المحتوى الرئيسى

السلام الدافئ* (مقالات أعجبتني-10) | المصري اليوم

01/20 01:59

نشرت أمس الجزء الأول من مقال «القاتل.. حبيبنا» لمحمود درويش، ولم تكن لدي رغبة في الاشتباك مع المقال بالتقديم أو التعليق أو التفسير، وعدنما قرأت نصف المقال بعد النشر، سألت نفسي (كقارئ): ماذا أعجبني في هذا المقال لأعيد نشره؟، خاصة أن القضايا المحلية ساخنة وتستوجب الاشتباك معها؟!

لن أشرح ظروف النشر، ولن أخوض في أسباب ابتعادي عن القضايا السياسية المحلية، لأن الأسباب صارت شائعة ومعروفة لأغلبكم، وتتعلق في معظمها بأزمة الحرية التي تعيشها البلاد، لكن هناك أكثر من سبب فني شجعتني على اختيار هذا المقال للنشر، أهمها أنه المقال الأول لشاب في الخامسة والعشرين من عمره، ترأس تحرير مجلة أدبية، تصدر تحت سلطة احتلال غاشمة لبلاده، وفي ذلك الوقت لم يكن أسلوب درويش الفني قد تبلور، واكتمل بالصورة المبهرة التي عرفناه بها في أشعاره بعد سنوات، حتى صار ديوان الشعر والنثر ومتنبي الحداثة وما بعدها، هناك أيضا ملاحظة الانفتاح على العالم بالرغم من صدور المجلة في بلد محتل، وبالرغم من ظروف الاتصال الصعبة عموما في ذلك العصر، لذلك استوقفني اهتمام درويش بالثقافة العالمية، وكان رئيسا لتحرير «مجلة الجديد» عند صدورها، وهذا يعني أن المجلة لم تصدر لموضوع واحد (هو قضية فلسطين) ولم تنكفئ على القضايا الداخلية (كما يحدث لدينا في هذه المرحلة)، النقطة الأخيرة تتعلق بالنظرة الأخلاقية التي قرأ درويش المسرحية من خلالها، والتي أثبت الزمن أنها أقل كثيراً من الأبعاد الرمزية المفتوحة التي يكتسبها العمل الفني مع كل قراءة مهما كان موضوعه، حتى إن المقال الأول في «الجديد» يبدو لي الآن «فاتحة قوس»، أغلقه محمود درويش بعد سنوات طويلة بمقاله البديع عن مأزق فلسطين بعد اتفاق أوسلو، وعبر سنوات المسافة بات واضحا لكل فلسطيني وعربي، كيف صار «القاتل حبيبنا»؟!!.. والآن إلى بقية المقال:

في مقال أمس عرض درويش لمسرحية الكاتب الإنجليزي جون كينجسلي أورتون، المعروف اختصار باسم «جو اورتون»، وعرفنا معه كيف تعرف مستر سلون الغامض على السيدة «كاتي» وأقام معها علاقة، كان والدها الأخلاقي «بابي» يرفضها، كما يرفض السلوكيات المنحرفة لابنه «آدي»، والذي خاصمه بسببها، لكنه اضطر لمصالحته، حتى يتدخل لإنقاذ أخته من «مستر سلون» الذي شاهده منذ فترة بالصدفة وهو يقتل أحد المصورين، لكن جريمة القتل لم تشغل بال «آدي»، بل شغلته الغيرة من علاقة أخته بمستر سلون، لأنه كان شاذاً جنسياً!

رجل أعمال ناجح وساطع.. سيارة فاخرة آخر موديل.. حسابان دسمان في البنك.. ثياب حريرية.. بدلات أنيقة، وكل متطلبات رجال الأعمال في مجتمع راق، وكان «آدي» في بداية القصة، قد غضب على أخته لأنها تتعاطى الحب والجنس مع الشاب الغريب «سلون»، لكنه عندما رأى وسامة الشاب غيّر رأيه، فقرر جس نبضه لكي يتعاطى معه الجنس!.. وبلهجة تهكمية لاذعة يقول المؤلف على لسان أدي لسلون: «أنت تعرف أني أعلّق أهمية كبيرة على الأخلاق!.. لا أريدك أن تلعب مع أختي!»، لكن سلون شاب ذكي «يلقطها على الطاير».. وبعد خمس دقائق يصبح سائقاً لسيارة أدي.. فيرتدي بنطلوناً ضيقاً وقميصاً أبيض ومعطفاً جلدياً، وتتوزع «خدمته» على جبهتين: في النهار «يخدم» الأخ، وفي الليل «يخدم» الأخت.

من هذه الملامح، يتضح لنا مثلث غريب وشاذ: الأخ، الأخت، سلون.. ومن الواضح أن الأب (كما أراد المؤلف) لا مكان له هنا إلا تعكير الجو في هذا «المجتمع الحديث».. خاصة أنه يعرف عن ماضي «سلون» أكثر مما يجب، فقد يبلغ الشرطة ويلقى «سلون» في السجن، و«سلون» طبعاً لا يحب أن يكون في السجن.. و«كاتي» أيضاً لا تريد.. و«آدي» بالطبع لا يريد!. إذن، ما العمل لحماية سلون ومصالح كاتي وآدي من الخوف والمفاجآت؟.. على الأب أن يغادر المسرح.. وهو لن يغادره إذا لم يغادر الحياة!

يقول سلون بسخرية: ليس لي أي شيء ضده، ولكنه عاش كثيراً من السنين إلى درجة أنه أصبح أشبه ما يكون بامرأة عجوز لا رجل... عليه أن يمضي! وفي اتفاق «جنتلماني» مع الابن، يقتل «سلون» الأب، وتجري عملية القتل بحالة نفسية جيدة من القاتل.. وببساطة متناهية أشبه ما تكون بالسادية من المؤلف الذي يطلب من الجمهور أن يضحك بحرية وانطلاق!.. وبموت الأب «يحرر» المؤلف «المجتمع الحديث» من التقاليد والأخلاق والمضايقات!

لاتزال الجثة ساخنة... وهنا يولد سؤال لم يخطر في بال المثلث الغريب: من ينال الميراث الباقي؟ والميراث هو: «القاتل الجميل».. «كاتي» تريده لها وحدها، و«آدي» أخوها يريده له وحده.. والقاتل الجميل (أسيرهما) لا يستطيع أن يقرر من مصيره شيئاً، فأي رفض يبديه، أو أي تخاصم بين الأخ والأخت، يلقيه في السجن. إنه لا يستطيع لا الاختيار ولا الفرار، وكأن المؤلف يقول إن هذه العقوبة أشد من عقوبة السجن العادي، ويجري هذا الحوار بين الأخت والأخ حول الميراث:

كاتي: أنا أعطيته ثلاث وجبات يومياً. ماذا يمكنه أن يطلب أكثر من ذلك؟

كاتي: هو حر عندما يكون عندي.

آدي: الخطوط الزرقاء تحت عينيك تثير اشمئزازه وقرفه!

كاتي: هل هذا صحيح يا سيد سلون؟

سلون: في كثير أو قليل؟!

تقول كاتي إنها ستخبر الشرطة أن والدها سقط عن الدرج.. «هذا يتلاءم ونظرتي الأخلاقية»، ولكنك يا سيد سلون إذا ذهبت مع «آدي» وتركتني فسأخبر الشرطة بالحقيقة.

يقترح سلون حلاً بسيطاً وسهلاً: أن يقطع رقبتها.. يقول ذلك وهو يوجه لها ضربة قاسية، لكن «كاتي» تأخذ نفسها وتقول: «مازلت أنسى وأصفح»! ثم تنهض وتمضي لتغسل الدرج لكي يبدو أملساً، حتى تقتنع الشرطة بأن والدها تزحلق عليه، لكن المسألة المعقدة لم تحل: من يأخذ «سلون»؟ فإن ابني القتيل مولعان بالقاتل!

أخيراً، تتفتق «عبقرية» آدي عن حل مقنع وهو: أن يتقاسم وأخته القاتل الحبيب.. يبقى مع كل طرف ستة أشهر، فتوافق «كاتي» وتطلب السماح له بزيارتها خلال الأشهر الستة التي يكون فيها من نصيب أخيها... ثم يوقعان على الاتفاق.

وقبل أن يسدل ستار الختام، يلخص «آدي» هذا اليوم قائلاً: كان يوماً جميلاً، منذ الصباح!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل