المحتوى الرئيسى

نشوى عريان تكتب: أطفال السماء The Children of Heaven | ساسة بوست

01/20 10:41

منذ 1 دقيقة، 20 يناير,2017

إنه الفيلم الإيرانى الرائع «أطفال السماء» للمخرج ومؤلف السيناريو مجيد مجيدي، تدهشني دوما السينما الإيرانية إذ إنها قادرة على صنع فيلم عبقري وجذاب بأقل الإمكانيات وبفكرة بسيطة للغاية، ولكنها عميقة وثرية بالتفاصيل، فتجعلك تعيش الفيلم كأنك تراه أمامك لشدة واقعيته وبساطته.

يبدأ الفيلم قصته بالطفل (علي) الذي يفقد حذاء أخته ( زهرة) في إحدى محلات بيع الخضار والفاكهة، حين يضع الحذاء بين الأقفاص ليدخل للبائع يسأله بضع حبات من البطاطس، فيعطيه البائع كيسا صغيرا وما إن يذهب (علي) تجاه أحد أقفاص البطاطس المعروضة حتى ينهره البائع بشدة، ويشير إلى قفص صغير بالأسفل به حبات البطاطس الصغيرة والذابلة والتي خصصها للزبائن الفقراء وغير ميسوري الحال، ولا ينسى البائع وهو يعطيه الكيس مرة أخرى بعد أن وزنه له «بيده» أن يُذكِّر الطفل بأن يُبلغ أباه بضرورة دفع ما سبق وأخذه من خضروات لم يدفع ثمنها ودُونت على الحساب، يأخذ منه (علي) كيس البطاطس الذابلة ويخرج من المحل إلى الأقفاص المرصوصة بالجوار، يبحث عن حذاء أخته فلا يجده، تملأ الدموع عينه فيجتهد في البحث داخل الأقفاص حتى تتدحرج وتقع ليخرج البائع وينهره ويَهُم أن يضربه، فيسرع الطفل بالجري بعيدًا متجهًا إلى منزله.

يعود (علي) بلا حذاء أخته، حذاؤها الوردي اللون بلون أحلامهما الوردية المفقودة أيضًا وفي عينيه حزن وأسى العالم كله وفي رأسه ألف سؤال، كيف سيخبر أخته؟ وماذا ستفعل أخته المسكينة، كيف ستذهب إلى المدرسة؟ ماذا إن هي أخبرت والدها الذي بالكاد استطاع تدبير ثمن هذا الحذاء الذي ستذهب به إلى مدرستها؟

يظل (علي) تائها في حيرته إلى أن يخبر أخته (التي تصغره بعام أو عامين تقريبا) بالحقيقة متوسلًا إليها ألّا تخبر والديهما وأنه سيفكر في طريقة لإيجاد حذاء بديل لها، ويتكتمان الأمر بينهما ويتوصلان إلى حل مؤقت توافق عليه الصغيرة على مضض إذ أنه ليس هناك حل آخر، وهو أن تذهب بحذاء أخيها إلى مدرستها صباحًا بينما ينتظرها أخوها على باب المنزل ليذهب إلى مدرسته التي من حسن الحظ (أو أنه بدا لهما كذلك) في الفترة المسائية، ولكن الفارق بين موعد عودتها والموعد المقرر أن يذهب فيه (علي) هو بضع دقائق فقط! ولكن القدر الذي يعاند الفقراء دائمًا لا يعلم كم هي ثمينة تلك الدقائق فيتفنن في مراوغتهما واللعب على أعصابهما خلال هذه الدقائق القليلة، تذهب (زهرة) إلى مدرستها لتؤدي امتحان الحساب وهي قلقة لا تفكر في الأسئلة التي أمامها بقدر ما تفكر في السؤال الذي يحتل عقلها ويجعل دقات قلبها تتسارع وهو: هل ستستطيع العودة قبل ميعاد مدرسة أخيها أم أن الوقت قد انقضى وتأخرت على الموعد!

تنظر إلى معصم المعلمة التي تراقب عليهم في لجنة الامتحان وعلى الساعة التي تلتف حول هذا المعصم نظرات زائغة، مترددة إذا كان من حقها أن تسأل كم الساعة الآن! تتحلى بالشجاعة وتسأل فتجيبها المعلمة لتضع إجابات عشوائية سريعة لتنهي الامتحان وتسلمه للمعلمة سائلة إياها إن كان باستطاعتها المغادرة الآن، تتعجب المعلمة من استعجالها ولكنها في استسلام أمام إصرار الطفلة تسمح لها بالخروج.

تبدأ (زهرة) في طريقها للعودة قاطعة الطريق عدوًا وركضًا كي تلحق بأخيها الذي ينتظرها الآن على باب المنزل، ولكن عند جدول ماء صغير ومن سرعتها ومع كون الحذاء أوسع قليلًا من مقاس قدميها الصغيرتين تقع إحدى فردتي الحذاء في جدول الماء!، يا إلهي أي تعاسة هذه؟ كيف تواجه هذه المسكينة وحدها كل هذا القدر من الحظ السيء بمفردها؟، ألا يستحي الحظ السيء من دموع الصغار!

ألا يخجل من معاندته لهم! تبكي الصغيرة وهي تحاول التقاطه بينما يجرفه تيار الماء بعيدًا، تجري خلفه ولكنه يواصل جريانه مع تيار الماء، تلهث راكضة خلفه دون جدوى فتشعر بخيبة الأمل وضياع حلمها في أن تصل المنزل في موعدها، الآن لا جدوى من وصولها لأخيها في الموعد المحدد إذ لا حذاء من الأساس.

تجلس بالقرب من الجدول ودموعها تجري أسرع من جريان فردة الحذاء مع التيار في جدول الماء، يراها صاحب محل صغير أمام جدول الماء فيجلس إلى جوارها ليسألها ماذا بها، تواصل الصغيرة بكاءها وهي تحكي له كيف سقط حذاؤها حتى استقر تحت الجسر، ينهض الرجل ويأتي بعصًا طويلة يحاول تحريك فردة الحذاء في اتجاهه فينزلق مرة أخرى الحذاء فيجريان خلفه إلى أن يجدهم عامل نظافة يقف في آخر الجدول يطلبان منه انتشال الحذاء بسرعة قبل أن يضيع مرة أخرى, وينجح العامل بالفعل ويعطيه للصغيرة التي تعود أخيرًا لتجد أخيها يقف في فناء المنزل بانتظارها والقلق والغضب كليهما قد نالا منه، يؤنبها ويزجرها برفق وحزن فهو لا ينسى أنه السبب في ضياع حذائها وانتهاء الأمر إلى هذا الوضع المأساوي، تنهمر «زهرة» في البكاء بينما يرتدي حذاءه متسائلًا لماذا هو مبتل هكذا، تخبره غاضبة أنها لن تذهب بهذا الحذاء مرة أخرى إذ أنه واسع عليها، كما أنها تعبت من الركض مسرعة كي تلحق به مما أدى إلى سقوطه بالماء!

انتهت معاناة (زهرة) لتبدأ معاناة (علي) الذي يركض مسرعًا قبل أن يفوته ميعاد المدرسة ولكنه بالفعل يفوته ويدخل مسرعًا كي لا يراه مدير المدرسة، ولكن مرة أخرى -الظروف السيئة- تكون من نصيب الضعفاء و المساكين وحدهم، يراه المدير وهو يتسلل مسرعًا ويقفز على درجات السلم، فيوقفه ويسأله: لماذا أنت متأخر هكذا؟

يجيب (علي) والدموع تملأ عينيه والرعب يملؤ قلبه: إنه وقع  في جدول الماء لهذا تأخر، يتعجب المدير لماذا ثيابك جافة إذن! يتلعثم الولد فيظن المدير أن الولد يكذب، فيأمره أن يخرج من المدرسة ويعود إلى المنزل ليحضر والده، يبكي الطفل -مستعطفًا إياه- والدي في العمل يا أستاذ! يرد المدير إذن أحضره غدًا، يستأذنه الطفل وعلامات البؤس قد أخذت مكانها على وجهه: ولكنه سيكون في العمل غدًا أيضًا أستاذي!

والدتي مريضة ولا تستطيع الخروج، يقرر المدير العفو عنه هذه المرة مشددًا على ألا يكرر ذلك مرة أخرى، يتكرر الأمر ذاته عدة مرات ويتأخر (علي) رغما عنه ولكن يتدخل أحد أساتذته بالاستئذان له وطلب العفو من مدير المدرسة حيث إنه تلميذ مجتهد ومهذب.

ثم تعلن المدرسة عن مسابقة للجري لمسافة معينة، ومن يفوز بها ويحصل على المركز الثالث سيحصل على جائزة «حذاء».

يا الله، يفرح (علي) كثيرا ها هو الحذاء المنتظر يُلّوح له من بعيد، ها هو حلمه يقترب ولا يحتاج منه إلّا بعض الأنفاس، بسيطة، الفقراء أساسًا لا يملكون سوى النفس الطويل، من الآن سيصبح كل همّه هو كيف يحصل على المركز الثالث.

يعود (علي) إلى المنزل تحمله فرحته بحلمه الذي أضحى قريبًا جدًا يكاد يلمسه بيديه، يخبر أخته التي تقابل الخبر بفتور حيث إنها اعتادت خيبة الأمل ولم تعد تثق بلحظات الفرح الماكرة، متسائلة «وما أدراك أنك ستحصل على المركز الثالث؟» فيجيب بثقة سأحصل على المركز الثالث، فتبادره بسؤال آخر، ولكنه سيكون حذاء ولد وليس حذاء لبنت، يجيبها وابتسامته لا تفارقه والحماسة تملؤه، سأبدله بحذاء بنت، إنه أمرُ سهل، يفرحان ويتبادلان اللعب بفقاعات الصابون التي تشبه أفراحهما ما أن تلوح في الأفق حتى تتلاشى.

أي حياة تلك التي يصبح «الحذاء» فيها هو حلم وغاية ليس من الأمر اليسير إدراكها! كيف استطاع هذا الفيلم العبقري أن يصور لنا، لا بل أن يجعلنا نعيش هذا البؤس والشقاء والأسى مع الطفل والطفلة لحظة بلحظة!

يمكنك أن تقرأ الحوار كاملًا من عيون الطفلين ونظراتهما فقط، فقد جربّت أن أشاهد الفيلم بدون ترجمة وبدون صوت ولم أندهش حين وجدتني قادرة على فهم كل كلمة وكل حرف من خلال عيون الأطفال، عيونهم كانت كل شيء، كانت تتحدث حتى في لحظات الصمت، كانت تحكي كل شيء، كل شيء تمامًا.

طوال مشاهدتي للفيلم وأنا أبكي معهم في لحظات بكائهم الكثيرة وأضحك معهم في المرات النادرة التي ضحكوا فيها وأردد بيت الشاعر الفلسطيني توفيق زياد:

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل