المحتوى الرئيسى

وائل خورشيد يكتب: «حارة المهابيلي».. منها دبّت الحياة في النفوس وانتهت | ساسة بوست

01/20 15:52

منذ 3 دقائق، 20 يناير,2017

سمعت روايات متواترة عبر الأسلاف تحكي عن تاريخ حارتنا، حارة المهابيلي. ما ميز تلك الحارة وصنع منها تاريخًا يذكر، أنها كانت تعج بالسكان، وكان كثير منهم وافدون من مناطق أخرى، لذلك كان هناك تنوع فكري بين سكانها، ورغم كونها حارة بسيطة، إلا أن موقعها الجغرافي المتميز جعلها مهمة لكل وافد؛ فحارتنا كانت قريبة من كل الخدمات.

استوقفتني حكاية، قصّها أحد الأقارب، عن علاقة حب زلزلت الحارة، اشترك فيها الجميع، يمكنك أن تقول عنها أنها قصة من زمن آخر.

في منزل رقم 9 بالطابق الأول من الحارة، كان يسكن الحاج شيرين الغزالي، في عقار يكاد يسقط، فهو كان ميراثًا عن الوالد، وكان مبنيا بلا أعمدة، وبعد أن أكل الزمان وشرب عليه، بات العقار أشبه برجل فقير عجوز في سن السبعين يعاني من أمراض عديدة، لكن بعزم أولاد البلد ما زال قادرًا على الحركة ولا ينحني لأحد.

للوهلة الأولى حينما تنظر للعقار من الخارج ستجد لونه الأحمر الطوبي تحول لترابي من كثرة ما سال على جبينه من عرق السماء في الشتاء، وأتربة الزمن.

المهم، كان لدى الحاج شيرين ولد، تربي في الحارة، وهو الدكتور محمد خريج كلية الطب، والذي قرر خطبة آمال، ابنة الجيران، وهي نفسها قصة حب ابنة الجيران الشهيرة، والتي هي حقيقة استقرت في الوجدان الإنساني،  ففي فترة المراهقة تكون القلوب مفتوحة، وأقرب زائر يسكنها مليًا.

آمال سليلة عائلة الزيني، واحدة من أقدم عائلات المنطقة، ويقال أن منزلهم كان أول ما وضع ورسم عليه المكان، فقد كان للأسرة تاريخ طويل، ولكن جار عليهم الزمان واحتدم بينهم الخلاف، فرحل منهم من رحل، وانتقل لربه من انتقل، فلم يتبق في العقار رقم 10، المواجه لعقار رقم 9 سوى الحاج محمد الزيني والد آمال وأمينة، جميلات المنطقة.

كانت آمال فتاة عشرينية، شابة جميلة، ذات أنف يميل للطول قليلًا، وشعر يميل للون البني، وعين لا هي بنية ولا عسلية، أطول من بنات الحارة ولكنها ليست فارعة، كان الجميع يناديها فيما بينهم بـ«المزمزيل» منذ كانت في العاشرة، لما لها من سحر ودلال.

في يوم من أيام صيف العام 1920، وقف الطفل محمد ابن الاثني عشر عامًا، وهو فتي ليميل للسمرة، شعره مجعد قليلا ويملك أعين عسلية، أمسك بيد آمال ووضعها على قلبه وقال لها «قلبي بيدق جامد كل ما أشوفك.. هو أنا عيان» وردت آمال بنظرات قلق، لم يكن سببه الخوف على محمد فقط، ولكن لأنها كانت تشعر بالمثل، ردت بخجل «وأنا كمان»، وككل الأفلام القديمة كانت الحارة تعرف أن محمد لآمال وآمال لمحمد.

المهابيلي هو اسم جديد للحارة، أطلق عليها بعد أن أصبح المعلم ياسر المهابيلي فتوة للحارة، بعد معركة مشهودة وقعت قبل ذلك التاريخ بعامين أي في العام 1918.

الفتوة الجديد، كان يقترب من عمر الأربعين، ضخم الجثة، فاتح البشرة، ولكن أبيضه صُبغ بلون بني بفضل شمس الصحاري، يملك عينان لا يوجد للرحمة فيها مكان، كانت مرسومة بدقة بفضل الرموش الداكنة، أنفه أفطس، وأسنانه كبيرة نوعا ما، كما كان كف يده. كان يعمل منذ صغره في أعمال المقاولات، وهو  ما أكسبه كتلة عضلية شديدة، ومنذ صغره حسب ما عرف أبناء الحارة من الروايات المتواترة، كان يملك قلبًا صلبًا، ويشاع عنه أنه قتل والده وهرب، وآخرين يقولون أنه طرد، وفي رواية أخرى أنه ابن زنا، ولكن الأهم أنه كان حاد الطباع.

المهابيلي لم يكن متزوجًا رغم علاقاته النسائية، كان يرى آمال الصغيرة ولكن لم يبدها اهتمامًا عكس أهل الحارة، والسبب في ذلك يعود لكونها طفلة وكبرياء الفتوة منعه عن إبداء أي عواطف جياشة تجاهها.

في يوم من أيام صيف العام 1933 سمعت زغاريد في الحارة تأتي من عقار 10، نعم، كانت حفلة خطبة محمد على قرينة طفولته آمال.

قبل ذلك بأربعة أعوام (1929) كان كل شيء قد بدأ يتغير، رأى المهابيلي الجمال في آمال والتي كانت تبلغ وقتها من العمر تسعة عشر عامًا، سكت ولم يصرح، وأسر الأمر في نفسه، حتى يوم الخطبة، إذ فاجأه سكين حاد بضربة في القلب، لم تكن بفعل فتوة جديد، بل كانت بفعل الحب.

حادث نفسه في أمره، وشعر بذرات جسده تتمزق، لسببين، الأول، كونها مع غيره، والثاني، كيف لخريجة كلية الآداب العذبة الرقيقة أن تحب هذا الفحل الغليظ سيئ السمعة.

وبعد عدة محاولات ومنازعات قرر أن يبدأ في مضايقتهم، وبدأ بمحاولة استمالة قلبها، وفشل، ثم محاولات إرهاب محمد وفشل، حتى كانت خطته الأخيرة.

في مساء يوم جمعة من شتاء عام الخطية، احترق محل الحاج بسيوني، وعرف أهل الحارة بعد ذلك أن السبب رفضه دفع الإتاوة للمهابيلي، وبدأت بعد ذلك سلسلة من الحرائق والاعتداءات تتم في الحارة، فالمهابيلي أصبح أكثر شرها للمال، كما أنه بدأ في سنّ قوانين لتنظيم شؤون الحارة، ومنها أنه أجبر أهالي الحارة على بناء ديوان له فخم ليدير منه الأمور، ثم قرر البدء في استقدام مجموعة من معارفه المجرمين للعمل معه، والاستيلاء على أسطح جميع المنازل وزراعتها، وبينما كان الهدف المعلن تشجير الحارة، كان الواقع زارعة نبات الحشيش على رؤوس الأشهاد.

بعدها بفترة ليست ببعيدة خرجت آمال لشراء بعض احتياجات الزواج، وكان يتتبعها أحد ملاطيع المهابيلي، واختفت آمال، وبالطبع كان الفتوة المتهم.

حاول المهابيلي أكثر من مرة أن يقنعهم أنه ليس له علاقة، وأنها لدى حارة أخرى، ولم يفلح، ولم يكن ذلك خوفا ولا عطفًا، وإنما كان لرغبته في دخول انتخابات وكان يحتاج لأصواتهم، وكان المتهم هو المعلم كمال الدريني، فتوة حارة الشجعان.

عادت آمال في اليوم التالي، مكسورة، تبكي، وعلم أهل الحارة أن المعلم الزيني وضع بذرته بداخلها.

تحرك أهل الحارة في غضبة لم تشهدها الحارة من قبل، تحركوا نحو ديوان المهابيلي، اشتدت سخونة الموقف، واضطر المهابيلي لطلب العون من السيد سمان كبير فتوات القطر، ولأن الأخير كان يعلم مساوئه وكان لا يحب الشغل المكشوف، قرر مساعدته بشكل جزئي، لموازنة الأمور، حتى تنكشف الخيوط وتتضح معالم الطريق.

في الوقت نفسه كان رجال المعلم الدريني يقفون على ناصية الحارة بأوامر من سيدهم لمتابعة الوضع، وربما التدخل في وقت ما، بعد أن نالت الدريني اتهامات من المهابيلي.

وبعد عدة أيام كانت النار قد أشعلت القلوب والخوف بات موضع ثبات، وكان أهل الحارة متضامنين، مطالبين برحيل المهابيلي، وشعر الأخير بكسرة، وذبلت نظرته، حتى أن بعض أبناء الحارة من كبار السن ومن ساعدهم أحيانا، قرروا الانسحاب ومنهم من بكاه.

ولكن لم تهدئ كسرته نفوس أهل الحارة، حتى رحل، وهناك من يقول أنه قتل، أو هرب، ولكن لا أحد يعلم على وجه اليقين، فقط المهم أنه اختفى.

وبعدها بدأت الأمور تهدأ والحياة تعود لطبيعتها، وتزوج محمد من آمال.

بدأ أهل الحارة والحارات الأخرى يتبادلون أطراف الحديث عن الشجاعة والشهامة، ويقال أن حارات أخرى قامت بالمثل، وأن زمن الفتوات قد ولى.

ومن بين الأحاديث المتواترة أن المعلم الدريني صاحب الوجه الصبوح، كان يمد العون لأهل حارة المهابيلي سابقًا والأحرار حاليًا، حتى إن هناك رواية تقول إن أهل الحارة بعد أن فقدوا الأمل في قدرتهم على إجبار المهابيلي على الرحيل، يئسوا، وتدخل رجال الدريني لنصرتهم، ووقفوا بشجاعة أمام الفتوة المفسد، واضطروه للرحيل، أو قتلوه، واختفى بعض رجاله، والبعض أقسم بالولاء للدريني.

في خضم الأحداث بدأ الدريني يساهم في تشجير الحارة، ومساعدة أصحاب المحلات المحترقة، حتى استيقظ أهل الحارة ذات يوم، ليجدوه جالسًا في الديوان.

بدأت حالة من الجدل تتسرب في عروق الحارة، انقسمت المواقف، منهم من قرر السكوت كونه يعرف أن هذا أفضل، ومنهم من رفض، ومنهم من بدأ في تقديم فروض الولاء.

مرّ الوقت وأصبح الدريني فتوة الحارة الجديد، بتأييد أهلها، وكان نجله الشاب اليافع، هو ذراعه الأيمن في إدارة شئون الحارة.

بعد فترة ليست طويلة، اقتُعلت الأشجار، وسرقت الأموال، وعاد الكلام كما كان يقال «المهابيلي سرق قوت العيال».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل