزء على تمامه أو إقبال الشقيقين الشتيتين اللذين جمعهما أخيراً ما فرقهما أولاً: الغزو والاحتلال. وعلمت منه أنه عضو في حزب " راكاح " الشيوعي. ولكنه كان أحرص على تأكيد هويته العربية الفلسطينية منه على هويته الحزبية, فلم يكن حديثه ليرشح بشيءمن المرجع الحزبي, ولكنه كان ينضح بمعجم القرية الفلسطينية وبيادرها وزيتونها وسنديانها وأهازيجها وأساطيرها, بلهجة ريفية موغلة في خصائصها القديمة, وكأنها قد تجمدّت على ما كانت عليه قبل عام 1948؛ ولربما كان ذلك عن رغبة مطمورة لا واعية في تعليق الزمن نفسه على حال الوطن قبل اغتصابه والشروع في ترجمته إلى العبرية.

والحق أن الشاب كان عاملاً بسيطاً لم يصب حظا كبيراً من التعليم والثقافة كي يخوض في جدل فكري حول المادية التاريخية والجدلية والتغريب بالمفهوم الماركسي. وكان كغيره ممن التحقوا بالحزب الشيوعي لأنه كان منبر المعارضة الوحيد المتاح في ظل الحصار المضروب على أبناء فلسطين وراء الخط الأخضر. ثم أفضى الكلام إلى ذكر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد. وكان شعرهم قد بدأ في اختراق الحصار ليصل إلى أسماعنا وقلوبنا. وكنا نظن قبل ذلك ظلماً وجهلاً، أن الوطن السليب قد غابت معالمه عمّن مكث فيه، فتاهوا في غابة العناوين والأسماء الجديدة، وبقي حاضراً في وعي من نفوا عنه.

لكأن الوطن غائب في وعي الحاضر فيه، وحاضر في وعي الغائب عنه! وها نحن أخيراً نتحرر من هذا الوهم إذ يبلغنا صوت الوطن السليب يتكلم بالعربية الناصعة من خلال قصائد مشبعة بروائح زهر البرتقال الحزين ودخان " الطوابين " وسائر مفردات الأرض التي تستعصي على الترجمة. فاحتفينا بالشعر والشعراء احتفاءنا بالمقاومة التي واكب صعودها صعودهم. فكأنهم وإياها قد خرجوا من مشكاة واحدة، فنسبناهم إليها: شعراء المقاومة . كان شعرهم متوهجاً في ذاته، ولكنا كذلك أسقطنا عليه وهج المقاومة، فزاده ذلك ألقاً، ولكنه ما لبث أن صار عبئاً عليهم، كشأن الحب القاسي الذي قد يسرف في المنح، ولكنه كذلك يحد من انطلاق الذات ونموها ونضجها وفق خياراتها وشروطها الخاصة. والشعر الفذ يطلب القارئ ويقاوم سلطته في الوقت نفسه، وينطلق من السياق الظرفي المتغير ويأبى أن يعتقل داخل حدوده. يريد أن يكون راهنا الآن .. وغداً .. وفي كل حين .. هنا .. وهناك. فلا ينغلق على قراءة يمليها سياق معين، فإذا غاب السياق، غاب معه النص !

وهذا ما أدركه محمود درويش مبكراً بذكائه وبتوجيه موهبته ومخيلته الشعرية الذاهبة إلى آفاق بعيدة. فأنكر ذلك الحب القاسي الذي يمنح أكثر مما يجب، ليستلب في المقابل أكثر مما يمنح، على المدى البعيد.

فاجأني الشاب حين قال :

-هؤلاء رفاقنا في الحزب .

كنت أعرف أن توفيق زياد عضو في " راكاح " ورئيس لبلدية الناصرة. ولكن معلوماتي عن محمود وسميح كانت مختلفة. فقد كان مرجعنا الرئيس عنهم كتاب غسان كنفاني عن شعراء الأرض المحتلة الذي أخبرنا أن محمود وسميح عضوان في حركة " أرض " القومية، وأنهما في السجن ذك الحين. ولكن الشاب صحح قائلاً :

-بل هما عضوان في حركة " راكاح ". وهما ليس في السجن، ولكنهما يقيمان في حيفا ويمارسان نشاطهما السياسي والثقافي هناك، وإن كان ثمة قيود على حركتهما. فمحمود لا يستطيع مغادرة حيفا بغير إذن من السلطات الإدارية، أما سميح فقد فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله من المساء حتى مطلع الفجر.

ولما رأى مدى اهتمامي ولهفتي قال :

-إن شئت ، رتبت لك لقاء بهم في حيفا !

-كيف، وسلطات الاحتلال لا تسمح لأبناء الضفة بعبور الخط الأخضر؟

-لا عليك. أستطيع أن أزوّر بعض الوثائق .. والإجراءات الأمنية على نقاط العبور ليست بتلك الصرامة والدّقة بعد. فالعدو مايزال يعيش نشوة الانتصار السهل المدوي في حزيران، فهو مطمئن إلى قوته وقدرته وإلى ضعفنا وخوفنا. أما نحن وراء الخط الأخضر, فإن طول مخالطتنا للعدو قد ذهب بخوفنا منه، فلا نفرط في تقدير قوته ولا نقلل. ولكنا نعرف جيداً كيف نعبر من ثغرات نظامه.

من شاهد مسلسل " التغريبة الفلسطينية " ربما يذكر مشاهد " رشدي "، ابن " خضرة " والعبد شهيد ثورة الثلاثينات، وهو يعبر الخط الأخضر بعد احتلال الضفة عام 1967 بمساعدة شاب من فلسطين المحتلة عام 1948، ليرى أمه التي فرقت النكبة بينهما، فخرج مع أخواله إلى المنفى حيث أقاموا في مخيم طولكرم ، وبقيت أمه وراء الحدود، وانتهى بها الأمر إلى الإقامة في " أم الفحم " .

تلك المشاهد بنيت من تجربتي تلك .

وهل تذكرون حي المحطة المحاذي للحدود في طولكرم، وذلك الشارع القديم المعطّل الذي كان يمتد وراء الحدود، وكان يبدو موحشاً وقد أدى هجره إلى خراب إسفلته وانبثاق العشب والنبات من شقوقه، ويكاد ما تسفوه الريح أن يخفي أثره ؟! قد استعاد الآن حياته القديمة، فهو طريق العبور بين طولكرم وأرض البرتقال الحزين، لمن صار بوسعه العبور .

أخيراً ها أنذا أعبر الحدود التي كنت في الماضي أقف على بعد أمتار منها، أحاذر أن أخطئ الحسبة فأسقط عندها قبل الأوان .. الحدود التي كنت أرسل بصري عبرها إلى خط الأفق الغربي فيرتد البصر حسيراً لا من بعد المسافة، ولكن من قربها مع بعد المنال. وأجدني أغبط رفوف الطيور الميممة شطر الغرب، وأتمنى لو تعيرني جناحها !

وجدتني أنظر في كل اتجاه، وقد غمرتني حالة أشبه بالنشوة الروحية والوجد الصوفي .. غبت عن نفسي وحضرت في الأرض .. وامحت ذاتي لتتجلى في شجرها وحجرها .. لكأني أسمع أنفاسها .. أم هي تتنفس الآن برئتي ؟ أينا يمنح الآخر المعنى؟ أينا يكتب الآخر ؟!

التقيت أولاً محمود درويش مع عدد من رفاقه في أحد البيوت في حيفا، على أن ننتقل بعد دخول الليل إلى بيت سميح قاسم. أما توفيق فلم يكن بوسعه القدوم من الناصرة ففاتني لقاؤه.

هاكم إذن محمود درويش أمامي يتحدث بنفسه عن نفسه. ولما كنت أدرك أنني السابق إلى لقائه الشخصي قادماً من خارج فلسطين، وأن المعلومات التي وصلتنا عنه وعن رفاقه لم تكن دقيقة، فقد رأيت أن هذه فرصة ثمينة لنقل صورة أمينة واقعية تمثل سبقاً هاماً في الوسط الثقافي والأدبي العربي. فاستأذنت في تدوين الحوار، ورحّب محمود بالفكرة. وكانت النية أن أتصل بغسان كنفاني عقب عودتي إلى عمان لأرسل إليه مدونة الحوار فيتصرف بنشرها كما يرى.

كنت قد بدأت أنتظم في صلاتي ذلك الحين. ولما حان موعد الصلاة قمت لأدائها في ركن من الغرفة المليئة بأعضاء من الحزب الشيوعي، وأسرع أحدهم فجاءني ببعض الصحف وفرشها أمامي، واجتهدت في تحديد جهة القبلة، وأعان على ذلك بعض الحاضرين اعتماداً على الجغرافيا وحدها! ولم أر في وجوه القوم ما ينم عن دهشة الاستنكار، في وقت كانت فيه الصورة الذهنية للمثقف والمبدع تنأى بنفسها عن " شبهة " التدين وممارسة الشعائر الدينية. فإن لم يكن المبدع ملحداً حقاً، تحرج أن يعلن إيمانه أو أن يترجمه إلى شعائر منظورة، فيخرج بذلك عن قالب الصورة الذهنية السائدة، ويصبح التحاقه بنادي المبدعين محل نظر ومراجعة !

تحاورنا في كل شيء: الشعر والأدب والثقافة والسياسة والهويّة والمقاومة ومستقبل الصراع وآفاقه ومآلاته الممكنة. كنت أصدر عن منطلقات فتح وأهدافها واستراتيجية الكفاح المسلح، وكان محمود يصدر عن مرجعيته الماركسية الحزبية. وكان مما قاله إنه حين التحق بالحزب الشيوعي ابتداءً لم يفعل ذلك إيماناً بالماركسية، ولكن لأنه يوفر له مساحة للنشاط السياسي المعارض، ليس متاحاً لغيره. ومع الوقت تحول ذلك إلى إيمان عقدي. ثم أنكر على غسان كنفاني أن يقرأه قراءة قومية، متوجهاً بفكره القومي حين كان غسان في حركة القوميين العرب، قبل تحولها إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإلى الفكر الماركسي. وتوقف محمود في حديثه عند قصيدته الشهيرة في ذلك الحين : " سجل أنا عربي " التي حظيت بانتشار واسع ودارت على الألسنة حتى صارت بمثابة نشيد وطني قومي.

-لم أصدر في هذه القصيدة عن موقف قومي عروبي. إنما كانت صرخة تحدّ للدولة الإسرائيلية التي ما زالت تعمل جاهدة لطمس وجودنا ومحو هويتنا الثقافية. ونحن بقينا في وطننا. فلما عجزت إسرائيل عن التخلص منا مادياً، سعت إلى تذويب هويتنا الوطنية العربية. وما كان إخوتنا خارج " إسرائيل " يتعاملون معه بوصفه أمراً مفروغاً منه، كان عندنا أمراً نضالياً نكدح من أجله. ليس عندنا ما عندكم من وفرة الكتب العربية. فكنا إذا سقطت في أيدينا قصاصة من صحيفة أو مجلة عربية أو كتاب تعاملنا معها تعاملنا مع اللقيا الثمينة، واحتفينا بها احتفاءنا بجذورنا الضارية في تراب وطننا. نحن عرب فلسطينيون مضطهدون محاصرون داخل وطننا، وهويتنا الثقافية عربية، والدفاع عن وجودنا يعني الدفاع عن هويتنا تلك وتحدي الدولة الإسرائيلية العنصرية بها. وهي حقيقة موضوعية لا عقيدة سياسية. وتلك وحدها رسالة " سجل أنا عربي " وسياقها، أما العروبة والعرب ....

وهنا أطلق محمود شتيمة قاسية ليس بوسعي أن أدونها.

-تريدني أن أنقل هذا الموقف إلى غسان كنفاني ليصحح قراءته وفاق ذلك ؟

بدا لي محمود مزاجاً غريباً من الصفات المتدافعة المتغالبة: حياء تغالبه صراحة حادة، وتواضع يغالبه إحساس قوي بالذات كشأن المبدعين. إذا مدح ظهر عليه الحياء الشديد حتى كأنه قد ضاق بالمدح. ولكن لا يتبع ذلك أنه يتقبل النقد بصدر رحب. ولربما كانت حدته في التعبير عن رأيه من مادة حيائه. لكأنه يقاوم أن يلجمه الحياء عن قول ما يريد، فيدلي برأيه مرة واحدة بلا تردد ولا مواربة ليتحرر بسرعة من عبء الحياء. كذلك بدا لي أن فرديته الطاغية تقاوم أن يحاصرها الآخرون بتوقعات وتعريفات مسبقة من عند أنفسهم لا تطابق تعريفه لنفسه، حتى وإن كانت في عرف أصحابها تحمل معاني الإطراء والتقدير. فهو لا يرضى أن يكون غير نفسه، ولا أن يكون الإعجاب به رهينة لصورة موهومة، فإذا انقشع الوهم اهتز الموقف منه ومن شعره .

لكأن لسان حاله: هذا أنا وهذا شعري، فخذ أو فدع! وكان يدرك ان موهبته الفذة وقيمته الشعرية كفيلتان وحدهما بالوصول إلى حيث يريد من ذائقة القراء وأفئدتهم، بدون الحاجة إلى الاتكاء على ركائز خارجية من نوع ما يرضى الجمهور. بل إنه سيضيق ذرعاً بلقب شاعر المقاومة، لأنه يسند شعره إلى غير قيمته الذاتية، ويعلق استقباله على سياق خارجه. ولذلك كله، لم يتردد في تبديد بعض الصورة التي رسمها له غسان كنفاني بلغة حادة، في لقائي ذاك معه .

وعلى الرغم من أنه أطرى على المقاومة الصاعدة، فإن رأيه في حل القضية كان منسجماً مع موقف الحزب الشيوعي. نعم ، لن ننسى الظلم التاريخي الهائل الذي وقع على الشعب الفلسطيني باغتصاب وطنه وتشريد أهله وإقامة دولة إسرائيل على الوطن الفلسطيني، وسنبقى سدنة الذاكرة وحراس الهوية، وسيبقى الوطن الفلسطيني وطننا مهما تتغير الأسماء والعناوين، ولكن دولة إسرائيل قد صارت واقعاً وجزءاً من النظام الدولي، وليس من الممكن إزالة هذا الواقع. ولكن الحلّ التاريخي يكمن في تحول منطقة الشرق الأوسط كلها إلى النظام الاشتراكي مع انتصار الاشتراكية العالمية على النظام الرأسمالي الامبريالي كما تحتم نواميس التقدم التاريخي. فإذا وقع هذا، صار الناس كلهم في المنطقة أمة واحدة من الاشتراكيين تتجاوز حدود الهويات القومية والوطنية.

هكذا تحدث محمود في ذلك اللقاء .

وكان من الطبيعي أن أدخل معه في جدال طويل، أراحنا منه الشعر. فقرأ إحدى قصائده من ديوانه الأخير في ذلك الوقت : " آخر الليل ". وإذ إن الشعر الحقيقي بطبيعته الجوهرية لا يكون بوقاً مباشراً للإيدولوجيا، فإن ما اختلفنا عليه خارج الشعر، تلاشى داخله . فهناك، في النص ، حضرت فلسطين نفسها بدون تعريف إيدولوجي، وحضرنا فيها جميعاً بغير قسمة أو تصنيف، وكان الشعر الجميل دليلنا إليها وإلينا، بل حضر معنا الروح الإنساني الباحث عن حريته ومعناه، دون أن يشترط علينا إسقاط أسمائنا وهوياتنا وألواننا وألسنتنا من أجل هوية متعالية هلامية تسبح في فراغ لا شواهد فيه !

انتقلنا بعد دخول الليل إلى منزل سميح قاسم. وحسبي من الكلام الذي قاله موقف واحد أنقله الآن. قال بنبرة قاطعة، وهو بين رفاقه في الحزب :

-أما أنا فالتحقت بالحزب الشيوعي الإسرائيلي لسبب واحد فقط: أن أجد نافذة للمعارضة لا أجد غيرها. هكذا بدأت، ومازلت على ذلك، لم أغيّر. فأنا أولا وآخراً عربي عربي عربي. وهذا وطني فلسطين، جزء من الوطن العربي. ونضالنا هنا له شقّان: أما الأول فهو النضال من أجل حقوقنا المدنية في داخل الكيان الصهيوني، وأما الثاني فهو نضال تاريخي طويل يندرج في نضال الشعب الفلسطيني كله من اجل استرداد حقوقه الوطنية التاريخية، وفي نضال الأمة العربية كلها من أجل التحرر والاستقلال والنهوض ومواجهة المشروع الصهيوني .

هكذا تحدث سميح القاسم آنذاك. وكان كلامه برداً وسلاماً على قلبي! وهذه شهادة للتاريخ، لا دخل لها في الموازنة الفنية بين الشاعرين !

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل